في العشرين من شهر ديسمبر/ كانون الأول 2001 ودع الشاعر الإفريقي ليوبولد سيدار سنغور الحياة بعد مسيرة حافلة بالإنجازات السياسية والثقافية.
دُفن الشاعر في داكار عاصمة السنغال، حيث بدأ سنغور أولى ثوراته طفلاً شقياً، وأنهاها رئيساً حكم البلد لعشرين عاماً. لم تسرقه السلطة من الشعر، فتخلَى طواعيةً عن كرسي الحكم، وأكمل ما تبقى من حياته في العالم الذي جاء منه عالم الأدب والفكر.
من داكار إلى باريس رحلة سنغور الأولى
وُلد ليوبولد سيدار سنغور عام 1906 ببلدة "جوال فاجوت" الشاطئية والتي تبعد عن العاصمة داكار 70 كم، ونشأ وسط عائلة مسيحية ميسورة وشديدة الارتباط بالكنيسة الكاثوليكية.
رغم حياة الرفاهية التي تمتع بها الصبي الصغير، فإنه تمرد ليخوض أولى ثوراته برفض حياة البذخ، بعد أن اكتشف حقيقة ما يحدث للشعب السنغالي الذي يرزح تحت وطأة الاحتلال الفرنسي. عرف سنغور حقيقة شعبه المُتعَب والفقير أثناء تسكُعه في شوارع بلدته، هكذا تحدث سنغور في مقدمة ديوانه "إثيوبيات".
لم تدم ثورة الصبي طويلاً فقد أخمدها والده وهو لم يتجاوز سن السابعة، حيث اختار له مدرسة فرنسية مسيحية بالبلدة ليلتحق بها. وبعد أن حصل سنغور على الشهادة الابتدائية انتقل إلى العاصمة داكار وأكمل دراسته بمدرسة الأب ليبرمان.
كانت باريس وجهته المقبلة بعد داكار، وذلك بعد أن نجح سنغور في الثانوية عام 1928. هناك بالعاصمة الفرنسية التحق بقسم الأدب الفرنسي بجامعة السوربون، ليكون بذلك أول إفريقي تخرج في السوربون عام 1938 وبحوزته شهادة الدراسات المعمقة في علم النحو والأدب الفرنسيين.
وكعادة الغرباء عن باريس كان الحي اللاتيني الشهير وجهة الشاعر، حيث اكتشف عالم السياسة. هناك بين الجاليات الإفريقية والعربية وغيرها تأثر سنغور بالفكر الشيوعي الذي كان من بين دوافعه الأولى لتأسيس حركة الزنوجة التي ستغير فيما بعد واقع الزنوج في إفريقيا وأوروبا.
حركة الزنوجة.. محاولة فرض وجود الذات السوداء
وُلدت حركة الزنوجة في بدايات الثلاثينيات من القرن الماضي في باريس على يد ثلة من الشباب الأسود الذي يدرس بباريس وأشهرهم الشاعر ليوبولد سيدار سنغور، والشاعر المارتنيكي إيميه سيزار، والشاعر الإفريقي الغوياني ليون كونتران دماس.
وقد عرفها سنغور لاحقاً بكونها: الاعتراف البسيط بحقيقة الإنسان الأسود وقبول هذه الحقيقة، قدرنا أن نكون سوداً، بتاريخنا وثقافتنا.
جاءت حركة الزنوجة ردة فعل فكرية لعلها تنجح في الرد على محاولات المركزية الأوروبية المتعالية في محو تراث الشعوب الإفريقية، والتي ربطت الإنسان الأسود بالتوحُش والتخلُف.
جمعت حركة الزنوجة السود المنحدرين من إفريقيا وأحفاد العبيد في أمريكا. اجتمعوا في باريس حيث كانت اللغة الفرنسية وسواد البشرة والتاريخ الاستعماري لشعوبهم قادرة على توحيدهم في التفكير من أجل مصير أفضل وأكثر عدلاً للسود.
