أوروبا التي نراها في خيالنا جميعاً دولاً مزدهرة وفق أحدث معايير التّكنولوجيا ينعم مواطنوها بحقوق كاملة وعيش رغيد.
عندما يرد ذكر أوروبا يتبادر إلى أذهاننا أسماء دول عريقة الحضارة والنّفوذ مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، ولكن ماذا إذا قلنا مقدونيا الشمالية، سلوفينيا، ألبانيا مثلاً؟
نحتاج إلى وقت وخارطة حتى نتعرّف على هذه البلدان.
ويزداد تعجّبنا حين نزور هذه البلاد باذخة الخضرة والغابات الممتدّة على سفوح الجبال، لكنّ أغلبها متواضعة -بل فقيرة- البنية التّحتية والاقتصاد والتّطوّر.
كل هذا يتوارد في الذهن حين ترد لفظة "البلقان"، الاسم الذي ربّما لم ينتشر استعماله عربياً إلا في تسعينيات القرن الماضي، ولكنّه على المستوى العالمي معروف منذ فترة بعيدة، أو بالأحرى معروف باللقب الشّائع الذي يتبعه "برميل بارود أوروبا"، شاع استخدام هذا الوصف منذ أوائل القرن العشرين، كإشارة إلى وضع المنطقة الملتهب الذي أدّى لتفجّر الحرب العالمية الأولى.
برميل البارود
وضع "برميل البارود" يعود للواجهة بقوّة أيّامنا هذه، فقد أصبحت البلقان وجمهوريات يوغوسلافيا السّابقة خصوصاً ساحة مواجهة.
في فبراير/شباط ٢٠١٥ صرّح وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري في أن "خط النار" ما بين الغرب وروسيا يمتد من مولدوفا إلى الجبل الأسود، مروراً بـ"سكوبي" في مقدونيا و"بريشتنا" في كوسوفو.
وبدا واضحاً بالنسبة للمراقبين أن هذه التصريحات السياسية الحادة تعتبر دول البلقان في مرمى النيران عندما يتعلق الأمر بالعلاقات بين واشنطن العاصمة وموسكو بشأن أزمة أوكرانيا.
عوامل كثيرة مهّدت لتحويل المنطقة المكوّنة من شبه جزيرة تقع في الطّرف الجنوب شرقي لأوروبا إلى ساحة معارك شرسة منذ قرون: موقع جغرافي متوسّط بين روما عاصمة الكاثوليكية، والقسطنطينية عاصمة الكنيسة الأرثوذوكسية ثمّ الدّولة العثمانية الإسلاميّة فيما بعد، ما أدّى لتناقضات دينية وثقافية جعلت من البلقان بؤرة لحروب طاحنة دموية لا منتهية بين السكّان.
الدول الكبرى حاولت ولا تزال الاستفادة من هذه الصراعات على أساس مبدأ "فرِّق تسُد" لزيادة نفوذها في المنطقة.
أهمية شبه جزيرة البلقان كمنطقة تقع على خطوط الصّدع تزداد عندما عندما تتصادم المصالح، وعندما تقف أوروبا في وجه قوّة منافسة في الجنوب الشرقي (الدّولة العثمانية في الماضي) أو في الشمال الشرقي (روسيا).
على سبيل المثال، أثناء الحرب الباردة ساد ميزان قوى في المنطقة ولكنّ انهيار نظام ثنائية القطب غيّر المشهد السّياسي بشكل جذري، واختلّ معه التّوازن والاستقرار النّسبي، وفي نهاية المطاف تقسّمت إحدى أكبر دول البلقان يوغوسلافيا السّابقة لدويلات صغيرة، ورمزاً لهذه الظاهرة التي اشتقّ من اسم البلقان المصطلح المعبّر عنها "البلقنة" كما يخبرنا قاموس "بريتانيكا".
في العقد الماضي عكس الوضع في البلقان تخبط السياسة الخارجية الأمريكية بشأن أوروبا وحلف الناتو، وتراجع قدرة دول الاتحاد الأوروبي على اتخاذ مبادرات جدية يمكنها إقناع القوى المتصارعة بأهمية المحافظة على السلم والاستقرار، وتفاقم الوضع بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي تزامن مع انتعاش الأفكار القومية والشعبوية المتطرفة، بفعل تراجع وهج وبريق الأفكار المتعلقة بالوحدة الأوروبية.
جاء هذا في وقت تحاول روسيا فيه استعادة نفوذها القويّ في المنطقة الذي كان لها أيّام الإمبراطورية القيصريّة عبر ممارسة دور أبوي تجاه البلدان البلقانية السلافية التي تدين بالأرثوذكسية، وهي: رومانيا وبلغاريا وصربيا ومقدونيا واليونان، بالرغم من انضمام بعضها إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي.
