النظام العالمي القائم على الهيمنة الغربية ليس في طريقه للأفول. والقوى الساعية لتغيير هذا النظام وإعادة توزيع القوة والنفوذ داخل نظام جديد وفق أسس جديدة، تحديداً روسيا في اللحظة الراهنة، لا تبدو مؤهلة بصورة كافية كي نتوقع نجاحها في المستقبل القريب.
هذا الاستنتاج يبدو معاكساً للانطباعات السائدة مؤخراً، خصوصاً نتيجة تغيرات مهمة في السياسة الدولية، مثل الصعود الاقتصادي الصيني، الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان، وأخيراً غزو روسيا لأوكرانيا بعد سنوات من ضمها لشبه جزيرة القرم. لكنّ هذا الاستنتاج، وفق ما أدعي، يبدو أكثر منطقية إذا فحصنا عن قرب أسس الهيمنة الغربية، وتجنبنا الخضوع لصخب الصورة، والقراءات العاطفية التي تحركها الرغبات وليس الحقائق.
الغرب في مواجهة القوى المناهضة له
لا تستند الهيمنة الغربية إلى مقدرات دول الغرب العسكرية الخشنة فقط، مع التسليم بأهميتها وأولويتها. فالقوة العسكرية أثبتت دائماً محدودية قدرتها في تحقيق سيطرة طويل الأمد. ليس فقط في أحدث مثال في حالة أفغانستان، ولكن حتى مع روسيا نفسها التي فشلت في تغيير وجهة جورجيا وأوكرانيا استناداً إلى الترهيب العسكري المتواصل.
الهيمنة الغربية تستند إلى "مأسَسَة" لا تتوفر لكل من روسيا والصين؛ حيث أنتجت المنظومة الليبرالية الغربية، وطورت، خلال عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية، شبكات من المؤسسات التي باتت تهمين من خلالها على النظام الدولي عسكريا واقتصاديا وثقافيا. وعليهِ، تقف الهيمنة الغربية على أرض صلبة توفرها مؤسسات راسخة مثل الناتو، الاتحاد الأوروبي، البنك والصندوق الدوليين، نظام سويفت، منظمة التجارة العالمية، محكمة العدل الدولية… إلخ. بل إن الحرب في أوكرانيا وضعت مؤسسات أخرى غير سياسية ضمن أدوات التعبئة الغربية التي استخدمت لعزل روسيا عن العالم، كالشركات متعددة الجنسيات، اتحادات الرياضة الدولية، روابط واتحادات فنية، وصولاً إلى "الاتحاد الدولي للقطط"!
"مأسسة" الهيمنة تظهر قيمتها في لحظات احتدام الصراع كما هو الحال الآن. يقف كل من الناتو والاتحاد الأوروبي موحداً ومتماسكاً إزاء التهديد الجيوسياسي المتصاعد شرقاً. وهو ما يضع روسيا في مواجهة قوى الغرب الرئيسية، يجمعها تعريف مشترك للتهديدات، والتزام مشترك بالأمن الجماعي.
في مقابل هذا، نجد المؤسسة المناظرة للناتو، أو التي أريدَ بها تكوين إطار مُناظر للناتو، "منظمة شنغهاي للتعاون" Shanghai Cooperation Organization، وهو تجمع أمني يضم الصين وروسيا ومعظم دول آسيا الوسطى وباكستان والهند ودولاً أخرى. لكنَّ منظمة شنغهاي تبدو إطاراً هشاً وفضفاضاً بعيداً تماماً عن التطور المؤسسي للناتو، ويعاني من فقدان الموارد، والأهم فقدان التعريف المشترك للتهديدات والمصالح، في ظل صراع المصالح بين أعضائه أنفسهم، خاصة التنافس العميق بين الصين والهند، والصراع بين الهند وباكستان، بل والتنافس بين الصين وروسيا على المستوى الاستراتيجي.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الهيمنة الغربية تستند إلى عقود طويلة من اختراق الدول والمجتمعات غير الغربية بصورة عميقة ومتنوعة لم تتوفر للقوى المناهضة للغرب خاصة روسيا والصين إلا بشكل محدود. في حالتنا العربية، يظهر النفاذ الغربي، والأمريكي بصورة خاصة، في عمق الأجهزة الأمنية والعسكرية، كما في عمق هيكل الاقتصاد والتنمية والتعليم وحتى الثقافة العامة. صحيح أن هذا يتم تحديه نسبياً، على المستوي الاقتصادي فقط من قبل الصين، لكنّه ما زال تحدياً غير شامل، وغير مؤهل لإزاحة هيمنة الغرب بصورة عامة والولايات المتحدة بصورة خاصة.