واصل سنغور نشاطاته الفكرية والسياسية حتى أنه شارك في الحرب العالمية الثانية وحارب في صفوف الجيش الفرنسي كغيره من الطلبة والمهاجرين في فرنسا، وأثناء الحرب تم أسره ومكث في المعتقل النازي 18 شهراً.
لم يكتفِ الشاب المفعم بمبادئ الأممية والطامح إلى إرساء العدالة بين البيض والسود بنضاله في حركة الزنوجة. بدأ مسيرته السياسية بصفة رسمية عام 1946 نائباً عن السنغال في البرلمان الفرنسي، وأعيد انتخابه لدورتين عامي 1951 و1956.
تقلد سنغور عدة مناصب في ظل الحكم الاستعماري للسنغال، أبرزها وزير مستشار في حكومة فرنسا عام 1959، وهو ما جعل خصومه السياسيين يتهمونه فيما بعد بأنه مجرد حاكم فرنسي بلون أسود.
نقطة التحول في حياة سنغور
ربما لم يخطر ببال سنغور أن عام 1960 سيكون عام الحظ بالنسبة له، وكذلك عام المسؤوليات الجسام، بعد أن حصلت السنغال على استقلالها في ذلك العام، تمت دعوته من طرف الرئيس السنغالي لمين غي، (الذي حكم السنغال أثناء الاحتلال الفرنسي) إلى العودة إلى وطنه.
حينها لم يعلم الرئيس لمين غي أن دعوته تلك لسنغور ستكون المسمار الأخير في نعش حكمه. نافس سنغور بعد أشهر قليلة من عودته إلى السنغال الرئيس لمين غي في انتخابات الرئاسة خلال شهر سبتمبر/أيلول 1960 والتي فاز بها بدعم القيادة الدينية الإسلامية التي اختارت سنغور المسيحي على لمين المسلم.
رغم بريق السلطة المغري ظل سنغور شاعراً، وكان أول إنجازاته تأليف النشيد الوطني السنغالي، الذي أطلق عليه "الأسد الأحمر".
حافظ سنغور على ميوله الشيوعية، خاصة أن فترة الستينيات كانت فترة ازدهار الأفكار الاشتراكية، وانطلاقاً ما يؤمن به سنغور حاول تطبيق مبادئ الاشتراكية من خلال تنمية القطاع العام.
لم يحلم سنغور بالاشتراكية في السنغال بل رواده الحلم بأن تصبح كل إفريقيا كذلك. ظهرت نزعته الاشتراكية بوضوح في خطابه الرسمي الذي افتتح به منتدى بلورة المفاهيم الاشتراكية بداكار عام 1962 حين قال سنغور: "من الطبيعي أن تكون اشتراكية إفريقيا مقدمة لوَحدتها".
الشاعر الذي تحول إلى شبه ديكتاتور
نجح سنغور طيلة 20 عاماً في المحافظة على كرسي الرئاسة عن طريق الانتخابات. إلا أن فترة حكمه قد تراوحت بين الإيجابيات والسلبيات، خاصة أن أول رئيس للسنغال بعد الاستقلال قد اتهم بأنه عميل فرنسي.
يبدو أن فرنسا قد أحكمت قبضتها جيداً على البلد الإفريقي حتى بعد استقلاله. لأنها وجدت في سنغور ضالتها فهو شغوف باللغة الفرنسية ومدافع عنها إلى درجة أنه فرضها في التعليم في أول قراراته بالرغم من محاولة الدول المستقلة آنذاك العودة إلى اللغات المحلية لتفرضها في التعليم.
رغم سعي سنغور إلى الاشتراكية وإصلاح القطاع العام، في ظل موجة الاشتراكية في الستينيات التي عرفتها بعض الدول، فإن حكمه قد اتسم بإرساء الحزب الواحد.
