"أتذكر الناس وهم يموتون..
في منازلهم وفي أرضهم
والأطفال دائماً ما كانوا يبكون..
ولم يجدوا من يدافع عن أرواحهم"
هذه الأبيات كانت مجرد جزء بسيط من قصيدة "الإبادة بواسطة الجوع" للشاعر الأوكراني نيكولاس لاتيشكو، والذي استطاع النجاة من إحدى أسوأ عمليات الإبادة العرقية في التاريخ والمسماة بالـ"هولدمور".
لذا دعني آخذك في رحلة تاريخية حول ذلك الكابوس الإنساني والنقطة السوداء في تاريخ البشرية، ولنبدأ بمعنى الاسم.
Holodomor أو الهولدمور هي كلمة مكونة من كلمتين أوكرانيتين، الأولى هي Holod بمعنى جوع، وكلمة Mor بمعنى إبادة.
والهولدمور هي اسم للإبادة الجماعية التي تمّت عن طريق التجويع والتسبب في الموت لأن المرء لا يجد ما يسد رمقه، وحدثت تلك الإبادة في أوكرانيا السوفييتية خلال عامي 1932 و1933، كانت المجاعات التي ضربت أوكرانيا نتيجة طبيعية للمجاعات التي ضربت الاتحاد السوفييتي ما بين عامي 1931 و1934، وكان من أحد أسبابها دمار محاصيل القمح داخل المناطق المعتمدة عليه اعتماداً أساسياً؛ مثل روسيا وكازاخستان.
ولكن ما يجعل المجاعة الأوكرانية مختلفة عن المجاعات التي ضربت الاتحاد السوفييتي كان مجموعة القرارات السياسية المتعمدة لجعلها أسوأ على كل صعيد ممكن لتصبح عقاباً للشعب الأوكراني وإبادة ما يمكن إبادته منهم.
أما بالنسبة لأسباب هذه المجاعة، فكانت بسبب القرار الذي اتخذه القائد الأعلى جوزيف ستالين زعيم الاتحاد السوفييتي خلال عام 1929 بتأميم النظام الزراعي بأكمله وتجميع المزارعين داخل نظام زراعي واحد؛ حيث سيقوم المزارعون بزراعة محاصيلهم ضمن مجموعة مزارع أكبر، ثم بعد ذلك يقومون ببيعها للحكومة بثمن بخس كي يتم استخدامها في إطعام العمال داخل الاتحاد السوفييتي.
بالطبع تسبب ذلك في انخفاض إنتاج النظام الزراعي داخل الاتحاد السوفييتي بشكل حاد؛ مما تسبب في مجموعة أزمات اقتصادية ونقص في الطعام، متبوعاً بثورات مسلحة للمزارعين الأوكرانيين.
بالطبع أرَّقت تلك الثورات مضجع ستالين متذكراً بذلك تاريخ القتال الدموي بين الأوكرانيين والجيش الأحمر الشيوعي؛ لذا تم اتخاذ القرار في ذلك الوقت بواسطة ستالين وقادة الحزب الشيوعي بأن يتم وضع المدن والقرى والمزارع الأوكرانية في القائمة السوداء وعزلها عن إمدادات الطعام التابعة للاتحاد السوفييتي، وبالتالي تعميق أزمة المجاعة الأوكرانية وتحويلها لعملية إبادة منظمة للشعب الأوكراني كنظام عقابي على ثوراتهم.
تم منع المواطنين الأوكرانيين بشكل عام والمزارعين الأوكرانيين بشكل خاص من مغادرة حدود بلادهم بحثاً عن الطعام، ثم تم منع المساعدات الغذائية من الوصول للأراضي الأوكرانية، وبالطبع تبع ذلك عملية تعتيم إعلامية ضخمة في محاولة لإخفاء كل أثر لتلك الجريمة.
وصلت المجاعة لذروتها خلال عامي 1932 و1933، وفي ذلك الوقت قامت قوات منظمة من الشرطة والمنتمين للحزب الشيوعي بمداهمة منازل المزارعين والمواطنين ومصادرة كل ما يمكن أكله من الحبوب والطعام وحتى الحيوانات الأليفة، بالطبع كان دافعهم الأساسي هو الجوع، والتأثر التاريخي بالخطاب المؤامراتي الذي قام بزرعه الكرملين الروسي والحزب الشيوعي داخل سلك القوات الأمنية الأوكرانية.
بالطبع كانت نتائج المجهود الشيوعي لإبادة الشعب الأوكراني كارثية، وخلال عام 1933 مات على الأقل خمسة ملايين مواطن عبر الأراضي السوفيتية، ومنهم فقط- حسب دراسة قام بها فريق من الباحثين الأوكرانيين- 3.9 مليون مواطن أوكراني.
بالطبع كان أرشيف جهاز الشرطة الأوكراني مكدساً بالقصص المرعبة عن حالات الخطف وأكل لحوم البشر المدفوعة باليأس والجوع؛ مما دفع الفوضى للانتشار، وتكدسَت الجثث بين الشوارع فتحول المشهد الأوكراني في ذلك الوقت للوحة كابوسية مأساوية.
وخلال تلك السنين المفزعة، وبينما كان البشر يموتون جوعاً، لم يصب جهاز الشرطة السرية التابع للسوفييت أي نصب، فقد كانوا يستغلون تلك الفوضى للنيل من الخصوم السياسيين للنظام السوفييتي والقادة الدينين والسياسيين والاجتماعيين.
والآن وبعدما قام السوفييت والروس بإنكار جريمتهم ومحاولة إخفائها لما يقارب القرن، تحولت تلك المجاعة لذكرى لا يمكن بأي شكل محوها داخل الوعي الجمعي للشعب الأوكراني على غرار كارثة شيرنوبل.
وبشكل مأساوي، خلال عام 2019 أي منذ عدة سنوات فقط، تم الاعتراف بالمجاعة بواسطة ست عشرة دولة فقط بأنها عملية إبادة وتطهير عرقي لا تختلف في شيء عن الهولوكوست الذي قام به النازيون، وبالتالي الاعتراف بأن جوزيف ستالين وأتباعه قد قاموا بتنظيم هذه المجاعة بسبق الإصرار والترصد انتقاماً من الأوكرانيين وعقاباً لهم.
والآن وبينما تدور الحرب بين روسيا وأوكرانيا، يمكننا القول بأن ذكريات هذه الأحداث المفزعة هي ما يقود المقاومة الأوكرانية ضد الهجوم الروسي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.