يتعرّض الكبار والصغار لأبشع أنواع الظروف الصادمة والضاغطة خلال فترات الحروب والصراعات الداخلية أو الخارجية، وإذا كان الكبار أقدر على تحمل الصدمات من الأطفال، فإن الحرب وما يصاحبها من مصائب ونكبات يكون أثرها النفسي أكبر بكثير على الأطفال، ويرجع ذلك لعدم اكتمال نضج الأطفال نفسياً واجتماعياً ومعرفياً ووجدانياً، ما قد يؤدي إلى التشوه الفكري وزلزلة قناعاتهم وتهدمها وتكوّن اتجاهات العدوان والانتقام وعدم ثقتهم بأي شيء، حتى في أنفسهم، وقد يقعون ضحيةً للخوف الشديد والكوابيس التي قد تحتوي صوراً مما عاشوه.
الآثار السلبية للحروب على نفسية الأطفال
إن ما يشهده أطفالنا اليوم، ويشاهدونه، من ظروف مروعة سوف تترك صوراً لا تنسى، قد تؤثر على صحتهم النفسية وتتسبب في أزمات يصعب علاجها، وقد تتحول إلى أزمات نفسية مزمنة، فقد أشارت الدراسات إلى أن الأطفال الذين عاشوا النزاعات المختلفة في الشرق الأوسط، قد عانوا من اضطراب ما بعد الصدمة، بنسبة تراوحت ما بين 18% إلى 68%، خلال النزاعات المتعددة.
وقسمت هذه الاضطرابات إلى اضطرابات الصدمة الآنية: وشملت الاضطرابات السلوكية القلق الشديد والخوف من المجهول، بالإضافة إلى التوتر المستمر وعدم الشعور بالأمان، والتبول بالفراش، كما عانى الأطفال من الانعزال والشعور بالتهديد في كل وقت، أيضاً الشعور بأن الوالدين عاجزان عن حمايته.
اضطرابات ما بعد الصدمة: وشملت الاكتئاب، والإجهاد والهلع، بالإضافة إلى اضطرابات القلق، والإلحاد -من زاوية دينية- أيضاً اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة، واضطرابات في النوم، كما عانى الأطفال من الكوابيس الشديدة، والخوف المستمر، وانعدام الأمن، والمرارة.
هيّئ نفسَك قبل طفلك
عزيزي الأب، عزيزتي الأم، من المهم جداً أن ندرك جميعاً أن علينا أن نكون بمثابة نموذج وقدوة في الصلابة والصمود في الوقت الصعب، وربما لا نكون جاهزين لتنفيذ العديد من الأنشطة مع الأطفال في اللحظة نفسها، ولكن لنتذكر أنه يمكننا تنفيذها في حال استطاعتنا ذلك، وإن الدعم الذي يتلقاه الطفل من الأهل والأصدقاء والأقرباء وقت الظروف الصعبة يحميه من الأوضاع الضاغطة نفسياً وعدم حصول مضاعفات مستقبلية.
تذكر أن.. الطفل لا يستطيع فهم كل الأحداث التي تجري حوله، فقد يعتقد أنه السبب فيما يحدث من أمور، ولا يستطيع كل الأطفال التعبير عن خوفهم بالكلام، ولكن يمكن ملاحظة الخوف من خلال سلوكهم، وأن كل تغيير في بيئة الطفل قد يسبب ضغطاً نفسياً، ويسبب خوفاً لدى الطفل، فعندما يرى الطفل أباه وأمه خائفين فإنه يخاف أيضاً، فالأطفال يقلدون الكبار فيرتعبون ويخافون، فيجب التماسك في مثل هذه اللحظات العصيبة ومحاولة عدم إظهار الهلع والخوف أمام الأطفال.
كيف نحمي أطفالنا من الآثار السلبية للحروب؟
يعد دور الأهل في رعاية أطفالهم في مثل هذه الظروف الاستثنائيةأكثر أهمية من دور الطبيب المعالج لأن دور الأهل وقائي، أما دور الطبيب فهو علاجي والوقاية خير من العلاج.
