إحدى المراحل المعرفية في التاريخ البشري، التي تسردها أدبيات علوم الإنسان أو ما يُسمى في الأكاديميا بـ"الأنثروبولوجيا" هي مرحلة القبيلة البدائية، حيث كانت وسائل الحصول على المعرفة شحيحة؛ لذا يعتمد أفراد القبيلة على المشعوذ للقيام بأدوار عديدة: علاج المرضى، التعرف على الظواهر الطبيعية وتوقعها، التحدث مع الآلهة والتوسط للناس عندها.
في المقابل، كان المشعوذ يحصل على مقابل مادي ومجتمعي، حيث يتكفل أفراد القبيلة بتوفير حصته من الطعام والملبس، دون أن يخرج هو للصيد أو الزراعة، كذا يحصل على الاحترام والتقدير مقابل ما يفعله؛ لأنه يملك معرفة لا يملكها غيره، طبعاً لا يحظى مشعوذ القرية بالقبول من الجميع، فبعضهم يعارضه ويتهمه بالخداع واستغلال الكادحين البسطاء.
مع تطور حياة البشر وامتلاكهم تقنياتٍ تُتيح لهم الوصول إلى مصادر معرفة أكبر وأكثر موثوقية تَراجَع دور المشعوذ وما يمثله من سلطة معرفية، ولم يعد الناس بحاجة إلى وسيط لتلقي المعرفة، حتى لو كانوا في مستوى اجتماعي منخفض ويملكون موارد قليلة، وسارت الأمور إلى غاية الوصول إلى ديمقراطية المعرفة، حيث أسهم وجود شبكة الإنترنت وما تم بناؤه عليها من منصات في إيصال المعلومة بشكل مباشر من مصدرها نحو المتلقي، تستطيع مشاهدة ظاهرة علمية، أو حدث اجتماعي في النصف الآخر من الكرة الارضية وأنت في بيتك دون حاجز أو وسيط.
إذا زالت الحواجز وصارت المعرفة متاحة، والمفترض أن نعيش في عالم من الحقيقة الواضحة، أليس كذلك؟ سنعود للإجابة لاحقاً.
لاهتمامي بمواضيع الفضاء أصطدم بشكل متكرر مع تعليقات وملاحظات تُنكر الكثير من الأخبار التي تُنشر، والاتهام الأكثر شيوعاً هو أنك أحمق؛ لأنك تُصدق ناسا، والحديث عن وكالة "ناسا" كونها مصدر الأخبار المزيفة والخدع البصرية التي تهدف للسيطرة على البشر. أعرف أنه لكثير من الناس يبدو هذا النوع من الطرح سخيفاً ومضحكاً، لكنه في الحقيقة يكشف عن وجه من التعامل مع المعرفة، يُشبه في بعض أوجهه التعامل مع مشعوذ القرية.
وكالة "ناسا" بكونها أكبر هيئة حكومية وأغزرها نشراً فيما يتعلق بالعلوم الفضائية، بالإضافة لكونها تابعة للحكومة الامريكية التي تملك سمعة غير طيبة بين عدد لا بأس به من البشر، تعتبر الهدف الأول لسهام التكذيب والاتهام بالدجل والخداع، من يختار هذا الموقف يعتمد على الطعن في مصداقية "ناسا"؛ كي يُثبت كذب وخطأ المعلومات نفسها، فالفضاء وعلومه بالنسبة له يعني وكالة ناسا؛ لأنها "مشعوذ القرية" في هذا المجال، ويصل بسرعة إلى نتيجة تُشبه لاعب الشطرنج عندما يقول "كش ملك"؛ أي قُضي الأمر.
منتحل هذا الموقف يُهمل الكثير من الحقائق المنطقية:
أولها أن علم الفلك يستند في أساسه على معارف بشرية متفق عليها، تتمثل في الفيزياء والرياضيات والكيمياء، ولا وجود لعلوم الفلك دونها، لذا افتراض وجود خطأ فيه يعني العودة لمناقشة الأساسيات في هذه العلوم الثلاثة على الأقل، لكن المناقش بهذه الطريقة لا يقبل الرجوع لهذه الأساسيات، بل يواصل اتهام مصدر المعلومة والطعن في مصداقيته.
