ظلَّت الديون الخارجية تشكل معضلةً لدول العالم الثالث والعالم المتقدم على حد سواء، خاصة في فترة السبعينيات والثمانينيات، إذ شكَّلت عائقاً أمام المسيرة الإنمائية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلدان النامية، لاسيما فيما يتعلق بتمويل التنمية في تلك البلدان بصفة عامة، والسودان بصفة خاصة.
دوافع اللجوء للاقتراض
تتعدد الأسباب وفقاً للظروف التي تُحتم على البلدان النامية اللجوء إلى المؤسسات الدولية من أجل الاقتراض، ولكن تتشابه تلك الظروف إلى حد ما بين الدول النامية، ومن بينها انخفاض دخول الأفراد، والذي يعتبر من الأسباب الرئيسية، وذلك من أجل سد العجز في موازين مدفوعات دول العالم الثالث، الناتجة عن ضعف الاستثمارات المحلية ومشروعات البنيات التحتية في تلك البلدان، هذا فضلاً عن ضعف صادرات البلدان النامية، واعتمادها بشكل أساسي على المواد الأولية.
الآثار المترتبة على القروض الخارجية
يقول دكتور أحمد عبد الله، أستاذ الاقتصاد الدولي بجامعة النيلين "تمثل القروض الخارجية إشكالية حقيقية تواجه العالم الثالث، سيما عند تراكم متأخرات تلك القروض، لأنها تعمل على نقل مُعاكس للثروات والموارد من البلدان المَدينة إلى الدائنة، ما دامت تمثل استقطاع جزء من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا مؤدّاه انخفاض حجم الأموال المتجهة نحو المجالات الإنتاجية والتنموية في البلاد، ما يؤثر سلباً على استقرار الأسعار"، وأضاف أن "مدفوعات خدمة الدين لها أثر بالغ على الاستثمار المحلي، خاصة في حالة عجز الدولة عن سداد تلك الفوائد". وأوضح كذلك أن تلك الآثار السلبية سرعان ما تنعكس على المواطن من خلال السياسات التي تمليها المؤسسات الدولية للدول المدينة، منها ما يتعلق بتخفيض حجم الإنفاق العام الذي يتعلق بالتعليم والصحة والدعم الأسري وغيره من السياسات، التي أدت إلى توسيع الهوة بين الفقراء والأغنياء، وارتفاع عبء الإعالة لتلك الأسر، هذا بالإضافة إلى فقدان معظم تلك البلدان المدينة سيادتَها، من خلال تبعيتها للخارج، بخضوعها وتنفيذها لأجندة الدول المتقدمة.
هل للقروض الخارجية أجندة أخرى؟
رغم الانضمام المبكر للسودان لصندوق النقد الدولي منذ العام 1958م فإن ذلك لم يُخفف من وطأة القروض الخارجية، إذ تأزَّم الوضع عاماً بعد عام، واتضح ذلك جلياً من خلال ما يعانيه الشعب السوداني من فقر مدقع، تجاوز 60%، حسب أحدث التقارير المنشورة. وفي هذا السياق أوضح معتز موسى، رئيس الوزراء، وزير المالية السابق في العهد البائد، بأن تراكم المديونية الخارجية لم يكُن وليد الصدفة، وإنما نتاج تحضير مسبق، بدأ بإشعال نار الحرب في جنوب السودان قبيل الاستقلال في العام 1955م، ومن ثم فرض حلول عن طريق تلك الحرب، وما زاد الأمر سوءاً هو صدور قرار في العام 1972م، يسمح للحكومة السودانية بالاقتراض من المؤسسات الدولية، وبعدها بخمسة أعوام ظهرت أزمة ديون السودان على السطح، من خلال طرح مبادرات نادي باريس، والتي استمرت لثلاثة أعوام، لم يستفِد منها السودان كثيراً، ومن ثم بدأت الحرب واستمر الحصار على السودان، وتزامن هذا مع إعلان صندوق النقد الدولي في العام 1986م بأن السودان دولة غير مؤهلة في العام 1993م، ما أدى إلى تجميد عضوية السودان وتجميد أصوله الخارجية بسبب تراكم المديونية الخارجية، وهذا ما أفضى إلى فقدان السودان إلى منح تُقدر بحوالي 174 مليون دولار في تلك الأعوام.
