يهدم النظام السوري الأحياء التي كانت تسيطر عليها المعارضة المسلحة في دمشق، تحت ستار إزالة الألغام، لإفساح المجال لـ"سوريا الجديدة"، من تطويرات المباني الجديدة الراقية والحدائق البكر. وقام تحقيق أجرته صحيفة The Guardian البريطانية، ومؤسسة Lighthouse Reports، ومنظمة التحقيقات السورية للصحافة، وراديو روزانا، بتحليل عمليات الهدم شبه الكامل لحي القابون، إحدى ضواحي دمشق، وهو واحدٌ من العديد من الأحياء في العاصمة التي يجري تطهيرها وإعادة تطويرها بشكلٍ تام، بعدما نزح السكَّان السابقون بسبب القتال أو أصبحوا لاجئين في الخارج.
النظام السوري يعيد هندسة الأحياء المحيطة بدمشق بعد مصادرتها من أهلها النازحين
القابون، أحد أحياء دمشق الذي قاوم نظام الأسد منذ سنوات، كان خالياً من الناس، لكنه كان لا يزال قائماً عندما استولت عليه القوات السورية عام 2017. ومنذ ذلك الحين تُظهِر مقاطع الفيديو وصور الأقمار الصناعية التي حصلت عليها صحيفة The Guardian وشركاؤها في التحقيق، أن القابون دَفَعَ ثمناً باهظاً لمقاومته، مع استخدام الجيش السوري أساليب مدمرة للغاية، للقضاء على الحيِّ بأكمله، مبرِّراً تسوية المنازل السكنية بالأرض بأنها عملية لإزالة الألغام.
القابون هو واحدٌ من عدة مناطق في دمشق وسوريا هُدِمَت بعد أن حدِّدَت للمصادرة في إطار بناء الحكومة بعد الحرب، إذ تأمل الحكومة في تشجيع الاستثمار الأجنبي في العقارات.
وتُظهِر الخطط المُقتَرَحة رؤيةً مختلفةً تماماً للقابون عن ذلك الحيِّ العمالي الذي كان قائماً قبل الحرب، والذي لم يتمكَّن سكَّانه من المطالبة بأراضيهم منذ توقف القتال، حتى بينما تخبر الدول الغربية مثل الدنمارك والمملكة المتحدة طالبي اللجوء بأنه من الآمن العودة إلى دمشق.
اتَّهَمَ سكَّانٌ وباحثون سابقون نظام الأسد بإعادة هندسة المنطقة اجتماعياً، بعد أن أصبحت معقلاً للمعارضة خلال الحرب. وقالت مزينة السعدي، وهي من سكَّان القابون السابقين، وتعيش الآن في الدنمارك: "إنه شكلٌ من الانتقام من أهالي القابون، والتأكد من عدم وجود شيء يمكن العودة إليه". وأضافت: "أعتقد أنها رسالة من النظام لأهل القابون: لا يوجد شيء لك هنا".
تقول الغارديان، إن الابن الأكبر للسعدي تعرَّض للتعذيب خلال الاحتجاجات الأولى في القابون، وبحلول الوقت الذي غادرت فيه الأسرة بأكملها في عام 2012، كان هناك قتالٌ عنيف بين قوات النظام والجماعات المسلَّحة، التي تعارض قمع الجيش للاحتجاجات المدنية.
سقطت القابون أخيراً في أيدي النظام، في مايو/أيار 2017، وطرد الجيش آخر السكان المتبقين، ومن بينهم بعض أقارب السعدي، الذين التقطوا صورةً لمنزلها قبل مغادرته، والذي كان لا يزال قائماً عندما سيطرت قوات النظام. وفي سبتمبر/أيلول 2017، أظهرت صور الأقمار الصناعية منزلها وقد هُدِمَ محيطه تماماً.
الأسد يزيل مناطق سكنية بالكامل ويمسح تاريخها
في السنوات الأربع الماضية، أعلن الجيش السوري على حسابه على منصة تويتر ما يقرب من ألف عملية هدمٍ في أنحاء سوريا، تمتدُّ من درعا في الجنوب إلى حلب في الشمال، مبرراً بشكل روتيني ذلك بـ"إزالة العبوات الناسفة التي خلّفتها الجماعات الإرهابية". وتُظهِر صور الأقمار الصناعية ومقاطع الفيديو أن المزيد من عمليات الهدم قد نُفِّذَت.
يساعد الجيش الروسي، الذي يصف تدريبه للمهندسين العسكريين السوريين على أنه "مهمةٌ إنسانية"، على الأرض، في عمليات إزالة الألغام في عدة أحياء بدمشق، بحسب وسائل إعلام رسمية روسية.
ويكشف تحليلٌ لمئات الصور ومقاطع الفيديو ومنشورات القابون على مواقع التواصل الاجتماعي عن نمط من الانفجارات الكبيرة، التي تدمِّر المباني بالكامل، وكثيراً من المناطق المحيطة بها، ما لا يتناسب مع الأهداف الإنسانية المُعلَنة.