ربما تتطلع نخب الحكم في بعض الدول العربية إلى نظام سياسي شبيه بالصين وروسيا على مستوى الهيمنة الشاملة على المجتمع وامتلاك مقدرات اقتصادية وعسكرية متقدمة، لكن على مستوى الطبقات الوسطى والرأي العام لا نكاد نلحظ ترويجاً لـ"نموذج" صيني أو روسي. دائماً "التقدم" غربي، والطموحات السياسية والاجتماعية غربية أو وفق معايير طورها الغرب، كمعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني… إلخ.
في لحظة التعبئة، استطاعت الولايات المتحدة حشد العالم لإظهار كم أن روسيا معزولة، حتى إن القوى المناهضة للغرب وصديقة روسيا مثل الصين وإيران، اختارتا الامتناع عن التصويت مع أو ضد الإدانة الأممية لحرب روسيا على أوكرانيا.
روسيا في نظر الغرب
في قمة الناتو 2021 المنعقدة في بروكسل، 14 يونيو/حزيران، وافق قادة الحلف على وثيقة الناتو 2030 (بعنوان: حتى يكون التحالف القوي أقوى Making A Strong Alliance Even Stronger)، والتي تضع أسس تعزيز الحلف على مدى العقد المقبل وما بعده، بهدف التكيف مع عدة تهديدات أبرزها لا شك المنافسة العالمية المتزايدة والتهديد النابع من روسيا والصين.
اللافت أن بيان القمة، وبخلاف الخطاب المهيمن على وسائل الإعلام وربما الكثير من مراكز التفكير، كان تركيزه الأساسي منصباً على التهديد الروسي وليس الصعود الصيني. يظهر في البيان أن روسيا تهيمن على أذهان قادة الناتو بمثابة تهديد مباشر، حيث تم ذكر روسيا 63 مرة، والصين عشر مرات فقط. بل إن البيان لم يصل إلى حد وصف الصين بأنها تهديد مباشر للحلف، ولكن بصفتها مصدراً لـ"تحديات".
هذا النهج، يجعلنا ننظر بكثير من الشك إلى الافتراض بأن الولايات المتحدة والغرب تفاجأوا بقرار روسيا شن الحرب على أوكرانيا. فمنذ ترحيب الناتو في قمة بوخارست، 3 أبريل/أبريل 2008، بتطلع أوكرانيا وجورجيا لنيل عضويته، أصبح واضحاً أن الحلف قرر عدم التفاهم مع روسيا وتجاهل مقاربة "توازن القوى" التي تقوم على القبول بوضع محايد لكل من جورجيا وأوكرانيا بصورة خاصة.
أجادل هنا بأن تجاهل الحلف، والولايات المتحدة بصورة خاصة، لمساعي روسيا المتكررة لتعهدات بخصوص عدم ضم أوكرانيا وجورجيا للناتو، يقف وراءه تقدير بأن التزاماً من هذا النوع سيكون بداية رسمية للعودة إلى نظام دولي ثنائي القطبية، لأنه سيكون اعترافاً بأن الغرب عليه أن يعترف بنفوذ روسيا ويحترم هذا النفوذ، ويصل معها إلى توازن قوى يرضي الطرفين.
لم تقبل الولايات المتحدة بهذا طوال حكم "أوباما"، "ترامب"، وأخيراً "بايدن"، لأن التقدير العام هو أن روسيا -رغم نهج "بوتين" الخشن وصرامته في التعبير عن مصالح بلاده وجديته في استعادة مكانتها قوةً عظمى- بدت أضعف من أن تؤخذ مطالبها بعين الاعتبار. ومن ثم، فإن ضم أوكرانيا وجورجيا إلى مجال النفوذ الغربي كان ضمانة لأن تظل روسيا ضعيفة ومحاصرة داخل حدودها. وهو ما عبر عنه "بوتين" مراراً وتكراراً في لهجة تحولت من العتاب، إلى التنديد والغضب.
لكن، ألا يستحق تجنب الحرب التعهد ببقاء أوكرانيا محايدة؟ يبدو هذا السؤال، على بداهته، معقداً. فالولايات المتحدة قررت على لسان رئيسها "جيمس مونرو" ما بات يعرف باسم "عقيدة مونرو" في ديسمبر 1823، والتي تستهدف ضمان استقلال دول نصف الكرة الغربي ضد التدخل الأوروبي، ومن ثم أسس لهيمنة الولايات المتحدة على الأمريكيتين كخطوة ضرورية للانتقال إلى الهيمنة الدولية.
