يُعد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) من أبرز المراكز الأمريكية المختصة بدراسات الأمن الدولي، وسبق أن عمل به مستشار الأمن القومي الأمريكي الراحل بريجنسكي، وكذلك وزير الخارجية الأشهر في تاريخ الولايات المتحدة هنري كيسنغر.
خلال فبراير/شباط الماضي نشر المركز قبيل ساعات من اندلاع الحرب في أوكرانيا الكتاب الثالث من سلسلة كتب تناول فيها الشأن الروسي تحت عنوان "دليل الكرملين"، وخصص للكتاب الأخير عنواناً جانبياً هو "الحفاظ على الإيمان".
يعزو مؤلفو الكتاب دوافع تأليفه إلى أنه في ظل التغيير المجتمعي الناجم عن التحولات الاقتصادية والعولمة وضغوط الهجرة والتحولات الديموغرافية واختلاف الأجيال والتغيرات الأوسع في الأعراف والهوية، فقد تنامى القلق المجتمعي المرتبط بتلك التحولات السريعة، مما أدى لتأجيج الانقسامات المجتمعية وإشعال حروب ثقافية في المجتمعات الغربية، وبالتالي اهتم الكتاب بدراسة كيفية توظيف الكرملين للعقيدة الأرثوذكسية والقيم التقليدية في بناء نظام دولي يبتعد عن الغرب ويتجه نحو موسكو ثقافياً وروحياً وأيديولوجياً، وذلك بالتزامن مع تكريس الانقسامات المجتمعية في الغرب لا سيما التوترات العرقية والإثنية.
النزعة المحافظة الروسية في مواجهة القيم الغربية
المحافظة هي فلسفة سياسية تقوم على احترام التقاليد والمؤسسات القائمة، ودعم الاستقرار الاجتماعي، وتفضل التطور التدريجي على التغيير المفاجئ. تتجلى النزعة المحافظة لدى الروس في احترام التسلسل الهرمي لنظام الحكم والمؤسسات الدينية، وتقديم المصالح الجماعية على الحقوق والمصالح الفردية، فاستطلاعات الرأي تظهر أن 53% من الروس يحترمون مؤسسات الدولة وقوانينها ويعتبرونها عنصراً أساسياً من عناصر الانتماء للأمة الروسية، كما يرى 59% منهم أن النساء يتحملن مسؤولية تجاه المجتمع لإنجاب الأطفال، فيما يوجد رفض مجتمعي لظاهرة الشذوذ الجنسي وزواج المثليين، ويُنظر لها باعتبارها ظواهر غربية منحلة تهدد الإيمان الأرثوذكسي والقيم المسيحية، وتجعل الأفراد أكثر عرضة للتلاعب وصولاً إلى توظيفهم لخدمة المصالح الغربية.
الكنيسة الروسية والعالم الأرثوذكسي
ينقسم العالم الأرثوذكسي المتكون من 300 مليون نسمة إلى 14 كنيسة مستقلة تعترف ببعضها البعض بشكل متبادل. ويُعد بطريرك القسطنطينية المقيم في تركيا بمثابة الأب الروحي للأرثوذكس، ولكن بطريركية موسكو من جانبها تعتبر أن بطريركية القسطنطينية وقعت أسيرة في يد العثمانيين منذ القرن الخامس عشر الميلادي ثم بيد الأتراك بعد تأسيس أتاتورك للجمهورية التركية.
وبالتالي تنظر بطريركية موسكو لنظيرتها بالقسطنطينية على أنها أكثر عرضة لقبول الضغوط الأمريكية في مقابل حصولها على وعود بالحماية من واشنطن ضد السياسات التركية. وقد تحولت العلاقة بين البطريركيتين إلى قطيعة إثر قطع بطريركية موسكو لعلاقتها من جانب واحد مع بطريركية القسطنطينية بعد أن قررت الأخيرة الاعتراف بالكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا ككنيسة مستقلة في يناير/كانون الثاني 2019 بناءً على طلب الحكومة الأوكرانية وبعض الأبرشيات الأرثوذكسية الأوكرانية، وذلك رغم تبعية كنيسة أوكرانيا في الأصل لبطريركية موسكو التي تعتبر نفسها الوريث الحقيقي والشرعي للأرثوذكسية.
في الداخل الروسي، كرَّس الدستور الروسي المصاغ في عام 1993 الفصل الرسمي بين الكنيسة والدولة بعد عقود من القمع وسيطرة الدولة على الدين في الاتحاد السوفييتي، وتركزت أولويات الكنيسة في حقبة التسعينيات من القرن العشرين على إعادة بناء الكنائس والمؤسسات والرموز الدينية، وهو ما أفاد في إعادة إنشاء الهوية الروسية، وإضفاء الشرعية على دولة ما بعد الاتحاد السوفييتي. وضمن التعديلات الدستورية في روسيا عام 2020 أُشير للإيمان بالله في فقرة بالدستور نصت على أن "الاتحاد الروسي وثيق الصلة بتاريخ يمتد لألف عام، وسيحافظ على ذكرى الأسلاف الذين نقلوا إليه المُثل العليا والإيمان بالله".