ويقول بير هاكون بريفيك، مسؤول إزالة الألغام في مؤسسة المساعدات الشعبية النرويجية: "للأعمال الإنسانية المتعلِّقة بالألغام أنظمة وأهداف ونتائج مختلفة تماماً". وقال إن الأساليب التي تستخدمها القوات السورية يمكن أن تتسبَّب في دفن أيِّ متفجراتٍ غير مُنفجِرة تحت الأنقاض، ما يصعِّب إزالتها.
وقال بريفيك: "لا توجد طرق مختصرة لإزالة الألغام للأغراض الإنسانية. يجب أن تتعامل مع كلِّ عنصر، واحداً تلو الآخر". وأضاف: "إذا هدمت المبنى في التو والحال فهذا لا يعني أن جميع المتفجرات ستنفجر، هذا النمط نموذجي لعمليات الهدم العسكرية، لكن هذه مناطق سكنية، لذا لا ينبغي أن تكون ضمن التفويض العسكري".
كان أحد المباني المهدمة عبارة عن مشروعٍ سكني عسكري غير مكتمل، يُعرف باسم مبنى الأوقاف، في أواخر عام 2018. يُظهِر مقطع فيديو نُشِرَ على الإنترنت أفراداً من الجيش يشاهدون سحابة الدخان الهائلة التي اجتاحت كلَّ شيء حول المبنى.
وتُظهِر صور الأقمار الصناعية أنه في الأسابيع التالية هُدِمَ كلُّ شيء في دائرة نصف قطرها 500 متر من المبنى، بما في ذلك مدرسة. وسوف تُشيَّد في المكان نفسه عقاراتٌ استثمارية، وفقاً لمخطّطٍ رسمي اطَّلَعَت عليه صحيفة The Guardian وشركاؤها في التحقيق.
النظام السوري استخدم الحرب لإعادة هيكلة دمشق
تقول سارة كيالي، الباحثة الأولى في الشؤون السورية في منظمة هيومن رايتس ووتش، إن عمليات الهدم يحتمل أن تكون جرائم حرب، لأنه لم يكن هناك عداء نشط أو هدف عسكري في المنطقة بعد استعادتها.
خلال الحرب، قدمت سوريا تشريعات سمحت للنظام بمصادرة الأراضي والبناء عليها باستثمارات أجنبية، وغالباً ما جرَّد السكان من أراضيهم بسبب الشروط المفروضة عليهم للمطالبة بالملكية، مثل الاضطرار إلى العودة إلى سوريا لتقديم المطالبة شخصياً.
هُدِمَ حيُّ القابون بموجب أحد هذه القوانين التي مُرِّرَت في 2015، ما يسمح للسلطات بإعادة ترسيم الحدود في أوقات الحرب والكوارث الأخرى، والمطالبة بأراضي المستوطنات غير الرسمية.
تاريخياً، كان سكان القابون يعيشون في مستوطنات عشوائية إلى حد كبير، يعملون في المتاجر والشركات الصغيرة والعمل اليدوي. تتمثَّل رؤية نظام الأسد للقابون في حي أكثر فخامة من الأبراج الشاهقة والمساحات الخضراء المنسقة بعناية، بالقرب من وسط المدينة، ولكنها متصلة أيضاً بالمدن الأخرى.
تُعَدُّ مخطَّطات القابون جزءاً من رؤية النظام الأوسع لدمشق، لعاصمة تجارية بها تطورات عمرانية جديدة مبنية على مناطق عشوائية سابقة، ومناطق صناعية وأراض زراعية. كان المشروع الرئيسي هو ماروتا سيتي، وهو حيٌّ من الأبراج الشاهقة المتلألئة والحدائق البكر المخطط لها في بساتين الرازي، وهي ضاحيةٌ عشوائية كانت مركزاً للمعارضة.
يقول الباحث جوزيف ضاهر إن النظام السوري استخدم الحرب لدفع الخطط الحالية لإعادة هيكلة دمشق، وجلب رأس المال من المستثمرين ومكافأة شبكته الخاصة. ويضيف للغارديان: "تُستخدم الحرب لتعميق السياسات الليبرالية الجديدة وإجراءات التقشف، فضلاً عن تنفيذ مخطَّطاتٍ لا يمكن القيام بها في فترةٍ لم تكن حرباً أو أزمة". وأضاف: "إنهم يستخدمون الحرب لطرح هذا النوع من المشاريع التي كانت تواجه الكثير من المعارضة قبل عام 2011".
يقول ضاهر إنه رغم الخطط التي وضعتها الحكومة، وعمليات الهدم التي نفَّذتها بالفعل، فإنه كان هناك القليل من البناء الفعلي بسبب نقص الأموال وانعدام الأمن المستمر.