في جبال الألب، قبل أكثر من 5 آلاف عام وقعت جريمة قتل مروعة راح ضحيتها رجل سميناه "أوتزي" أو "رجل الجليد"، لا نعرف في الواقع الاسم الحقيقي لهذا الرجل، لكن العلماء استطاعوا استنتاج الكثير من المعلومات عنه وعن الحقبة التي عاش فيها لأن جسده تحنط بشكل طبيعي ليصبح "أشهر مومياء أوروبية".
أوتزي أو رجل الجليد.. مومياء تسبق أول هرم بُنِي في مصر
قبل ثلاثين عاماً تم اكتشاف مومياء مدفونة في الجليد على حافة بحيرة في جبال أوتزال الألب المتاخمة للنمسا وإيطاليا، وأطلق على صاحبها اسم "أوتزي" المعروف أيضاً بـ"رجل الجليد"، وأوتزي هو اسم الوادي الممتد على الحدود الإيطالية النمساوية حيث عثر على المومياء.
وفي حين اشتهر الفراعنة بتحنيط موتاهم بعناية، قامت الطبيعة بحفظ جسد أوتزي بشكل تلقائي لأكثر من 5 آلاف عام.
أثار هذا الاكتشاف ضجة عالمية، فكان موضوعاً للعديد من الأبحاث والدراسات والكتب والأفلام الوثائقية التي تناولت حياة "أوتزي" والحقبة الزمنية التي عاش فيها.
عاش أوتزي قبل حوالي 5200 (3350 – 3110 قبل الميلاد) أي قبل أن يتم تشييد أي مدينة أوروبية، كما أنه أقدم من أول هرم بُنِي في مصر، ومن خلال دراسة جثته استطاع العلماء جمع الكثير من المعلومات عنه.
عانى من الكثير من الأمراض ورسم 61 وشماً على جسده
كان أوتزي نحيفاً وقصيراً وكان يبلغ من العمر 46 عاماً تقريباً عندما قُتل.
نعلم أيضاً أن أوتزي كان أعسر واعتقد العلماء منذ فترة طويلة أن عينيه – اللتين ما زالتا محفوظتين في تجويفهما – زرقاوان، لكن التحليل الجينومي أظهر عكس ذلك.
إذ يقول ألبرت زينك، رئيس معهد EURAC لدراسات المومياء في بولزانو: "يمكننا إثبات أن عينيه بنيتان وشعره بني غامق، ولديه لون بشرة متوسطي" .
أما فصيلة دم رجل الجليد فهي O، وقد عانى على ما يبدو من الكثير من الأمراض، فقد كان يعاني من عدم تحمل اللاكتوز، كما كان يعاني من شذوذ وراثي نادر حال دون تكوين زوج أضلاعه الثاني عشر.
وعانى كذلك من تسوس الأسنان والطفيليات المعوية ومرض لايم والتهاب الركبتين والوركين والكتفين والظهر.
ليس هذا فحسب، فقد تعرض أوتزي لكسر في العديد من الضلوع بالإضافة إلى كسر في أنفه خلال حياته، وتشير الخطوط الأفقية في أظافره إلى نوبات متكررة من الإجهاد البدني- من المحتمل أن تكون ناجمة عن سوء التغذية- وذلك في الأشهر القليلة التي سبقت وفاته.
أيضاً كان لدى أوتزي استعداد وراثي للإصابة بتصلب الشرايين، ويؤكد الفحص بالأشعة المقطعية أن حالته هي أقدم حالة معروفة لأمراض القلب في العالم.
ومن الأمور المثيرة للاهتمام التي لوحظت في مومياء أوتزي، أن الرجل رسم ما يقارب 61 وشماً على جسده، ويعتقد أن الوشوم في ذلك الوقت كانت تستخدم لأغراض دينية أو حتى كوسيلة للشفاء من بعض الأمراض.
من الأناضول إلى الألب.. كيف ساعدنا أوتزي في فهم ملامح العصر الحجري الحديث؟
بعد دراسة الحمض النووي الخاص بـ"أوتزي" اكتشف العلماء أنه من مزارعي العصر الحجري الحديث الذين هاجروا من الأناضول (تركيا حالياً) منذ 6 إلى 8 آلاف عام.
ووفقاً للمعلومات المستخلصة من الحمض النووي، فإن سلالة والدة أوتزي لم تعد موجودة في العصور الحديثة، لكن سلالة الأب لا تزال موجودة إلى الآن حيث تعيش في مجموعات موجودة في جزر البحر الأبيض المتوسط، وخاصة سردينيا.
وقد ساعد اكتشاف أوتزي على فهم الكثير من ملامح الحياة في العصر الحجري الحديث، فعلى سبيل المثال تم اكتشاف بعض ملابس أوتزي وأغراضه الخاصة.
فقد كان يرتدي حذاء واحداً فقط، ولديه معطفان واحد خفيف والآخر أثقل وزناً وقد تم تجميعهما من جلود الأغنام والماعز المحلية، بينما كانت قبعته مصنوعة من فراء دب بني.
وعلى ما يبدو فقد سافر الرجل عبر جبال أوتزال الألب بحقيبة ظهر بإطار خشبي وجعبة من جلد الغزال مع 20 عموداً للسهام، وتم شحذ خنجره المصنوع من الصوان بأداة مصنوعة من خشب شجرة الليمون وطرف قرن الوعل المتصلب بالنار. كما احتوت حقيبته على لحاء شجرة البتولا والتي كان يستخدمها على ما يبدو لإشعال النار.
