عاشت قناة "دويتشه فيله" الألمانية قبل أيام أحداثاً متسارعة، بعدما تم الإعلان عن طرد صحفيين عددهم 7، اتهمتهم لجنة عيّنتها إدارة هذه المؤسسة الدولية الألمانية بأنهم "معادون للسامية".
وأكد من فُصلوا، أغلبهم فلسطينيون، في تصريحات لوسائل الإعلام، أن الفصل جزء من حملة ضد الصوت الرافض للسياسات الإسرائيلية، لا سيما مع الخلط الكبير الواقع في ألمانيا بين انتقاد إسرائيل وبين معاداة السامية.
وينتشر في ألمانيا لوبي صهيوني يعمل لصالح إسرائيل ويدافع عن مصالحها، واستطاع في الفترة الأخيرة التوغل في وسائل الإعلام الألمانية.
وينتشر في ألمانيا لوبي صهيوني يدافع عن مصالح إسرائيل، يتكون من مؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي ومراكز الدراسات وشخصيات، بالإضافة إلى جمعيات حقوقية، واستطاع هذا اللوبي في الفترة الأخيرة التوغل في وسائل الإعلام الألمانية.
كيف بدأت قصة طرد صحفيين؟
بدأت قصة طرد صحفيين أول مرة خارج قناة "دويتشه فيله" بعدما نجح صانع محتوى اسمه إيرفان بيتسي، وهو على صلة بحزب "البديل"، اليميني المتطرف، في منع الصحفية الفلسطينية نعمة الحسن من تقديم برنامج علمي في قناة WDR العمومية.
وتمكن صانع المحتوى المشهور، حسب ما وثّقه المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، البحث في أرشيف الصحفية القديم، والعثور على مقاطع تُبيّن مشاركتها في مسيرة تضامنية مع فلسطين، اعتبرها اللوبي الصهيوني "معادية للسامية".
بعدها، شنَّ الإعلام الألماني اليميني حملةً كبيرة على نعمة الحسن عبر أذرعه الإعلامية، ما دفع بالقناة إلى وقف التعامل معها رغم اعتذارها عن المشاركة في تلك المسيرة.
قضية تنقيب اللوبي الصهيوني وراء الصحفيين ليست الأولى، فلقد حصل ذلك سابقاً مع الصحفية الفلسطينية تالا حلاوة، التي فُصلت من قناة BBC، في يوليو/تموز 2021، بعد بحث أطراف إسرائيلية في حسابها على تويتر، ووجدوا تغريدةً لها قبل التحاقها بالمؤسسة البريطانية، استخدمت فيها "وسماً مسيئاً".
فصل الصحفية الفلسطينية تالا حلاوة، رغم اعتذارها عن التغريدة، وتأكيدها أنها كانت مسيئة كان الإلهام الأكبر للوبي الصهيوني، الرافض للصوت الفلسطيني في ألمانيا.
ولم يكتفِ هذا اللوبي الصهيوني في ألمانيا بقضية الصحفية تالا حلاوة ونعمة الحسن، بل بدأ بالبحث عن ضحايا عرب جدد، ولم يكن الهدف أفضل من مؤسسة "دويتشه فيله".
ماذا حصل في "دويتشه فيله"؟
بدأت قصة طرد صحفيين داخل "دويتشه فيله" بعد نشر تقرير في صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ"، من طرف موريتس باومشتيغر، وهو صحفي يملك بعض المعرفة بالعالم الإسلامي على "الطريقة الليبرالية".
التقرير احتوى على معلومات منسوبة إلى تغريدات لبعض الصحفيين والمتعاقدين مع "دويتشه فيله"، بعضها يعود إلى 11 سنة مضت، ما يعني أن من بحث عنها أخذ وقته الكافي، وقام بالتصويب على صحفيين بعينهم.
التقرير وجّه اتهامات خطيرة بـ"معاداة السامية"، و"إنكار الهولوكوست"، بالإضافة إلى تهمة جاهزة في ألمانيا هي كراهية إسرائيل.