في حالة وقوع الحدث على مقربة منهم
يتجلى دور الأهل في البدء مباشرةً بإحاطة أطفالهم بالطمأنينة، وعدم تركهم عرضة لمواجهة هذه المشاهد دون دعم نفسي، وذلك عن طريق الحديث المتواصل معهم وطمأنتهم بأن كل شيء سيكون على ما يرام، وأنهم في أمان ولن يصيبهم أي أذى، بكلمات فيها الكثير من الحب والحنان، ومحاولة تشتيت انتباههم عما يحدث إذا كانوا أطفالاً صغاراً، أما إذا كانوا أطفالاً كباراً فيمكن مناقشة ما يجري معهم وإقناعهم بأنهم في مكان آمن.
يمكنكم السماح لهم بالبكاء والسؤال عما يجري، فمن الضروري معرفة ما يدور في تفكيرهم وأن يعبروا عن مشاعرهم (الألم، الحزن، الغضب) وأحاسيسهم مع الانتباه للأسلوب والألفاظ التي يستطيع الطفل استيعابها والتفاعل معها مع عدم إرغام الطفل على التحدث عما يزعجه إذا كان رافضاً الحديث.
ولكن من الممكن تشجيعه أن يعبر بالرسم أو وصف ما حدث من خلال دور يحب أن يقوم به عادة أثناء اللعب، فيمكننا إعطاء الطفل الفرصة للتعبير عن نفسه، فهو بحاجة إلى نشاطات قد تشكل متنفساً لطاقاته وتشعره بأنه قادر على التحكم وقيادة نفسه والسيطرة على محيطه، وقد يتم ذلك عن طريق القصص وتمثيل الأدوار.
ابقَ بالقرب من طفلك، وأخبره عن مكان تواجدك إذا كنت بعيداً عنه، امنحهم مزيداً من العناق والدعم، وخصوصا في وقت النوم، اتخذ وقتاً أكثر للقراءة أو قضاء وقت إضافي مع طفلك في هذا الوقت الصعب، واعلم أن الطفل قد يتراجع في الأوقات الصعبة، وتقبّل تشبثه بك أو بعض السلوكيات غير الناضجة، وراقب عن كثب السلوك العاطفي والسلوكيات الأخرى لدى الطفل، وأجب على أسئلة طفلك بصدق واختصار، حيث إن إضافة الكثير من التفاصيل تربكه وتشعره أن العالم مكان سيئ وغير آمن، فيجب تجنيب الطفل سماع أو رؤية الأخبار مباشرة، نظراً لأنها يمكن أن تكون مخيفه جداً، ولحماية الأطفال الصغار شاهد التلفزيون أو استمع إلى الراديو بعيداً عنهم.
طمئن الأطفال بأن العنف معزول في مناطق معينة، وأنهم لن يتعرضوا للأذى، ودعهم يعرفون أنك قد فعلت كل ما تستطيع للحفاظ على سلامتهم، واشرح لهم أسس السلامة والتصرف أثناء التعرض للخطر (عن طريق اللعب إن استدعى الأمر).
إضافة إلى ضرورة التحدث عن المأساة، فهو أمر بالغ الأهمية لمساعدة الأطفال على التأقلم، ويستفيد الأطفال في سن المدرسة من المناقشات الجماعية والأنشطة، أما الأطفال الأكبر سناً أيضاً فيجدون أن ممارسة هوايات مثل الموسيقى أو الفن والرسم مفيدة بدورها سبلاً للتعبير عن مشاعرهم، وتعتبر المدرسة مكاناً جيداً للحفاظ على الإحساس بالحياة الطبيعية، فالتواجد مع الآخرين يمكن أن يساعد في تخطى الأزمات النفسية، والعمل مع المدارس قد يساعدكم على الشعور بالطمأنينة التي تحتاجون إليها بصفتكم أهلاً.
ومع مرور الوقت ينبغي أن تتلاشى ردود الفعل القوية على الأحداث المأساوية، ومعظم الأطفال يعودون إلى طبيعتهم المعتادة، ويجب مراقبة النزاعات مع الزملاء أو الأصدقاء، هل هي نزاعات قليلة أم لا يوجد اتصال مع الأصدقاء، ويجب المراقبة الدائمة للأطفال وملاحظة أي سلوك غريب يطرأ عليهم، بحيث يتم أخذه بعين الاعتبار وعرضه على المختصين النفسيين عند توافرهم.