كذلك حمل أوتزي فأساً نحاسية لها مقبض ملفوف بجلد البقر.
آخر وجبة تناولها قبل مقتله
وفقاً لما ورد في موقع National Geographic، فقد تناول أوتزي وجبة دسمة في الساعات التي سبقت وفاته، مكونة من القمح ولحم الغزال الأحمر والوعل.
وقد استغرق العلماء 18 عاماً للتعرف على معدة أوتزي، عن طريق التصوير المقطعي المحوسب.
ويبدو أن للرجل أعداء كثراً، فقد استنتج العلماء أنه تعرض للطعن قبل أيام من وفاته بسبب وجود جرح بين إبهام وإصبع يده اليمنى، وكان جرحاً دفاعياً على ما يبدو، إذ حاول أوتزي الاستيلاء على نصل الشخص الذي هاجمه وقام بطعنه.
ولسوء حظه، وقبل أن يلتئم جرحه، هوجم أوتزي مرة أخرى بعد أيام قليلة، إذ وجه إليه قاتله سهماً غادراً أصاب شرياناً في كتفه اليسرى من الخلف.
ربما كان لدى أوتزي الوقت للجلوس وربما حاول بالفعل إخراج السهم، لكن من غير المحتمل أن يكون قد نجح بذاك، فقد نزف حتى الموت في غضون دقائق.
كان الرجل الجليدي يعاني أيضاً من نزيف دماغي، لكن الخبراء يختلفون حول سبب ذلك. هل قام أحدهم بإنهاء حياته بضربة في الرأس؟ أم سقط وضرب رأسه بحجر؟
كيف تم حفظ مومياء أوتزي بشكل طبيعي؟
استناداً إلى الأعشاب التي كان يحملها في حقيبته، توفي أوتزي في أوائل الصيف.
وتفترض إحدى النظريات أن رياح الصيف الدافئة جففت الجثة التي تحولت لاحقاً إلى مومياء.
لكن العلماء يقولون إن درجات الحرارة لا بد أن تكون شديدة البرودة يوم مقتله، وإن درجات الحرارة المتجمدة هي التي حافظت على جثته بهذا الشكل، لأن دماغه، (الذي يجب أن يتحول إلى سائل مع الأعضاء الأخرى بعد أيام قليلة من الموت) تجمد بسرعة، واحتفظ بشكله حتى يومنا هذا.
ولفهم العمليات الطبيعية التي حافظت على أوتزي على مدى خمسة آلاف عام يقوم الباحثون في معهد دراسات المومياء الآن بتحليل مومياوات لنوع من ظباء الماعز المحفوظة أيضاً بشكل طبيعي، والتي تم اكتشافها في صيف 2020 في نفس منطقة أوتزي.
وعلى الرغم من أن مومياوات الماعز لا يتجاوز عمرها بضع مئات من السنين، إلا أن حالة حفظها تشبه حالة رجل الجليد، ويغير العلماء درجة الرطوبة ودرجة الحرارة التي يتم تخزين بقايا الحيوان بها لفهم كيفية تأثير هذه العوامل على الحفظ بشكل أفضل.
كذلك يقوم العلماء بدراسة الميكروبات الموجودة في جسد هذه المومياوات الأمر الذي قد يمدهم بفهم أفضل للطريقة التي اتبعتها الطبيعة في الحفاظ على مومياوات الماعز بهذه الصورة عبر السنين.
أين هو أوتزي الآن؟
يتم حفظ مومياء أوتزي بعناية في متحف جنوب تيرول للآثار في بولزانو بإيطاليا وذلك في غرفة باردة مخصصة.
وسافر وسطياً، حوالي 300000 زائر إلى بولزانو لمشاهدة رجل الجليد القديم من خلال نافذة زجاجية سميكة تتيح رؤية غرفته المتجمدة.
كما يستقبل المتحف حوالي 10 إلى 15 طالباً من العلماء كل عام لدراسة أوتزي.
أزمة سياسية ونزاع قانوني بسبب أوتزي
كما ذكرنا عثر على مومياء أوتزي داخل إيطاليا، لكن على بعد أمتار فقط من الحدود النمساوية، لكن السلطات النمساوية أخذت المومياء في البداية إلى إنسبروك في النمسا، مما أدخل البلدين بنزاع قانوني، فقد ادعت إيطاليا حقوق الملكية.
ومنذ عام 1998 استطاعت إيطاليا استعادة أوتزي مع السماح لجامعة إنسبروك من الانتهاء من دراساتها العلمية على المومياء.
لعنة أوتزي
كما تحيط أساطير اللعنات بمومياوات الفراعنة، روَّج البعض كذلك لوجود لعنة تحيط بمومياء أوتزي.
أما مصدر هذه الادعاءات فكان بسبب الظروف الغامضة التي أحاطت بموت بعض الأشخاص الذين ساهموا في اكتشاف ونقل وفحص المومياء، وكان من بينهم كونراد سبيندلر، الفاحص الأول للمومياء في النمسا وهو واحد من سبعة أشخاص توفوا، 4 منهم مات بسبب حوادث نسبها البعض إلى لعنة المومياء.
مع ذلك، فقد ساهم مئات الأشخاص في هذه العملية، ولم يصَب أي منهم بمكروه، مما يدحض الادعاءات المحيطة بلعنة أوتزي.