بعد أن كانت أمريكا قد أعلنت عن اتفاق مع بولندا لإرسال طائرات ميغ إلى أوكرانيا للمساعدة في التصدي للهجوم الروسي، تراجعت واشنطن عن الفكرة خشية رد فعل موسكو، فما كواليس القصة التي تهدد التحالف الغربي؟
ومنذ أن بدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا، الخميس 24 فبراير/شباط، سارعت الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة إلى تكثيف دعمها العسكري لكييف، جنباً إلى جنب مع فرض عقوبات اقتصادية وسياسية غير مسبوقة على موسكو، في مسعى لمنع تحقيق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انتصاراً عسكرياً واستراتيجياً في الأزمة الأوكرانية.
وبعد أن اشتكى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من أن بلاده تقف وحيدة في مواجهة الهجوم الروسي، وكان ذلك في اليوم التالي لبدء الهجوم، تسارعت وتيرة المساعدات الغربية لكييف بصورة لافتة، وتدفقت شحنات الأسلحة الفتاكة، خصوصاً الصواريخ المضادة للدروع والطائرات، ومنها ستينغر وغافلين وغيرهما.
ومع مرور الأيام، بدأت مطالب زيلينسكي للغرب تكون أكثر تحديداً، كفرض حظر طيران فوق أوكرانيا، وإرسال طائرات عسكرية إلى بلاده، وحظر النفط والغاز الروسي تماماً، لكن المطلبين الأول والثاني أثارا اختلافات بين الحلفاء، وأظهرا شروخاً في المواقف بين الولايات المتحدة والغرب من جهة، وداخل الولايات المتحدة نفسها من جهة أخرى.
متى وافقت أمريكا على إرسال مقاتلات ميغ لأوكرانيا؟
بدأ التفكير في إرسال طائرات مقاتلة إلى أوكرانيا في الأيام الأولى من بدء الهجوم الروسي، خصوصاً بعد أن استهدفت القوات الروسية الدفاعات الجوية لأوكرانيا في اليوم الأول من الهجوم، وبدا أن سلاح الطيران الروسي يسيطر بشكل كامل على الأجواء الأوكرانية.
لكن مع مرور الأيام الأولى، وظهور مؤشرات على نجاح المقاومة الأوكرانية في وقف تقدم القوات الروسية، بدأ زيلينسكي رسائله المصورة التي يطالب فيها الدول الغربية، حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وجميع دول العالم بتقديم مساعدات عاجلة لكييف، واصفاً بلاده بأنها تمثل الديمقراطية وتدافع عن أوروبا بأكملها.
وخلال جولة لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى دول أوروبا الشرقية لإظهار الوحدة الغربية في دعم أوكرانيا، تم الإعلان عن موافقة واشنطن على مقترح بولندا إرسال مقاتلات ميغ السوفييتية الصنع إلى أوكرانيا، على أن توفر واشنطن لوارسو مقاتلات أمريكية الصنع.
وكان الهدف من إرسال طائرات عسكرية سوفييتية الصنع هو أن الطيارين الأوكرانيين مدربون عليها بالفعل، وسيكون أفضل لهم استخدام تلك النوعية من المقاتلات.
وبدا واضحاً أن واشنطن حسمت أمرها بالفعل، وقررت تنفيذ المقترح البولندي لمساعدة الأوكرانيين، وقال بلينكن للصحفيين إن الأمر بات محسوماً، ويتم الآن وضع اللمسات الأخيرة على طريقة التنفيذ بسرعة، لإيصال تلك الطائرات العسكرية إلى كييف.
بولندا أعلنت إرسال المقاتلات بالفعل إلى ألمانيا
أعلنت بولندا، الثلاثاء 8 مارس/آذار، أنها جهزت بالفعل 28 طائرة حربية من طراز ميغ، روسية الصنع، لإرسالها إلى قاعدة الناتو الأمريكية رامشتين في ألمانيا، على أن تتولى واشنطن والناتو توصيلها إلى أوكرانيا.
لكن الرد الأمريكي جاء رافضاً بشكل قاطع لتلك الخطوة، وكأن الإعلان البولندي قد فاجأ الأمريكيين، رغم المناقشات المستمرة بشأنه منذ أكثر من أسبوع، ورغم إعلان وزير الخارجية الأمريكي عن الاتفاق بالفعل بين وارسو وواشنطن على إرسال تلك المقاتلات إلى كييف، بحسب تقرير لمجلة Politico الأمريكية عنوانه "الولايات المتحدة، تغلق الأبواب أمام إرسال طائرات مقاتلة لأوكرانيا".
