خلال العقود الماضية، قزَّمَ عمالقة الحرب الباردة من القنبلة الذرية الأمريكية التي دمَّرَت هيروشيما من حيث القوة التدميرية، حيث كان أكبر انفجار تجريبي لواشنطن أكبر بألف مرة، وكان في موسكو أكبر بثلاثة آلاف مرة. على كلا الجانبين، كانت الفكرة من هذه التجارب، هي ردع الضربات بالتهديدات بالانتقام الواسع بالتدمير المتبادل المؤكد، وكان العائق النفسي مرتفعاً خلال الحرب الباردة، لدرجة أن الضربات النووية أصبحت تُعتبر غير واردة.
اليوم، تمتلك كلٌّ من روسيا والولايات المتحدة العديد من "الأسلحة النووية التكتيكية" الأقل تدميراً بكثير من قوة قنبلة هيروشيما، وربما يكون استخدامها "أقل إثارةً للخوف وأكثر قابليةً للفهم"، كما تقول صحيفة New York Times الأمريكية. فما قصة هذه "الأسلحة النووية الصغيرة"؟ وهل يمكن أن تحول أوكرانيا الآن إلى منطقة حرب نووية من نوع آخر؟
ما هي "الأسلحة النووية الصغيرة" وهل يتم استخدامها في أوكرانيا؟
يتصاعد السباق العالمي على الأسلحة الصغيرة، ورغم أن هذه الأسلحة أقل تدميراً وفقاً لمعايير الحرب الباردة، تُظهِر التقديرات الحديثة أنها ما يعادل نصف قنبلة هيروشيما، إذا انفجرت في وسط مانهاتن، ستقتل أو تصيب نصف مليون شخص.
الحجة ضد هذه الأسلحة أنها تقوّض المحرمات النووية وتجعل حالات الأزمات أخطر. ويقول النقَّاد إن طبيعتها الأقل تدميراً يمكن أن تغذي الوهم بالتحكم الذري، في حين أن استخدامها في الواقع يمكن أن يتحول فجأة إلى حرب نووية شاملة.
وبحسب نيويورك تايمز، بدأت محاكاةٌ ابتكرها خبراء في جامعة برينستون بإطلاق موسكو طلقة تحذير نووية، ثم يرد الناتو بضربةٍ صغيرة، والحرب التي تلت ذلك أسفرت عن أكثر من 90 مليون ضحية في ساعاتها القليلة الأولى.
لا توجد معاهدات تنظم الرؤوس الحربية الأصغر، والتي تُعرف أحياناً بالأسلحة النووية التكتيكية أو غير الاستراتيجية، لذا فإن القوى النووية العظمى تصنع وتنشر ما تشاء.
وتصاعد القلق بشأن هذه "الأسلحة النووية الصغيرة" عندما حذر فلاديمير بوتين، في الهجوم على أوكرانيا من قوته النووية، ووضع قواته الذرية في حالة تأهب، وجعل جيشه ينفِّذ هجماتٍ محفوفة بالمخاطر على محطات الطاقة النووية. الخوف أنه إذا شعر بوتين بأنه محاصرٌ في الصراع، فقد يختار تفجير إحدى أذرعه النووية الأقل، مِمَّا يَعُدُّ كسراً للمحرَّمات التي وُضِعَت قبل 76 عاماً، بعد كارثتي هيروشيما وناغازاكي اللتين تسببت بهما الولايات المتحدة الأمريكية.
يشير محلِّلون إلى أن القوات الروسية مارست منذ فترة طويلة الانتقال من الحرب التقليدية إلى الحرب النووية، خاصة كوسيلة لكسب اليد العليا بعد الخسائر في ساحة المعركة. ويرون أن الجيش، الذي يمتلك أكبر ترسانة نووية في العالم، قد استكشف مجموعةً متنوعةً من الخيارات التصعيدية التي قد يختار بوتين من بينها.
وخلال حضوره قمة الناتو في بروكسل هذا الأسبوع لمناقشة الهجوم الروسي على أوكرانيا، تضمنت أجندة الرئيس الأمريكي جو بايدن، كيف سيرد الحلف إذا استخدمت روسيا أسلحة كيميائية أو بيولوجية أو إلكترونية أو نووية في أوكرانيا.
"بوتين يستخدم الردع النووي ليشق طريقه في أوكرانيا"
يقول جيمس كلابر جونيور، وهو جنرال متقاعد بالقوات الجوية شغل منصب مدير المخابرات الوطنية في عهد الرئيس باراك أوباما، إن موسكو خفضت نطاق استخدام الأسلحة النووية بعد الحرب الباردة عندما سقط الجيش الروسي في حالة من الفوضى. وأضاف أن روسيا تعتبر اليوم الأسلحة النووية نفعية وليست أمراً غير قابل للتصوُّر.