بعد نشر التقرير تساءلت الصحفية الألمانية كارين لوكفريد، عما دفع الصحفي باومشتيغر للتجسس والتشهير بزملاء عرب له في المهنة، مؤكدة أن انحيازه لإسرائيل واضح.
نشر باومشتيغر تقريره يوم 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، ومباشرة تم إعلان النفير في جزء واسع من الصحافة الألمانية، خصوصاً تلك المدافعة عن إسرائيل، ونُشرت الاتهامات في أكثر من صحيفة، مع تعمد إغفال ردود الصحفيين، رغم نشرها في المقال الأصلي.
لكن الرد الأكبر كان من مدير DW، بيتر ليمبورغ، الذي أراد إنقاذ نفسه من وجود تهمة خطيرة هي معاداة السامية داخل "الموجة الألمانية"، خصوصاً أنها تمول من أموال دافعي الضرائب، فأعلن بسرعة كبيرة عن طرد صحفيين مذكورين في التقرير، ثم أعلن عن تشكيل لجنة خارجية في الساعات الموالية، وخرج ليدافع عن نفسه في الإعلام.
وأكدت مصادر أن سبب تفاعله الكبير يعود وفق معلومات متطابقة إلى تخوفه من ضغوط تدفع إلى إقالته، لا سيما أن الحملة الصحفية ضد "دويتشه فيله" تزامنت مع تشكيل الحكومة الجديدة، التي تعد من الممولين للقناة.
لجنة على المقاس
قرّرت إدارة "دويتشه فيله" تعيين لجنة خارجية للتحقيق مع الصحفيين المعنيين، تكوّنت من شخصيتين معروفتين بمحاباة إسرائيل، وهما وزيرة العدل السابقة زابينه لويتهويزر- شنارينبيرغر، المنتمية إلى الحزب الديمقراطي الحر، وهو حزب ليبرالي يميني من أكبر الأحزاب الموالية لإسرائيل في ألمانيا، والمتخصص النفسي الإسرائيلي أحمد منصور، الذي يقدم نفسه خبيراً في شؤون الإسلاميين.
عبر أحمد منصور سابقاً عن آراء ضد طريقة عيش المسلمين في ألمانيا، منها مطالبته بمنع المحجبات من العمل في التدريس، كما أنه يطالب بإدماج المسلمين في المجتمع الألماني على الطريقة الليبرالية، التي تحذف تماماً هويتهم وخصوصيتهم، كما ينتقد على الدوام مجالس المسلمين في ألمانيا، حسب بحث قام به "عربي بوست".
ارتبط أحمد منصور، وهو فلسطيني الأصل يحمل الجنسيتين الإسرائيلية والألمانية، بـ"المؤسسة الأوروبية للديمقراطية"، وهي مركز يروج لسياسات إقصائية ضد المسلمين في أوروبا، حسب ما تؤكده مبادرة بريدج، التابعة لجامعة جورج تاون.
أما فيما يتعلق بوزيرة العدل السابقة، فهي تعمل مفوضة ولاية شمال الراين ويستفاليا لشؤون معاداة السامية، التي حادت عن الهدف الرئيسي لهذه المفوضية بحماية اليهود من أيّ تضييق أو عداء، خصوصاً للماضي المأساوي لهم مع النازية، ومعاناتهم من جرائم ضد الإنسانية في الحرب العالمية الثانية.
وكان منصور هو من كُلف بإعلان توصية طرد صحفيين في دويتشه فله، أبناء بلده الأصلي الذي لا يعترف به، خلال الندوة الصحفية التي تلت الإعلان عن النتائج. ثم طلب من المؤسسة أن تحقق مع ثمانية صحفيين آخرين، جلهم فلسطينيون، كما وجه بإنهاء الشراكة مع مؤسسة إعلامية فلسطينية.
والخطير في توصيات اللجنة المنشورة للعموم هو محاولة فرض شروط على الشركاء العرب، ومن ذلك الاعتراف بإسرائيل، وعدم نشر ما قد يعد إشارة لرفض حقها في الوجود.
وبالإضافة إلى طرد صحفيين، أوصى تقرير اللجنة الخارجية بتقوية حضور "دويتشه فيله" في إسرائيل، وبالتوقف عن استضافة ضيوف يُعرفون بمواقفهم ضد إسرائيل.