تستخدم موسكو نفوذها لعرقلة تقدم تلك البلدان باتّجاه النّموذج الغربي، والحفاظ على روابطها الاقتصادية والسياسية، وفي نهاية المطاف تعزيز أهميتها الجغرافية الاستراتيجية.
قوى كبرى ودول إقليمية تنافس الولايات المتحدة
التوترات الجارية في البلقان لها ارتباطات بالوضع الأوسع للنظام الدولي، والتوترات الموجودة بين روسيا والولايات المتحدة ومن خلفها الاتّحاد الأوروبي والأزمة الجارية في أوكرانيا، إذ تحاول كافة الأطراف استخدام كافة أوراقها على كامل حلبة المنافسة الدولية.
"أمريكا ستفعل كل شيء، وستساعدك، بكل الطرق، في جهودك لتصبح جزءا من أوروبا. لا يوجد حد لمقدار تلك المساعدة ".
كانت هذه كلمات كولن باول الموجهة إلى صربيا والجبل الأسود في ٢ أبريل/نيسان ٢٠٠٣، وتبدو هذه العبارات ملخّصاً للاستراتيجية الأمريكية القائمة على هدف أن يتم دمج البلقان بأكملها في الاتحاد الأوروبي أو حلف "الناتو"، الأمر الذي يصب في مصلحة أمريكا، ولذا يعتقد البعض أنّ لولا دور واشنطن في المنطقة في السنوات الأخيرة، لما أصبحت كرواتيا عضوا في الاتحاد الأوروبي، ولن تكون دول غرب البلقان بأكملها باستثناء صربيا والبوسنة والهرسك في الناتو اليوم.
سياسة الولايات المتحدة في المنطقة تنطلق من رؤية شاملة واستراتيجية واسعة قوامها أن البلقان ميدان مهم لوقف عودة روسيا بقوّة إلى المنطقة وكذلك توسّع نفوذ الصّين ومبادرة الحزام والطّريق.
دخلت الولايات المتّحدة دائرة النّفوذ المهيمن في المنطقة مع تدخّلها الديبلوماسي ثمّ العسكري عبر حلف الناتو أثناء العدوان الصّربي على البوسنة والهرسك (٩٢-٩٥) ثمّ حرب كوسوفو (٩٨-٩٩)، لكنّ نفوذها تراجع تدريجياً لصالح منح الاتحاد الأوروبي مزيداً من الصّلاحيات، خصوصاً أنّ هناك اعتراضات متعدّدة داخل الكونغرس على أساس إيمانهم بأن الاستقرار في البلقان هو في نهاية المطاف مصدر قلق لأوروبا وليس الولايات المتحدة حسب مجلة "Smallwars" الأمريكية.
أهداف الاتحاد الأوروبي
سعى الاتحاد الأوروبي إلى ضم دول البلقان إلى صفوفه بعد انهيار المعسكر الاشتراكي بسبب عوامل عدة: رغبة قادة الاتحاد الأوروبي في توسيع الاتّحاد، وبالنظر إلى أن الحركة باتجاه الشرق مقيدة ومحدودة من قِبل روسيا، تم توجيه توسع الاتحاد الأوروبي إلى الجنوب الشرقي. ويُلاحظ هنا التكامل الوثيق بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وفقاً للمخطط الذي تم وضعه بالفعل، يتم أولاً قبول الأعضاء الجدد في الناتو، وبعد ذلك وبمجرد خضوعهم لسلسلة من الإجراءات وتنفيذ إصلاحات مهمة في السياسة الداخلية يتم دعوتهم للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
ولا ننسى العامل الاقتصادي إذ تعد المنطقة سوقاً إضافية تضم ٤٠ مليون شخص، وأهم طرق الطاقة تمر عبر البلقان.
ومع تصاعد حدة أزمة اللجوء إلى أوروبا في ٢٠١٥ طمع الاتحاد الأوروبي بشدة أن يمنحها دور "منطقة انتظار المهاجرين" أي تقليل التدفق نحو مركز القارة الأوروبية الذي توجد به الدول الغنية، ما يعني إلقاء العبء على كاهل البلقان.
لكن بحلول عام ٢٠١٩، بينما كان الاتحاد الأوروبي يكافح مع مشكلاته وانقساماته الخاصة، أصبح من الواضح أن فرص الانضمام تراجعت، الأمر الذي سمح لروسيا والصّين باستغلال الأمر لملء الفراغ، وتصاعدت القومية والشعبوية .