وقال كلابر لصحيفة "نيويورك تايمز" عن مخاطرة القوات الروسية بانبعاث إشعاعي في وقت سابق من هذا الشهر عندما هاجمت موقع مفاعل زاباروجيا النووي -وهو الأكبر ليس فقط في أوكرانيا ولكن في أوروبا: بالنسبة لروسيا، لاحظ المحللون العسكريون أن العروض الحادة للأسلحة الأقل تدميراً قد سمحت لبوتين بتلميع سمعته في سياسة حافة الهاوية المميتة وتوسيع نطاق التخويف الذي يحتاجه لخوض حرب تقليدية دموية.
تقول نينا تانينوالد، أستاذة العلوم السياسية في جامعة براون الأمريكية، إن "بوتين يستخدم الردع النووي ليشق طريقه في أوكرانيا". وأضافت أن "أسلحته النووية تمنع الغرب من التدخُّل".
اليوم، ربما تمتلك روسيا ألفيّ رأس حربي من الأسلحة النووية الصغيرة أو التكتيكية، وفقاً لهانس كريستنسن، مدير مشروع المعلومات النووية في اتحاد العلماء الأمريكيين، وهو مجموعة خاصة في واشنطن. ولدى الولايات المتحدة ما يقرب من 100 في أوروبا، وهو عدد محدود بسبب الخلافات السياسية الداخلية والتعقيدات السياسية المتمثلة في نصب هذه الأسلحة في دول حلف الناتو، التي غالباً ما يقاوم سكانها ويحتجون على وجود هذه الأسلحة.
موسكو نشرت بطاريات صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية في محيط أوكرانيا
بالتزامن مع استراتيجيتها الهجومية الجديدة، شرعت روسيا في تحديث قواتها النووية، بما في ذلك أسلحتها الأقل تدميراً. كما هو الحال في الغرب، أعطيت بعض الرؤوس الحربية نواتج متفجرة متغيرة يمكن رفعها أو خفضها حسب الوضع العسكري.
كان محور الترسانة الجديدة هو إسكندر-إم، الذي نُشِرَ لأول مرة في عام 2005. يمكن للقاذفة المتنقلة إطلاق صاروخين يسافران لمسافة 300 ميل تقريباً. ويمكن للصواريخ أن تحمل رؤوساً حربية تقليدية ورؤوساً نووية. وتشير الأرقام الروسية إلى أن أقل انفجار نووي من تلك الصواريخ يعادل ثلث انفجار قنبلة هيروشيما.
وقبل الهجوم الروسي على أوكرانيا، أظهرت صور الأقمار الصناعية أن موسكو نشرت بطاريات صواريخ إسكندر في بيلاروسيا وشرقها في الأراضي الروسية. ولا توجد بيانات عامة حول ما إذا كانت روسيا قد سلَّحت أياً من صواريخ إسكندر برؤوسٍ نووية. .
قال نيكولاي سوكوف، الدبلوماسي الروسي السابق الذي تفاوض على معاهدات الحدِّ من التسلُّح في العهد السوفييتي، إنه يمكن أيضاً وضع رؤوس حربية نووية على صواريخ كروز. والأسلحة التي تحلق على ارتفاع منخفض، التي تُطلَق من الطائرات أو السفن أو الأرض، تعانق التضاريس المحلية لتجنب اكتشافها بواسطة رادار العدو. وأضاف أنه من داخل الأراضي الروسية "يمكنهم الوصول إلى كل أوروبا"، بما في ذلك بريطانيا.
لدى أمريكا ما لدى روسيا من "الأسلحة النووية التكتيكية"
في عام 2010، قرَّرَ أوباما، الذي دافع منذ فترة طويلة عن "عالم خالٍ من الأسلحة النووية"، تجديد أسلحة الناتو وتحسينها، وتحويلها إلى "قنابل ذكية بزعانف قابلة للمناورة تجعل استهدافها دقيقاً للغاية". وهذا بدوره أعطى مخططي الحرب حرية خفض القوة المتفجرة المتغيرة للأسلحة إلى أقل من 2% من تلك الموجودة في قنبلة هيروشيما.