حجم قروض السودان الخارجية
وقد أشار د. مهدي عثمان الركابي، أن نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي خلال العام 2010م فقط، قد ارتفعت إلى أربعة أضعاف إذا ما قورنت بالسنوات السابقة، وفي هذا مؤشر سلبي سيؤثر على النشاط الاقتصادي برمته، وهذا يعود لعدة أسباب، منها الإفراط في تلقي القروض الخارجية، والذي يتمثل في غياب سياسة الاقتراض المناسبة، وتهريب الأموال للخارج من قِبل البعض، هذا بالإضافة إلى فشل نمط التنمية والتصنيع، المتمثل في سياسة إحلال الواردات وغيرها من الأسباب. وفي ورقة أعدها خالد التيجاني، رئيس تحرير صحيفة إيلاف الاقتصادية بعنوان (أثر سياسة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على العدالة الاجتماعية في السودان 2017)، بأن حجم ديون السودان حتى العام 2017 تبلغ نحو 50 مليار دولار، ما يعادل 61% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أن أصل الدين لم يتجاوز حاجز 16%، بينما تبلغ متأخرات الدين حوالي 84% من جملة الدين.
استجابة السودان لسياسات المؤسسات الدولية
إن انعزال السودان دولياً وإقليمياً، وتجميد عضويته وأصوله الخارجية أدى إلى تقديم بعض التنازلات من قِبل الحكومة السودانية، تجاه تبني سياسات صندوق النقد الدولي، حينما قامت الحكومة بتطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي في العام 1997-2001م، مع تقديم دفعات سنوية استطاع بموجبها إعادة الثقة مع صندوق النقد الدولي. ومن ثم تم تنفيذ اشتراطات صندوق النقد الدولي المتمثلة في:
- عمل استراتيجية واضحة لسداد فوائد الديون، وقد عمل السودان على تنفيذ ذلك.
- وهناك شرط سياسي آخر، وذلك بتحسين العلاقات الخارجية للسودان، وقد بدأ السودان مجهودات فنية تتعلق بإحلال السلام، بداية باتفاقية السلام الشامل مع الحركات المسلحة في جنوب السودان في العام 2005م. وأعقب ذلك اتفاقية الدوحة لحل مشكلة دارفور، ومن ثم الخيار الصفري (zero option)، لتسوية ديون السودان وجنوب السودان.
- أيضاً هناك شرط آخر يتعلق بإعداد ورقة استراتيجية لتخفيف حدة الفقر، وقد أكمل السودان تلك الورقة، وقُدمت لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإجازة النهائية.
- هذا بالإضافة إلى عدة اشتراطات، من بينها العمل على تطبيق نهج الحكم الرشيد، وقد بادر النظام السابق من خلال الحِوار الوطني الذي تبنته الحكومة البائدة، ومطابقة المديونية الخارجية للسودان، هذا فضلاً عن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي حول برنامج متوسط المدى تحت إشراف الصندوق.
رغم تنفيذ تلك الاشتراطات من قِبل حكومة السودان، وتعاونها مع صندوق النقد الدولي، فإن ذلك ظل مرهوناً بتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ما اتضح بجلاء بأن قضية الديون أو القروض الخارجية لم تكن قضية اقتصادية فحسب، بل تعتبر قضية سياسية من الدرجة الأولى، يُراد منها تركيع دول العالم الثالث، ومن بينها السودان، من أجل تنفيذ أجندة خارجية، وهذا ما اتضح بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) من تسوية ديون البنك الدولي ووعود أخرى رهينة بأجندة أخرى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.