الرفض الأمريكي أغضب بولندا على ما يبدو، وقال مسؤولون بولنديون كبار، الأربعاء، إن تزويد أوكرانيا بطائرات حربية يجب أن يكون عبر حلف شمال الأطلسي، بعد أن رفضت واشنطن العرض البولندي.
وقال جاكوب كوموتش، مستشار الرئيس البولندي للشؤون الخارجية لمحطة (تي.في.بي إنفو) العامة "الولايات المتحدة الأمريكية لا تريد لتلك الطائرات أن تصل لأوكرانيا من قواعد أمريكية… بولندا مستعدة للتحرك، لكن فقط في إطار الحلف، في إطار عمل حلف شمال الأطلسي"، بحسب رويترز.
وقال باول جابلونسكي، نائب وزير الخارجية البولندي لمحطة (بوليسكاي راديو1) الإذاعية، إن بولندا يجب أن تضع الأمن في الأولوية، لدى بحثها تزويد أوكرانيا بالطائرات. وأضاف "لا يجب أن يكون الأمر هو أن بولندا ستكون الدولة الوحيدة في حلف شمال الأطلسي التي ستأخذ مجازفة، ولا تقوم دول أخرى بمشاركة ذلك معنا بأي شكل".
ضغوط زيلينسكي بشأن المقاتلات
رسائل الرئيس الأوكراني ومناشداته للغرب تزويد كييف بطائرات حربية لمجابهة "الغزو" الروسي لبلاده، كانت قد وجدت استجابة من جانب مشرعين أمريكيين، وجعلت إدارة الرئيس جو بايدن تناقش بالفعل تسهيل نقل الطائرات.
وكان زيلينسكي قد ناشد السبت، 5 مارس/آذار، الكونغرس الأمريكي، خلال اتصال بالفيديو عبر تطبيق زووم، تحقيق المطالب الثلاثة الأساسية لأوكرانيا، وهي فرض منطقة حظر طيران، وحظر النفط الروسي، وإرسال طائرات عسكرية على وجه السرعة.
لكن مناشدات زيلينسكي تحولت إلى غضب شديد، الأربعاء، إذ طالب في رسائله اليومية بحل الخلافات بين بولندا وأمريكا -بشأن إرسال المقاتلات- "فوراً"، مشيراً إلى أن الأوكرانيين "لا يمتلكون الوقت" بسبب التردد في اتخاذ القرار: "هذه ليست لعبة بينغ بونغ! الأمر يتعلق بحياة البشر. مرة أخرى نطالبكم: حلوا المشكلة بشكل أسرع ولا تتملصوا من المسؤولية. أرسلوا لنا الطائرات!"، بحسب تقرير Politico.
كيف يبرر الأمريكيون موقفهم؟
المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي قال في إفادة صحفية إن "وزير الدفاع لويد أوستن شكر نظيره البولندي على رغبة وارسو في مواصلة البحث عن طرق لمساعدة أوكرانيا. لكن أوستن أكد على أننا لا ندعم نقل مقاتلات إضافية لسلاح الجو الأوكراني في هذا الوقت، وبالتالي ليست لدينا الرغبة في أن تصبح تلك الطائرات المقاتلة في عهدتنا حالياً".
يظهر هذا الخلاف بين بولندا وأمريكا بشأن إرسال مقاتلات الميغ إلى أوكرانيا مدى الضغوط التي يواجهها التحالف الغربي المناهض لروسيا، بحسب تحليل لشبكة CNN الأمريكية، كما يكشف أيضاً عن أن شروخاً واضحة قد بدأت تظهر في ذلك التحالف، في ظل سعي واشنطن إلى مساعدة أوكرانيا بطرق لا تؤدي إلى تصعيد الصراع إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا.
ونقلت الشبكة الأمريكية عن مسؤولين أمريكيين لم تسمهم قولهم إن النقاش العلني بشأن خطة إرسال مقاتلات إلى أوكرانيا أضعف كثيراً من إمكانية تنفيذها؛ لأن ذلك ببساطة يزيد من قدرة موسكو على تصوير الخطوة على أنها تصعيد مستفز من جانب الناتو، ويعرّض بولندا نفسها لخطر التعرض "لغضب" بوتين.
وفي ضوء هذه المعطيات، غضبت واشنطن من إعلان وارسو عرضها إرسال مقاتلات الميغ بتلك الصورة العلنية، وقال مسؤولون أمريكيون إن "الأمر كله يبدو مسرحية موجهة إلى الجمهور البولندي الداخلي، لإظهار الحكومة هناك على أنها تفعل كل شيء لمساعدة أوكرانيا"، وأضاف المسؤولون أنهم أطلعوا البولنديين بالفعل عن أن المعوقات اللوجستية لا تزال قائمة، ويجري العمل على حلها، ما يعني أن إعلانهم لم يكن مفهوماً.