ولقد حذَّر الجنرال جيمس كارترايت، نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة في عهد أوباما، في ذلك الوقت، من أن القدرة على الانفجار المنخفضة جعلت كسر المحرَّمات النووية "أكثر قابليةً للتصوُّر". ومع ذلك فقد أيد البرنامج لأن الدرجة العالية من الدقة قللت من مخاطر الأضرار الجانبية وسقوط ضحايا من المدنيين. ولكن بعد سنوات من التأخير في التمويل والتصنيع، من غير المتوقع نشر القنبلة، والمعروفة بعد تجديدها باسم بي 61 نموذج 12، في أوروبا حتى العام المقبل، مثلما جاء على لسان كريستنسن.
دفعت التعزيزات الروسية المطردة وردود الفعل الأمريكية البطيئة إدارة ترامب إلى اقتراح رأس حربي صاروخي جديد في عام 2018. وكان يُنظر إلى قوته التدميرية على أنها نصف قوة قنبلة هيروشيما تقريباً، وفقاً لكريستنسن. وكان من المقرَّر نشره على أسطول البلاد المكون من 14 غواصة للصواريخ الباليستية.
وفي حين حذَّرَ بعض الخبراء من أن القنبلة، المعروفة باسم دابليو 76 نموذج 2، يمكن أن تجعل الأمر أكثر إغراءً لرئيس أن يُأمَر بضربة نووية، جادلت إدارة ترامب بأن السلاح سيقلِّل من مخاطر الحرب من خلال ضمان أن تواجه روسيا التهديد بضرباتٍ مضادة. ونُشِرَت القنبلة في أواخر عام 2019.
وقال فرانكلين ميللر، الخبير النووي الذي دعم الرأس الحربي الجديد، وقبل ترك منصبه العام في 2005 شغل مناصب البنتاغون والبيت الأبيض لمدة ثلاثة عقود: "الأمر كله يتعلق بعلم النفس- علم النفس القاتل". وأضاف: "إذا كان خصمك يعتقد أن لديه ميزة في ساحة المعركة، فحاول إقناعه بأنه مخطئ".
وعندما كان مرشحاً للرئاسة، وصف جو بايدن الرأس الحربي الأقل قوة بأنه "فكرة سيئة" من شأنها أن تجعل الرؤساء "أكثر ميلاً" لاستخدامه. لكن كريستنسن قال إن إدارة بايدن يبدو من غير المُرجَّح أن تزيل الرأس الحربي الجديد من غواصات البلاد.
كيف سترد أمريكا على روسيا إذا قررت استخدام أسلحة نووية تكتيكية في أوكرانيا؟
يقول الخبراء لصحيفة نيويورك تايمز، إنه من غير الواضح كيف سيرد بايدن على استخدام بوتين لسلاح نووي، إذ تُعَدُّ خطط الحرب النووية هي واحدة من أسرار واشنطن الراسخة. يقول الخبراء إن خطط القتال الحربي بشكلٍ عام تنتقل من الطلقات التحذيرية إلى الضربات الفردية إلى عمليات الانتقام المتعدِّدة، وإن السؤال الأصعب هو ما إذا كانت هناك طرق موثوقة لمنع تصعيد الصراع.
حتى كلابر، المدير السابق للاستخبارات الوطنية، قال إنه غير متأكد من كيفية تقديمه المشورة إلى بايدن إذا أطلق بوتين العنان لأسلحته النووية.
يقول الخبراء إن رد الولايات المتحدة على انفجار روسي صغير قد يكون إطلاق أحد الرؤوس الحربية الجديدة التي أطلقتها الغواصات في براري سيبيريا أو في قاعدة عسكرية داخل روسيا. وقال ميلر، المسؤول النووي الحكومي السابق والرئيس السابق للجنة السياسة النووية لحلف الناتو، إن مثل هذا الانفجار سيكون وسيلة لإبلاغ موسكو بأن "هذا أمر خطير، وأن الأمور تخرج عن السيطرة".
ويقول الاستراتيجيون العسكريون إن الردَّ المتبادل من شأنه أن يلقي مسؤولية مزيد من التصعيد على روسيا، مِمَّا يجعل موسكو تشعر بثقلها المشؤوم ويمنع الوضع بشكلٍ مثالي من الخروج عن السيطرة على الرغم من مخاطر الحرب من سوء التقدير والحوادث.
في سيناريو أكثر قتامة، قد يلجأ بوتين إلى استخدام الأسلحة الذرية إذا امتدَّ الهجوم على أوكرانيا إلى دول الناتو المجاورة. وجميع أعضاء الناتو، بما في ذلك الولايات المتحدة، ملزمون بالدفاع عن بعضهم البعض- ربما بوابل من الرؤوس الحربية النووية!