لذلك، تفهم واشنطن، كما تفهم -ليس موسكو فحسب-، ولكن أيضاً بكين، أن أي دولة لن ترتقي إلى مرتبة القوى العظمى المهيمنة ما لم تخضع مجالها الحيوي إلى نفوذها الحصري الذي لا يقبل القسمة مع قوى أخرى. الصراع الأمريكي الصيني في حوض الباسيفيك يرتبط بمنع الصين من الهيمنة على هذه المنطقة كي لا تتحول لقوة هيمنة دولية. ويطلق الاستراتيجيون العسكريون الصينيون على بحري الصين الجنوبي والشرقي "الكاريبي الصيني"، في إشارة إلى أن هذه المنطقة يجب أن تكون خالصة للصين دون أي قوى خارجية.
كما أن الكاريبي منطقة نفوذ خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية لا تقبل أن تتواجد فيها قوة دولية أخرى. تدرك واشنطن هذا، ولا تسمح به للصين. كما أنها لا تريد أن تسمح لبوتين بفرض هيمنته على مجاله الحيوي المباشر كي تظل روسيا -بغض النظر عن ترسانتها النووية- دولة عاديةً في شرق أوروبا على حد تعبير "زبيغنيو بريجنسكي".
لذلك، فليس الهدف الغربي هو التوصل لاقتسام نفوذ مع "بوتين"، وإلا ستكون أوكرانيا ثمناً عادلاً ومنطقياً. الهدف هو إبقاء روسيا داخل حدودها، ووضع هذه الحدود في مواجهة نفوذ غربي بالغ الإحكام.
حرب أوكرانيا وإعادة تأكيد الهيمنة الغربية
في ساعات الحرب الأولى بدا وكأن "بوتين" قد فعلها، لكن خلال الأيام التالية وحتى الآن بات واضحاً أن روسيا ليست الاتحاد السوفييتي، وأن حسابات "بوتين"، الحذرة والاستراتيجية دائماً، لا تبدو محكمة هذه المرة. في الواقع، قد نلتمس العذر للرئيس الروسي؛ لأنه لم يكن من المتوقع أن يستسلم لمساعي الناتو لعزله داخل حدوده ومحاصرته. لكنّ الحرب التي أطلقها لإرساء قواعد جديدة واستعادة أمجاد قديمة، تمضي في اتجاه تعزيز الوضع الراهن، الذي لا يريده، وتأكيد هيمنة الغرب.
فقد وحّدت الحرب الناتو وأوروبا ومجمل حلفاء الغرب بعد أن كانت الانقسامات تهدد تماسك الاتحاد الأوروبي والناتو على حد سواء. ذكّرت الحرب -على حد تعبير مسؤول غربي- قادة أوروبا بالجغرافيا السياسية التي غابت عنهم منذ نهاية الحرب الباردة. ليس هذا فحسب، بل عادت المملكة المتحدة قوةً أوروبية فاعلة، كما أن قيادة الولايات المتحدة للمنظومة الغربية سواء من خلال الناتو أو من خلال شبكة الحلفاء في اليابان وكوريا وأستراليا وغالبية دول الشرق الأوسط، لم تعد محل شك.
التطور الأهم، وعلى غير تقديرات "بوتين" على الأرجح، جاء ألمانيّاً. أيقظت الحرب القوة الألمانية الغافية منذ عقود، والتي ارتضت وضعها قوةً اقتصادية غير مهتمة ببناء قدرات عسكرية واسعة. فلم تكتفِ ألمانيا بتزويد أوكرانيا بالسلاح، ولكنها أعلنت أيضاً زيادة إنفاقها العسكري للعام القادم؛ حيث علقت "أنغريت كرامب-كارينباور" وزيرة الدفاع السابقة في عهد المستشارة "أنجيلا ميركل"، قائلة: "أنا غاضبة جداً من أنفسنا لفشلنا التاريخي. بعد جورجيا وشبه جزيرة القرم ودونباس، لم نُعِدّ أي شيء من شأنه أن يردع بوتين حقاً".
بعد أيام من بدء الحرب، أعلن المستشار الألماني "أولاف شولتز" عن صندوق خاص لتطوير قدرات الجيش بقيمة 100 مليار يورو كجزء من ميزانية 2022. وأكد أن الدولة ستوجه أكثر من 2٪ من ناتجها المحلي الإجمالي إلى الجانب الدفاعي كل عام من الآن فصاعداً. واللافت أن هذا يتم بترحيب أوروبي. لقد جعل "بوتين" من عودة ألمانيا العسكرية مطلباً أوروبيا بصورة غير متوقعة.
وعلى حد تعبير "جورج فريدمان": حتى لو هزمت أوكرانيا، فستجد روسيا نفسها في مواجهة أوروبا معادية، بقيادة ألمانيا المعاد تسليحها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.