أين روسيا؟
لم تغب روسيا أبداً عن مشهد التّأثير في البلقان على مدى السّنين، خصوصاً مع وجود حليف تاريخي مثل صربيا. تعتبر روسيا أيضا فريدة من نوعها من حيث استخدامها لأدواتها المتنوّعة من قوة عسكرية صارمة، والأدوات الاقتصادية، وعناصر ما يعرف بـ"القوة الحادة" أي استخدام التّلاعب والتّضليل الإعلامي للتّأثير على المواطنين، فضلاً عن تقاسم الدين والتاريخ مع عدد من دول جنوب السلاف.
وفي حين ينظر كثير من مواطني جمهوريات يوغوسلافيا السّابقة إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي كحلم ينبغي تحقيقه لتحسين الأحوال المعيشية ولدخول مصافّ الدول المتقدّمة، تحاول روسيا بطريقة معرقلة تقويض هذا المسار عبر الاستفادة من نقاط الضعف في البلقان، سواء من خلال النزاعات التي تغذيها النزعة القومية الموروثة من التسعينيات، أو تفشي الفساد والاستيلاء على الدولة، أو عدم ثقة المواطنين في المؤسسات العامة. موضع القوة الأكثر وضوحا لروسيا في شبه الجزيرة البلقانية يبقى متمثلاً في التأثير الاقتصادي القوي، فهي المصدر الأول والأبرز للطاقة في المنطقة، كما أن روسيا شريك قوي بامتياز فيما يُعرف بمسار الخصخصة غير الشفاف الذي تنتهجه عدّة دول بلقانية لكبريات شركاتها الوطنية من خلال طرحها في مزادات دولية لخصخصة رؤوس أموال تلك الشركات.
إن الحفاظ على حالة الفوضى التي يعيشها أغلب دول البلقان يعني لروسيا إظهار حلف الناتو بمظهر الفاشل في تهدئة الأوضاع واستعادة الأمن في المنطقة، وبالتالي التشكيك في فكرة ضرورة حضور قوات الحلف في المنطقة، ومن ورائها واشنطن، كحلّ أوحد لمعالجة أوجاع البلقان، بعد رميها بالفشل الذريع في مهامها من أجل إحلال الأمن والاستقرار في أي من مناطق أوروبا.
إن بقاء دول البلقان غير مكتملة الملامح كدول مستقرة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا، وفاقدة لمؤسسات ثابتة وسياسات واضحة، لن يقودها إلى الالتحاق بالاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ولن يساعدها بالتالي على التخلص من فساد الطبقة السياسية المتورطة في زعزعة الاستقرار الداخلي لعدد من دول البلقان مثل صربيا والجبل الأسود ومقدونيا وكوسوفو والبوسنة والهرسك. عدم استقرار هذه البلدان البلقانية وضعف باقي دول المنطقة الأخرى الاقتصادي والسياسي يؤثر بالضرورة على اكتمال المشروع الأوروبي وتعثره وربما تفككه لاحقا، وهو ما تراهن عليه موسكو بل وتعمل على تهيئة الأسباب المؤدية إليه، خاصة وأن هناك عدة مؤشرات تشير إلى ذلك، أهمها انقسام دول الاتحاد الأوروبي حول الاعتراف باستقلال كوسوفو، أو موقف الاتحاد غير الواضح والبطيء بشأن ضم بعض البلدان البلقانية إلى الاتحاد، وفي مقدمتها دولة البوسنة والهرسك.
مواجهات قائمة
ما زال الصراع في البوسنة والهرسك وفي كوسوفو مفتوحاً على كل الاحتمالات، لاسيما أن السكان الصرب يرفضون حتى الآن الواقع الجديد الذي فرضته عليهم القوى الغربية بعد تفكك الاتحاد اليوغسلافي في بداية التسعينيات من القرن الماضي.
وتصاعدت التوترات بين كيانَي البوسنة والهرسك، جمهورية صربسكا واتحاد البوسنة والهرسك بعد مرسوم ٢٣ يوليو/تموز ٢٠٢١ الصادر عن الممثل السامي آنذاك فالنتين إنزكو، الداعي إلى تجريم الإنكار العلني للإبادة الجماعية في سريبرينيتسا، إذ ندّد السياسيون من صرب البوسنة بالمرسوم وتحركوا لمقاطعة مؤسسات الحكومة المركزية وعرقلة إجراءات البرلمان الوطني. وأعلن ميلوراد دوديك، الممثل الصربي في رئاسة البوسنة والهرسك، في ٨ أكتوبر/تشرين الأول أن كيان صرب البوسنة "ريبوبليكا سربسكا" سينسحب من المؤسسات المشتركة الرئيسية، بما في ذلك النظام القضائي، وهيئة الضرائب، والقوات المسلحة.