ماذا إذا كانت الحرب في منطقة أخرى؟
فيجب عليك أن تتعرف على ما يعرفه طفلك عن الحرب من خلال توجيه أسئلة مفتوحة مثل "ماذا تعرف عن الحرب؟" أو "ماذا سمعت؟"، هذا يتيح لطفلك أن يشرح لك عن مخاوفه، وكذلك حافظ على هدوئك، فإشارات القلق والتوتر عند الكبار لها تأثير كبير على الطفل.
ثم قم بشرح الغرض من هذه الحرب أو أسبابها، فمن المحتمل أن يرغب طفلك في معرفة سبب خوض الحرب، فاجعل تفسيرك بسيطاً بقول شيء مثل "أن هدف البلد المعتدَى عليه من الحرب هو الحفاظ على أرضه"، وتحدث عن الكيفية التي تهدف بها الحرب لحماية الشعوب، ووضح أن العنف ليس طريقة جيدة لحل النزاع، ولكن في بعض الأحيان تقرر الدول أنها بحاجة إلى بدء حرب للحفاظ على أمن شعبها في المستقبل، واحذر الوقوع في التبريرات غير الأخلاقية وغير الإنسانية.
اجعل مناقشاتك مناسبة للمستوى العمري وتوخَّ الحذر، فآخر شيء تريده هو أن يخرج طفلك من الحديث وهو يشعر بخوف أكبر من الحرب، ولا تقلل من خطورة الحرب، ولكن ضع في اعتبارك أنه لا يحتاج إلى معرفة كل التفاصيل الدموية لما يحدث، لكن دائماً وأبداً التزم بالحقائق دون التحدث كثيراً عن نطاق التأثير، ولا تتنبأ بما قد يحدث بعد ذلك، أو عن كيفية استمرار حدوث أشياء مروعة في المستقبل، وحافظ على تركيزك على التسامح بدلاً من الانتقام، ولكن إذا لم يكن طفلك الصغير مهتماً بالحديث عن الحرب، فلا داعي لإجباره على إدراك ذلك.
تحدث بما يلائم عمر طفلك
فكّر في سن الطفل وتطوره عندما تشرح له الأمور، وحاول أن تحمي الرضع والأطفال الصغار من الصور أو الأصوات التي من الممكن أن تخيفهم أو تقلقهم، وساعد الأطفال على التمييز بين الحقيقي والخيال، ودعهم يعلمون أنهم لن يتم التخلي عنهم وأنهم لن يتعرضوا للأذى، علماً أنه قد تحتاج إلى استخدام طريقة اللعب معهم للعمل حول المشاعر الشديدة.
علينا أن نجيب عن أسئلة الطفل ببساطة وصدق، ولا نتركه في حالة لا يفهم فيها ماذا يحدث حوله، فلا يستطيع كل الأطفال أن يعبروا عن مشاعرهم، ولكننا الكبار نستطيع أن نتيح الفرصة للطفل ليحدثنا عن شعوره وعن مخاوفه، مع أهمية أنه إذا شعر الطفل بأن الآخرين يسخرون منه، ويستهزئون من مخاوفه، فلن يشاركنا بمشاعره في المستقبل، وهكذا نكون قد أضررنا بالطفل، والعكس هو الصحيح، ومن المهم كسر التوتر والتقليل من الخوف قدر الإمكان، من خلال الضحك واللعب، ويمكنكم قراءة قصص تتضمن أحداثاً جميلة، ولا ضير أن تكون من نسج خيالكم.
بالنسبة إلى الأطفال ما دون سن الثانية فإنهم لن يستطيعوا "فهم" ما يحصل في محيطهم، ولكن بالتأكيد يشعرون بالقلق والتوتر في محيطهم، ولذلك من المهم أن نحافظ على روتين الحياة اليومية "قدر الإمكان".