رد الإعلام الألماني
أكثر من اهتم بتقرير الاتهامات بمعاداة السامية مؤسسات صحفية تابعة لمجموعة "أكسل شبرينغر" الألمانية، أكبر مؤسسة إعلامية في أوروبا، تدافع عن إسرائيل وتملك صحيفتي "بيلد" و"دي فيلت".
بدأت صحفية في "بيلد" التحريض ضد الصحفيين العرب لطردهم، وكانت تصفهم في تقاريرها بـ"كارهي إسرائيل"، وتتابع أيّ خبر عن الموضوع لأجل تضخيمه.
وفي صحيفة "دي فيلت"، ركز صحفي مبتدئ على تضخيم الموضوع، وقد اعتمد على ما ينشره حسابٌ مجهول على تويتر، من صور شاشة لمجموعة من الصحفيين والمتعاونين مع القسم العربي في "دويتشه فيله".
ونشر الصحفي ما اعتبره تحقيقين استقصائيين، يعتمدان بشكل كامل على ما نشره الحساب المجهول الذي تتابعه شخصيات تتبنى الرواية الصهيونية.
وأكبر احتفاء خارج مؤسسة "أكسل شبرينغر" كان من رئيس تحرير النسخة الألمانية من "فايس"، وهو من قام بالبحث عن الشراكات الإعلامية لـ"دويتشه فيله" مع مؤسسات عربية.
ونشر هذا الصحفي تقريراً أول عن منشورات "معادية للسامية" في شبكة رؤيا الأردنية، ما دفع بإدارة دويتشه فيله إلى وقف التعاون معها، وانتقل لاحقاً إلى مؤسسات أخرى، خاصة أنه اعتبر قرار إدارة "دويتشه فيله" نصراً له.
وبعد انتقادات وجَّهها له صحفي ألماني، بكون النسخة العربية من "فايس" تنشر ما قد تعتبره ألمانيا معادياً للسامية، نشر رئيس تحرير فايس، تدوينة أكد من خلالها أنه "يحترم كثيراً إسرائيل، ويعتبرها متقدمة للغاية حتى على ألمانيا".
ولم تدافع أية صحيفة ألمانية عن الصحفيين العرب المتهمين، ولم تبحث عنهم لإجراء حوارات معهم، واكتفت جلها بنقل بيانات إدارة "دويتشه فيله" ضدهم.
ورغم وجود بعض الصحف القليلة التي لا تتبنى هذا التحريض، فقد بقيت صامتة أو نقلت خبر الفصل كما هو.
ولاحظ "عربي بوست" أن الصحفيين المشاركين في الحملة الضاغطة لطرد الصحفيين العرب كانوا يعيدون تغريداتهم فيما بينهم، حتى تصل إلى جمهور أكبر، مع إتاحة المجال للأصوات اليمينية لمزيد من الإساءة للصحفيين العرب.
كيف دافع الصحفيون عن أنفسهم؟
في البداية كان عدد الصحفيين الموقوفين خمسة، وبعد طردهم طرد صحفيان آخران، ما يجعل المجموع سبعة، جلهم يعملون في ألمانيا واثنان في لبنان.
الجنسية الأبرز بين المتضررين من طرد صحفيين هي الفلسطينية، إذ يصل عدد الفلسطينيين المطرودين إلى أربعة، كما وصل التحقيق إلى مراسلين عرب خارج ألمانيا لا ينطبق عليهم القانون الألماني، ويعيشون في دول لا تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.
دافع الصحفيون عن أنفسهم، وأنكروا تماماً معاداة السامية أو العداء لليهود، وبينهم مرام سالم، التي أكدت أن حسابها فارغ من معاداة السامية، وكانت التدوينة التي نقلها عنها تقرير "زود دويتشه تسايتونغ"، تتحدث عن أنها ملزمة بتشفير تدويناتها على فيسبوك، لمنع الترجمة التلقائية، لكنها وجدت نفسها هي الأخرى مطرودة.