اختلف سنغور مع رئيس الحكومة آنذاك مامادو مصطفى ضياء، الذي حاول إزاحته من رأس السلطة بطريقة دستورية باللجوء إلى البرلمان وانشقاق بعض النواب عن الحزب الذي يتزعمه سنغور.
في عام 1962 وبعد محاولة انقلاب دستوري فاشلة، اتهم الرئيس سنغور رئيس حكومته ووزراءه بالتورط في الانقلاب وعاقبهم بالسجن مدى الحياة، ولم يخرج مامادو مصطفى ضياء إلا بعد 12 عاماً إثر نيله حكماً بالبراءة.
يقول الرئيس الأمريكي أبراهام لينكون: "باستطاعة كل الرجال تقريباً تحمل المحنة. لكن إذا أردت أن تختبر شخصية الرجل، أعطه السلطة"، يبدو هذا القول مناسباً جداً لشخصية سنغور، فبعد مسيرته النضالية في حركة الزنوجة وفي المعتقل النازي، انقلب سنغور على ما يؤمن به.
هكذا يقول بعض خصومه، فقد اتسمت فترة حكمه بقمع المعارضين وسجن المئات، إذ وصل عدد سجناء الرأي إلى 300 سجين رأي، كما شهد عهده تطبيق حكمي إعدام، أحد الحكمين نفذ بحق متهم بمحاولة اغتيال الرئيس ونفذ الحكم عام 1967.
من الجوانب المضيئة أنه يحسب لسنغور طيلة فترة حكمه أنه لم يميز بين أبناء شعبه رغم أنه مسيحي وحكم بلداً غالبيته من المسلمين.
الاستقالة، والعودة إلى فرنسا
من الواضح أن السلطة كانت إحدى طموحات سنغور الذي استمر حكمه 20 عاماً، ولكن شغفه بالشعر والأدب كان أقوى على ما يبدو، إذ ترك سنغور كرسي الرئاسة طواعيةً في 30 ديسمبر/كانون الأول 1980 لصالح عبده ضيوف رئيس حكومته وأحد المقربين منه.كانت فرنسا وجهة الرئيس المستقيل، فبعد الخدمات التي قدمها في نشر اللغة الفرنسية في بلده وفي إفريقيا تم تكريمه بعد أربع سنوات، أي عام 1984 على تاريخ استقالته من السياسة، بانتخابه عضواً مدى الحياة في الأكاديمية الفرنسية، كما أنه انضم إلى لجنة القاموس الفرنسي.
يصنف سنغور ضمن أعمدة الأدب السنغالي بصفة خاصة والإفريقي بصفة عامة، وذلك لإبداعه الشعري والفكري، أصدر جملة من الدواوين الشعرية من أهمها: "أغنيات الظل"، "إثيوبيات" و"ليليات". ومن كتبه الفكرية الشهيرة: "الخصوصية الزنجية والحضارة الكونية"، "الأمة والطريق الإفريقي إلى الاشتراكية".
أثر سنغور في جيل كامل من الشعراء من إفريقيا والعالم، من أهمهم الشاعر الموريسي إدوارد مونيك الذي ارتبط بعلاقة صداقة مميزة بسنغور، قائلاً بعد رحيل صديقه: "نحن لا نحتاج إلى أن نعود إلى سنغور، فهو هنا دوماً".
اكتشف القارئ العربي مؤخراً الشاعر ليوبولد سيدار سنغور بعد أن قام المترجم التونسي جمال الجلاصي بنقل بعض أعماله إلى العربية في السنوات القليلة الماضية.
انتهت رحلة سنغور في الحياة التي قضاها بين السياسة والشعر، وفي نورماندي شمال فرنسا عام 2001 أغمض سنغور عينيه إلى الأبد ونقل جثمانه ليوارى الثرى في داكار وقد حضر جنازته شخصيات أدبية ومسؤولون فرنسيون، من أهمهم وزير الخارجية الفرنسي شارل جوسلان.