ثانيها أن الحديث بهذا المنطق يفترض وجود بشر عاديين، وهم نحن، وبشر آخرين متفوقين يُمكنهم اختلاق ملايين الأخبار الكاذبة، دون أن يكشفهم أحد، هذا الإحساس بالانسحاق أمام شخص متفوق تقنياً، وتصوّره في حالة الـSuperman يجعل التكذيب أول الميكانيزمات الدفاعية، التفكير بمنطق أنهم أقوياء جداً وقادرون على خداعنا وتضليلنا، ونحن جاهلون جداً وضعفاء. بينما الحقيقة أننا كلنا بشر، والاكتشافات العلمية يمكن فهمها وتحليلها، وحتى نقدها بكل بساطة إذا امتلكت الحد الأدنى من العلوم الأساسية التي ذكرناها سابقاً.
ثالثها أن وكالة ناسا ليست المصدر الوحيد للمعلومة، ولا المحتكرة الوحيدة للمجال. وكالات الفضاء الأوروبية والروسية والهندية والصينية واليابانية كلها تملك إنجازات. قد يقال الأمريكان والأوروبيون واليابانيون حلفاء، وقد يقومون بالتغطية على بعضهم البعض، وترويج الكذب بشكل مشترك، لكن ما الفائدة التي تعود على خصومهم من ترويج الأمر نفسه؟ أليس الأكثر فائدة للروس أو الصينيين كشف زيف وكذب الغربيين وإظهار الحقيقة؟!
رابعها أن هذه الوكالات تتيح قسماً هائلاً من البيانات التي تحصل عليها كمشاعٍ لعامة الناس ليطّلعوا عليها، بل إنها في كثير من الأحوال تطلب المساعدة؛ لأن ما تحصل عليه يفوق قدرتها على التحليل والتفسير. يمكن لأي أحد أن يجد جبالاً من البيانات الرقمية والصور وتسجيلات صوتية وفيديوهات للظواهر الفضائية، مع توفر الكثير من الأدوات التقنية المساعدة على التحقق والتثبت من مصداقيتها.
خامسها أن المعترضين على أمور محددة في علم الفضاء لا يجدون مشكلة في التسليم بأخرى والانتفاع من فوائدها دون مشكلة. يستعمل شبكة تحديد المواقع العالمية GPS، يشاهد التلفاز، ويستعمل الإنترنت والهاتف، يركب الطائرات التي تعتمد على الأقمار الصناعية في العديد من أوجهها. وهي تطبيقات جاءت من نفس الجهات التي يتهمها بالكذب والتلفيق والخداع، فهو يصدقها هنا ويكذبها هناك دون الشعور بالتناقض.
حسناً، أليس هذا مبالغة مني في تصديق هذه المؤسسات والوكالات، أليس يحكمها بشر معرضون للخطأ، ويملكون من الدوافع والانحيازات ما يجعلهم يروّجون لأفكار معينة دون أخرى؟
صحيح، لذا الهدف من اتخاذ مجال الفضاء مثالاً هو الرغبة في القول إنه لا يجب التعامل معه كأنه سحر، رغم أوجهه المبهرة الباعثة على الدهشة، بل عمل بشري عادي قابل للنقد والمراجعة، وقبل كل هذا قابل للفهم والاستيعاب من أناس عاديين مثلنا، يكفي فقط التعلم والتفقه في العلوم التابعة له، ثم استنكار ما بدا خطؤه من خلال تقديم دليل يدحضه.
هذا المنطق ينسحب على غيره من العلوم والظواهر التي تؤثر في حياتنا أكثر، والسيولة المعرفية التي نعيشها حالياً علاجُها هو الرجوع إلى الأصول المعرفية التي يكاد ينعدم الخلاف حولها؛ لأنها نتائج تم إثباتها بالتجربة آلاف المرات، وثبت التوافق حولها.
القضاء على مفهوم مشعوذ القرية كمنطلق للتعامل مع العلم يكون بالانتقال من ثنائية التصديق التام أو التكذيب القاطع، إلى امتلاك أساسيات المعرفة، ثم الانخراط في مناقشة هذا العلم بأدواته، واختيار ما يصلح، ونبذ ما لا يصلح، دون الإحساس بالدونية والخوف تجاه من أنتجه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.