هل تنجح نائبة بايدن في طمأنة بولندا؟
التراجع الأمريكي عن توصيل المقاتلات البولندية إلى أوكرانيا، أو بمعنى أكثر دقة قبول استقبال تلك الطائرات في القاعدة الأمريكية في ألمانيا، سببه المباشر بالطبع هو خشية رد الفعل الروسي، وهذا ما عبر عنه الأمريكيون أنفسهم.
كانت وزارة الدفاع الروسية قد حذرت هذا الأسبوع من أن البلدان التي تفتح قواعدها الجوية لأوكرانيا، ناهيك عن إرسال طائرات مقاتلة، لشن هجمات على روسيا قد تعتبر طرفاً في الصراع.
جون كيربي المتحدث باسم وزار الدفاع الأمريكية (البنتاغون) قال: "خلصت المخابرات إلى أن نقل مقاتلات ميغ-29 إلى أوكرانيا قد يُفهم خطأ على أنه تصعيد، وقد يؤدي إلى رد فعل روسي كبير، ربما يزيد احتمالات تصعيد عسكري مع حلف شمال الأطلسي. لذلك خلصنا أيضاً إلى أن نقل مقاتلات ميغ-29 إلى أوكرانيا سيكون مخاطرة كبيرة".
أما بولندا فالواضح أن قصة طائرات الميغ كشفت عن مدى القلق الذي يعتري وارسو، مما قد يكون رد فعل للولايات المتحدة عليه، حال تعرضها لهجوم روسي كما حدث مع أوكرانيا، رغم أن وارسو عضو في حلف الناتو، وبالتالي من المفترض أن أي اعتداء عليها يعتبر اعتداء بالفعل على جميع أعضاء الحلف، بحسب المادة الخامسة من ميثاق تأسيس الحلف العسكري الغربي.
لكن الهجوم الروسي على أوكرانيا، والمستمر منذ أسبوعين، واقتراب موسكو من السيطرة الفعلية على جميع الأراضي الأوكرانية دون أن تؤدي العقوبات الغربية إلى تراجع أو ردع الرئيس الروسي، قد أدى كل ذلك إلى أن تعيش دول أوروبا الشرقية في حالة من القلق الشديد، واهتزاز الثقة في مدى التزام دول الناتو، وبخاصة الولايات المتحدة، بالتدخل الفعلي في مواجهة دولة نووية كروسيا.
وفي هذا السياق وصلت كامالا هاريس، نائبة الرئيس بايدن، إلى وارسو بالفعل الخميس، 10 مارس/آذار، في مهمة وصفتها وسائل الإعلام الأمريكية بأن الغرض الرئيسي منها هو "طمأنة بولندا" بأن الولايات المتحدة "تأخذ أمن حلفائها على محمل الجد"، وهو ما قالته بالفعل هاريس في مؤتمر صحفي عقدته مع رئيس بولندا سيباستيان دودا بمجرد وصولها إلى البلاد.
ومن المقرر أن تزور هاريس رومانيا أيضاً، بعد أن تزايدت مخاوف الدولتين من "العدوان الروسي" في المنطقة، إذ تمثلان أقرب دول حلف شمال الأطلسي شرقاً لروسيا، كما تتشارك الدولتان في حدود مع أوكرانيا يتدفق عليها آلاف اللاجئين.
وقال مسؤولون بارزون في الإدارة الأمريكية إن هاريس ستركز على سبل تطبيق الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي للعقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، وسبل بقاء تلك الدول على اتساق، والمضي قدماً معاً. وأضافوا لرويترز أنها ستتواصل أيضاً مع لاجئين أوكرانيين في بولندا، وتناقش المساعدة الإنسانية والأمنية المستمرة لأوكرانيا وللمنطقة.
وقال المسؤولون أيضاً إن نائبة الرئيس ستناقش تلك القضايا في وارسو مع رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، الذي يزور أيضاً المنطقة، وأضاف أحد المسؤولين "الكثير من نقاشاتنا في هاتين العاصمتين ستكون بشأن الخطوات المقبلة… وكيف يمكن التحرك قدماً".
وقال مسؤولو الإدارة الأمريكية إن حواراً سيدور حول أفضل سبل تقديم المساعدة الأمنية لأوكرانيا، لكن لم يقدموا تفاصيل عن طبيعة الخطط التي ستناقشها نائبة الرئيس لمعالجة الموقف مع بولندا. وقال أحد المسؤولين إن هاريس ستستغل الزيارة لتكرار رسالة مفادها أن "بوتين ارتكب خطأً سينجم عنه هزيمة استراتيجية مدوية لروسيا".