على أرض الواقع يمثل الأرثوذكس نحو 71% من سكان روسيا الذين يتكونون أكثر من 170 مجموعة عرقية وقومية، لكن 6% منهم فقط يذهبون إلى الكنيسة كل أسبوع، وهو ما يوضح أن الانتماء الديني الأرثوذكسي للروس انتماء حضاري وهوياتي أكثر من كونه التزاماً بالتعاليم الدينية.
التأثير الديني الروسي في أوروبا
تعد الكنيسة الروسية منصة مهمة للتواصل مع الشعوب السلافية التي تنتمي إلى الحضارة الأرثوذكسية، إذ تساعد الكنيسة الروسية في ربط المعايير الثقافية بالقيم الدينية، مما يعمق في المحصلة نفوذ موسكو التي يُنظر لها على أنها قادرة على إنقاذ الحضارة البيضاء من التفسخ الأخلاقي والانهيار القيمي والانحطاط الحضاري الغربي فضلاً عن دورها في معارضة الأحادية الأمريكية.
على المستوى الديني يداعب الكرملين مشاعر الأرثوذكس، وتقدم روسيا نفسها على أنها الحامية لهم من التهديدات، وهو ما صرح به وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف قائلاً "إن روسيا ستدافع دائماً عن مصالح الكنائس الأرثوذكسية". عملياً شارك 500 متطوع روسي إلى جانب الوحدات شبه العسكرية لصرب البوسنة في حروب البلقان في تسعينات القرن الماضي، كما دعمت الكنيسة الروسية تدخل موسكو في سوريا بذريعة أن من شأنه إنقاذ المسيحيين الأرثوذكس من تهديدات تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
وفي ضوء ذلك يظهر استطلاع للرأي في عام 2017 أن 80% من الصرب يرون أن وجود روسيا القوية أمر ضروري لموازنة نفوذ الغرب، بل شارك متطوعون صرب في القتال في شرق أوكرانيا عام 2014. وفي ظل تلك الصلات نجد أن السياسة الخارجية لروسيا في صربيا والبوسنة تركز على ترويج سردية مناهضة لحلف الناتو، وتشجع على عدم الانضمام له، مع تعزيز النظر لروسيا باعتبارها الحليف الحقيقي الوحيد للصرب والمسيحيين الأرثوذكس في البلقان.
أما اللافت فهو علاقة الكرملين باليمين الفرنسي المتطرف ذي الجذور الكاثوليكية المحافظة، إذ توجد عوامل مشتركة تنبع من تأكيد اليمين الفرنسي على الحاجة إلى حماية فرنسا من التعددية الثقافية والهجرة، وربط ذلك بخيارات قومية مثل معارضة الاتحاد الأوروبي والترويج للوطنية الفرنسية، والعناية بالقيم التقليدية مثل قيمة الأسرة والزواج بين رجل وامرأة، فيما ينظر إلى روسيا باعتبارها المدافع عن المسيحيين الشرقيين في الشرق الأوسط ضد انتشار الأسلمة.
ولذا نجد أن ماري لوبان زعيمة اليمين الفرنسي زارت روسيا عدة مرات، وقابلت بوتين، فيما قاتل العديد من اليمينيين الفرنسيين في دونباس بأوكرانيا بجوار الروس قبل أن ينتقلوا لاحقاً للقتال بجوار البشمركة الكردية في العراق ضد تنظيم الدولة "داعش". كما نجد أن من بين عشرة نواب فرنسيين زاروا شبه جزيرة القرم في عام 2015 بعد ضم روسيا لها، زار خمسة منهم سوريا في عامي 2015 و2016، وكذلك فإن ثلث أعضاء مجموعة الصداقة الفرنسية السورية في الجمعية الوطنية الفرنسية هم أيضاً أعضاء في مجموعة الصداقة الفرنسية الروسية، ويرتفع هذا التداخل إلى النصف في مجموعات مجلس الشيوخ الفرنسي.
وكذلك يستعرض الجزء الثالث من كتاب "دليل الكرملين" التداخل بين أنشطة الكنيسة الروسية والكرملين في صربيا وجورجيا وأوكرانيا واليونان، وشبكات رجال الأعمال المنخرطين في تمويل الأنشطة الكنسية، ولكنه يخلص إلى أن التركيز على الدين والقيم التقليدية يؤدي إلى خلق نقاط ضعف لموسكو في ظل صعوبة الدمج بينها وبين الحفاظ على المتطلبات الدستورية لدولة روسية متعددة الأعراق والطوائف، فضلاً عن تسبب السياسات الروسية في إحداث انقسامات ومشاكل في المؤسسات الدينية الأرثوذكسية مثلما حدث بين بطريركيتي موسكو والقسطنطينية حول الاعتراف باستقلال كنيسة أوكرانيا.
وفي المحصلة يقدم الكتاب رؤية مفيدة لأحد أبعاد الصراع الروسي الغربي توضح عدم اقتصاره على المصالح الجيوسياسية ووجود اختلافات قيمية وحضارية ودينية تعمل على تعميقه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.