جدير بالذّكر أنّ دوديك مدعوم روسيّاً، وسبق لروسيا أن استخدمت حق النقض ضد قرار الأمم المتحدة بشأن الإبادة الجماعية الذي كان من شأنه أن يدين مذبحة عام ١٩٩٥ في سريبرينيتسا باعتبارها "جريمة إبادة جماعية"، وهو أمر قضت به المحاكم الدولية بالفعل.
في عام ٢٠١٨، حسب شبكة الجزيرة، أفاد موقع إخباري استقصائي بوسني بأن المرتزقة المدربين في روسيا كانوا يساعدون في إنشاء وحدة شبه عسكرية لدعم الانفصاليين الصرب، وأكد التقرير وزير الأمن البوسني.
هذا الوضع المتوتّر في البوسنة يهدّد أمن المنطقة بأسرها ولا يزيل مخاوف جدية من إعادتها إلى المربع الأول الذي كانت عليه عام ١٩٩١ عند انطلاق أحداث حرب البلقان الأخيرة، وفي ذلك بالتأكيد تهديد أمني وسياسي أكبر سيجرّ أوروبا بأسرها إلى حالة من عدم الاستقرار والخوف من أن تصل شرارة أتون حرب بلقانية جديدة إلى قلب أوروبا.
مقدونيا الشمالية في السياسة الروسية
في عام ١٩٩١ نالت الدولة المقدونية استقلالها عن يوغوسلافيا. بعد ثلاث سنوات، في عام ١٩٩٤، عقدت الدولة أول تسجيل سكاني لها كدولة مستقلة، وتبين أن العرق الألباني الذي غالبيته من المسلمين يشكل ٢٢،٩٪ من السكان.
لكنهم شعروا أن حقوقهم وتمثيلهم في الدولة لا يتناسبان مع هذا الوجود العددي.
على هذه الخلفية، في عام ٢٠٠١، اندلع صراع في مقدونيا الشمالية بعد أن انتفض متمردون من أصل ألباني ضد قوات الأمن المقدونية. استمر الصراع سبعة أشهر، صار البلد على شفا حرب أهلية.
لذلك تدخل المجتمع الدولي للمساعدة في إنهاء الصراع واستعادة السلام من خلال ما يسمى "اتفاقية أوهريد". تم التوسط في ذلك من قبل ممثلين عن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ووقعته الأحزاب السياسية التي تمثل العرقية المقدونية والألبانية على حد سواء.
ساعد الزعيم القومي نيكولا جروفسكي المدعوم من موسكو والذي حكم بين ٢٠٠٦-٢٠١٦ على تأجيج الانقسامات الداخلية بين الأغلبية المسيحية والأقلية الألبانية المسلمة، وكذلك في النزاعات مع معظم الجيران (اليونان وبلغاريا وألبانيا). كان هذا يتناسب مع مصالح الكرملين جيدا.
من ناحية، أدى الخلاف حول اسم الدولة مع اليونان إلى استحالة انضمام سكوبي إلى الاتحاد الأوروبي أو الناتو، ومن ناحية أخرى، سمحت نزعة الاستبداد والقومية لغروفسكي لروسيا بالبقاء أحد الداعمين الرئيسيين للنظام. كما هو متوقع، شهد سقوط جروفسكي أيضاً بداية حملة روسية ضد أي تغييرات في الوضع الراهن.
في الانتخابات العامة ٢٠١٦، كان لقوى المعارضة، بقيادة يسار الوسط، فرصة لتشكيل ائتلاف واحتاجت المعارضة إلى دعم الأحزاب العرقية الألبانية ورأت القوى التي أرادت الحفاظ على الوضع الراهن فرصة للخلاف. عندما انتخب البرلمان الجديد رئيساً له من أصل ألباني، اقتحم القوميون الغرفة. وأصيب زوران زئيف زعيم المعارضة الذي لا يزال على وشك أن يصبح رئيساً للوزراء، بجروح في الرأس خلال الهجوم. وسارع إلى التأكيد على وجود دليل على تورط روسي قائلاً إنه "بعد خسارة الجبل الأسود، يقوم الاتحاد الروسي بدفعة أخيرة من أجل النفوذ في مقدونيا".
قدم مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد (OCCRP) وشركاؤه مجموعة من وثائق الاستخبارات التي تُظهر أن جواسيس ودبلوماسيين روس وصرب قد شاركوا في جهود استمرت قرابة عقد من الزمن لنشر الدعاية وإثارة الفتنة في مقدونيا كجزء من السعي على مستوى المنطقة لمنع دول البلقان من الانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي.