بينما الأطفال من سن 3-5 سنوات يخلطون الحقائق بالخيال، فلا تمدهم بمعلومات أكثر مما يسألون عنه، بل ساعدهم للشعور بالأمان وأنهم ليسوا في خطر، ساعدهم بوسائل متعددة كأن يمارسوا أنشطة الرسم ونشاط حركي يعبرون من خلاله عن مشاعرهم مثل التمثيل والرسم واللعب الخفيف.
انتبه إلى عدم تعرض الأطفال لمشاهدة الصور المرعبة في وسائل الإعلام والإنترنت، خصص مكاناً لك لمتابعة الأخبار، من المفيد أن تشارك الأطفال في تنفيذ أنشطة بسيطة ممتعة واللعب معهم، فهذا يساعدهم على الإحساس بالأمان.
أما الأطفال الأكبر سناً والمراهقون، فيجب بدء المناقشة معهم حول الحدث المأساوي باستخدام أسئلة مفتوحة، شجّع المراهقين على التعبير عن آرائهم وأفكارهم لتحسين الوضع، حاول احترام آراء أبنائك، حتى إذا كنت لا توافق عليه بشدة، وامتنع عن المجادلة حول ذلك أو التعبير عن آرائك بطريقة غاضبة، وساعدهم في العثور على أفضل الطرق للتعامل مع الوضع.
افعل أشياءً يحب طفلك القيام بها مع اتخاذ خطوات للحد من مخاوف الطفل، وكن واعياً حول ما إذا كنت ستسمح لهم بمشاهدة لقطات من التلفزيون، إذا كنت سوف تسمح بذلك أخبرهم ما سيشاهدون وابق معهم أثناء ذلك، فالتعرض المفرط لتلك المشاهد قد يصدمهم، ولكن من المهم تقييد التغطية الإعلامية للصغار، لأن المشاهد المزعجة التي يتم عرضها بالنشرات الإخبارية يمكن أن تكون مؤلمة للغاية لأطفال ما قبل المدرسة أو المدارس الابتدائية.
ولا ينبغي أن ننسى أن هناك فروقاً فردية بين الأطفال في ردود أفعالهم، وهذا يعتمد على نوع الحدث الصادم وطبع الطفل وعمره والجو العائلي، وعلاقة الطفل بأسرته وقدرته على التعبير عما يجول في فكره وتعبيره عن مشاعره، فالأطفال قد لا يظهرون شعوراً بالأسى والألم في صغرهم، لكن قد تظهر عناصر وذكريات الأحداث الصادمة في نشاطاتهم وألعابهم بعد فترة لاحقة من الزمن، لأن أخطر آثار الحروب على الأطفال ليست تلك الآثار التي تظهر وقت الحرب، بل ما يظهر لاحقاً في جيل كامل ممن نجوا من الحرب، وقد حملوا معهم مشكلات نفسية لا حصر لها.
في النهاية، أنت تعرف بشكل أفضل مدى نضج طفلك، ومقدار المعلومات التي يمكنه التعامل معها، وعلى هذا الأساس يمكنك تحديد ما يمكن قوله وما ينبغي التوقف عنده، لكن لا تستمر في الحديث إذا شعرت أن طفلك لا يحتمل المزيد، وفي أي حوار ينبغي أن يشعر بالأمان، وغالباً ما يشعر الأطفال بمزيد من الأمان والثقة عندما يعلمون أن هناك شيئاً يمكنهم فعله للمساعدة، يمكن تعليمهم أنه رغم الحرب يمكننا مساعدة الآخرين، كدعم الأصدقاء أو التبرع بالدم أو بالدواء والغذاء، إلى جانب الصور المختلفة من الأعمال التطوعية.
ولا تنسَ أنه من الطبيعي أن يشعر طفلك بالقلق والارتباك والانزعاج من مشاهد الحرب، لذلك راقب حالته النفسية، إذا شعرت بتغير مزاجي لعدة أيام متواصلة، أو أعراض مثل نوبات القلق ومشكلات النوم أو التبول اللاإرادي أو التأتأة في الحديث أو الصراخ والبكاء بدون سبب واضح، فيجب حينها عرض الأمر على الطبيب المختص.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.