فرح مرقة، التي طردت كذلك، أكدت أن ما نُسب لها من قول بأنها ستنضم لتنظيم "الدولة الإسلامية" لو كانت ستحارب إسرائيل جاء في مقال ساخر، وقبل انضمامها إلى "دويتشه فيله"، وأنها تحارب دوماً التطرف الديني.
كما برر باسل العريضي، مدير مكتب بيروت، أن تدوينته التي قال فيها إن من "يتعاونون مع إسرائيل خونة ويجب إعدامهم"، تعود لعام 2014، قبل التحاقه بـ"دويتشه فيله" بأربع سنوات، وأنها "تندرج" في سياق قانون لبناني يعتبر إسرائيل "عدواً"، كما أنه حذفها منذ مدة.
واتّجه عدد من الصحفيين المطرودين إلى القضاء الألماني بحثاً عن إنصافهم، إذ لم تعترف المؤسسة بجهودهم داخلها، ولا بأن قراراً مماثلاً قد يؤدي إلى إنهاء مسارهم المهني.
ويرى بعض الصحفيين الموقوفين أنهم ذهبوا ضحية و"كبش فداء لمعارك داخلية، سياسية وإعلامية وتمويلية وحتى تاريخية"، حسب موقع المفكرة الذي تحدث إليهم.
وردت دويتشه فيله على استفسارات بعض الصحفيين بأنها باتت تعتمد على تعريف "معاداة السامية"، الذي يقدمه التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA).
وتدعي دويتشه فيله أنها مع حرية التعبير، وتنشر ذلك بشكل ثابت على صفحاتها على مواقع التواصل، ولديها صفحة تحت اسم "حرية التعبير"، كما توزع جوائز في هذا الإطار.
لكنّ مغردين عرب ردوا عليها بأنها حرية سقفها إسرائيل، وهو ما تأكد خلال الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحماس، عندما قامت رئيسة تحرير المؤسسة بتعميم إرشادات تقوم بتقييد التغطية الصحفية في التعامل مع الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الفلسطينيين.
كل شيء إلا إسرائيل في ألمانيا
كل من يعيش في ألمانيا يعرف أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي يمكن أن يفصل أحدهم أو يدفع إلى الإقالة إذا انتقدها في ألمانيا، وهو ما وقع قبل أشهر مع سيدة من أصول تركية، كانت عضواً في الحزب المسيحي الديمقراطي، وفُصلت لانتقادها التصعيد الإسرائيلي على غزة، بشهر مايو/أيار 2021، وهو كذلك ما وقع مع شخصيات سياسية وحقوقية سابقة.
وفي المحصلة لا يظهر قرار إدارة "دويتشه فيله" غريباً جداً، وهو جزء من محيط ألماني تخلّى عن الموضوعية في مقاربة الصراع العربي-الإسرائيلي.
وباتت ألمانيا معروفة بانحياز شديد للرواية الإسرائيلية، وسبق لأنجيلا ميركل، المستشارة السابقة، أن صرحت خلال الحرب الأخيرة مع حماس أنه يحق لإسرائيل الدفاع عن نفسها، كما خرج حينها المستشار الحالي، أولاف شولتز، في مظاهرة "تضامناً مع إسرائيل".
وقبل ذلك، صادق البرلمان الألماني عام 2019 على قانون تجريم حركة مقاطعة إسرائيل BDS، وتصنيفها معادية للسامية، بعد حملة ضغط قام بها لوبي مقرب من إسرائيل.
ومؤخراً كانت الحكومة الألمانية من الحكومات القليلة في العالم التي هاجمت منظمة العفو الدولية، بعد تقريرها الذي اتَّهم إسرائيل بانتهاج سياسات الأبارتايد.
“لماذا المصادر مجهولة في هذه القصة؟
بموجب إرشادات موقع “عربي بوست”، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر والتي تأكدنا من مصداقيتها، لكننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى.
نحن ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، لكن لدينا قواعد وإجراءات لمعالجة هذه المخاوف، منها أنه يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر، ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة. نحن نتفهم حذر القراء، لكن يجب تفهم أن المصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية، وسلامتها.”