وتقول الوثيقة كذلك أنّ البلاد على مدار السنوات التسع الماضية "تخضع لدعاية تخريبية قوية ونشاط استخباراتي يتم تنفيذه من خلال سفارة روسيا الاتحادية (الاتحاد الروسي)". تؤكّد الوثائق على ارتباط السياسة الخارجية الروسية ارتباطاً وثيقاً باستراتيجية الطاقة في الكرملين، والتي تهدف إلى التحكم في موارد الطاقة الاستراتيجية من خلال الشراكة مع دول البلقان. على سبيل المثال، بدأت شركة Stroytransgaz الروسية في بناء شبكة خطوط أنابيب في البلاد في عام ٢٠١٥ من أجل إبقاء مقدونيا في مدار الطاقة الروسي.
بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك زيادة كبيرة في التأثير الثقافي لروسيا في البلاد، مما دفع بفكرة الهوية "السلافية الشاملة" والإيمان المسيحي الأرثوذكسي المشترك، كما تقول وثيقة UMK، مستشهدة على سبيل المثال بإنشاء ما يقرب من 30 مقدونياً وروسياً "جمعيات الصداقة"، وفتح مركز ثقافي روسي في سكوبي ورعاية بناء كنائس على الطراز الروسي في جميع أنحاء البلاد.
يبدو أن جهود روسيا لها بعض التأثير. على سبيل المثال، رفضت الحكومة المقدونية الانضمام إلى العقوبات الغربية على روسيا بسبب تدخلها العسكري في أوكرانيا عام 2014، مشيرة إلى التكلفة التي تكبدها اقتصادها.
انفصال الجبل الأسود
انفصل الجبل الأسود وهو حليف قديم لموسكو عن صربيا الموالية لروسيا في عام ٢٠٠٦، باتباع مسار جديد موالٍ للغرب موجه نحو الانضمام إلى الناتو. ونظراً لأن توسع الناتو شرقاً يمثل تهديداً، فقد ضغطت روسيا بشدة لثني الجبل الأسود عن الانضمام إلى الحلف. في عام ٢٠١٦، فشلت مؤامرة انقلاب دبرها ١٤ شخصاً من بينهم ضابطا استخبارات عسكرية روسية في تثبيت قيادة موالية لروسيا ومناهضة لحلف شمال الأطلسي في الجبل الأسود. ورفضت موسكو المزاعم ووصفتها بأنها "سخيفة" . ومع ذلك انضم الجبل الأسود إلى الناتو في عام ٢٠١٧.
في مايو/أيار ٢٠١٩، حكمت المحكمة العليا في الجبل الأسود على ١٣ شخصا، من بينهم اثنان من قادة الجبهة الديمقراطية وضابطا استخبارات روسيان و ٨ صرب، بالسجن لمدة تصل إلى ١٥ عاماً بتهمة القيام بمحاولة انقلاب. لكن في ٥ فبراير/شباط، ألغت محكمة الاستئناف الحكم الابتدائي وطلبت من المحكمة العليا إعادة المحاكمة، التي ادعى زعماء المعارضة السابقون أنها ذات دوافع سياسية.
وبغض النظر عن هذه النكسات، تستمر روسيا ورفاقها السياسيون في صربيا في التمتع بنفوذ هائل في البلاد،. لا تزال موسكو أكبر مستثمر أجنبي مباشر في الجبل الأسود، وفي ٢٠٢٠ أسفرت الانتخابات التي جرت الأحد، عن فوز "الحزب الديمقراطي الاشتراكي" الحاكم بأغلبية الأصوات، مع خسارته الأغلبية في الجمعية الوطنية أمام تحالف "من أجل مستقبل الجبل الأسود" المعارض بقيادة "الجبهة الديمقراطية".
ومن المعروف عن "الجبهة الديمقراطية" موقفها المناهض لحلف الناتو وقربها من الكنيسة الأرثوذكسية الصربية.
الحديقة الخلفية لأوروبا
من الألقاب الأخرى التي وصفت بها منطقة البلقان: الحديقة الخلفيّة لأوروبا. سوء الحظ هو قدر البلدان التي تضعها الجغرافيا في موقع "الحدائق الخلفية" للبلدان، لأنّها في وقت ما تتحوّل لجبهة أمامية في صراع بين الأقوياء. اللعبة خطيرة، البلدان القوية تربح وتخسر، لكن بلدان الحدائق الخلفية تخسر دائماً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.