3 ملايين مصري يسكنون عشرات الجزر النيلية في مصر، بعدما استيقظوا يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني الماضي على خبر صاعق مفاده انتقال ملكية 36 جزيرة نيلية وجزيرة بحرية إلى القوات المسلحة المصرية، بموجب قرار من الرئيس عبد الفتاح السيسي.
مبعث الصدمة أن القرار يعني انتقال الصراع بين سكان الجزر النيلية والحكومة المصرية المستمر منذ أكثر من 15 عاماً، ليكون الصراع هذه المرة بين الأهالي والجيش، ما يجعله وفق الأهالي محسوماً مسبقاً لصالح الجيش.
القصة بدأت بصدور قرار مفاجئ من الرئيس المصري بنقل ملكية 36 جزيرة إلى القوات المسلحة المصرية، وتضم خريطة الجزر المنقول ملكيتها عدداً من الجزر الحيوية والمأهولة بالسكان في محافظة الجيزة تحديداً، مثل جزيرة أبو قرصاية التي تبلغ مساحتها 139 فداناً وهي ملتصقة بشارع البحر الأعظم في الجيزة، ويبلغ عدد سكانها حوالي 5 آلاف نسمة يعمل معظمهم في الزراعة والصيد، وكانت الجزيرة محل نزاع بين سكانها والقوات المسلحة التي حاولت بالفعل إخلاءها عام 2007 مستغلة قرار صدر عام 1998 من رئيس الوزراء وقتها كمال الجنزوري، بتحويلها هي وكل الجزر النيلية لمحميات طبيعية، وفي ذلك الوقت لجأ سكان الجزيرة للقضاء لإيقاف محاولات إجلائهم، وهو ما تحقق لهم بالفعل في فبراير/شباط من عام 2010 بصدور قرار محكمة القضاء الإداري بوقف قرار الحكومة السلبي بإخلاء الجزيرة وطرد الأهالي، وتضمن القرار تقنين أوضاع المواطنين بشكل نهائي نظراً لوجود ملكيات لهم مستقرة لسنوات، ورفضت المحكمة قرار الحكومة بتحويل أرض الجزيرة لمحمية طبيعية.
وتضم خريطة الجزر التي شملها قرار نقل الملكية إلى القوات المسلحة المصرية إلى جانب جزيرة القرصاية كلاً من جزر منيل شيحة، البدرشين، الطرفاية، المسطحات، المرازيق، الشوبك الشرقي، الوادي، البرغوثي، الشيخ أبوزيد، أبوداوود، الطرافة (1)، الطرافة (2)، أبوصالح، صراوة، المعصرة (محافظة الجيزة).
وجزر سيالة شارونة، الشيخ فضل، كدوان، زاوية سلطان البحرية، السرو خور زعفران، الشيخ تمي، السايح، هلال الكاب، سقوا، منيحة، العرب، الرقبة بللولة، أم شلباية، المصادفة، المندرة (1)، نجع الدير (1)، العبساوية شرق، نجع شرف (3)، هدار رشيد (1)، هدار رشيد (2) (محافظة المنيا وباقي محافظات الصعيد) بالإضافة إلى جزيرة بحرية في نطاق محافظة مرسى مطروح.
أحد سكان القرصاية: أزمتنا باتت تشبه وضع الفلسطينيين!
قرار الرئيس المصري ألقى بظلال داكنة على مستقبل سكان تلك الجزر الذين تقدر بعض الإحصائيات غير الرسمية أعدادهم بحوالي مليوني نسمة يمثلون ثلثي سكان كل الجزر النيلية في مصر (وفقاً لإحصائيات مجلس الوزراء يبلغ عدد الجزر النيلية 144 جزيرة يسكنها حوالي 3 ملايين نسمة)، خصوصاً في ضوء ما حدث في جزيرة الوراق النيلية قبل ما يزيد عن 4 سنوات، وكذلك المحاولات المستمرة من القوات المسلحة المصرية لإخلاء بعض الجزر مثل جزيرة القرصاية وجزيرة منيل شيحة في أوقات سابقة.
وقال أحد سكان جزيرة القرصاية لـ"عربي بوست" إن ما يفعله الجيش المصري في السنوات الأخيرة من تهجير سكان الجزر النيلية الذي بدأ بجزيرة الوراق، يشبه إلى حد كبير ما يفعلونه مع الفلسطينيين في القدس، فهناك أيضاً يتذرع جيش الاحتلال بتطوير المناطق حول المسجد الأقصى وغيرها من المناطق لإخلائها من سكانها الفلسطينيين وتوطين اليهود فيها.
وفي مصر يتذرعون بتطوير الجزر النيلية لتهجير سكانها وإعادة بنائها لأهداف استثمارية بحيث تتحول لمركز تجاري كبير للمال والأعمال تدر على الدولة مئات المليارات من الجنيهات، بينما تبخل على السكان المقيمين في هذه الجزر منذ قرن من الزمان بتعويضات عادلة، مضيفاً أن الدولة عرضت على سكان جزيرة الوراق مبالغ هزيلة لا تزيد عن 40 ألف جنيه للغرفة الواحدة، أي أن الشقة المكونة من 3 غرف وصالة ومطبخ وحمام لن تزيد عن 250 ألف جنيه، وهو مبلغ لا يشتري غرفة وصالة في أي منطقة قريبة من الجزيرة، في حين أن الدولة تنوي طرح الشقق والفيلات في المشروعات الجديدة التي تبنيها على الجزيرة بسعر يصل إلى 700 ألف جنيه للمتر!
الدولة لا تحترم الدستور
من جهته، قال أحد سكان جزيرة القرصاية أيضاً لـ"عربي بوست" إن ما قاله الرئيس السيسي عن أن سكان تلك الجزر يسكنون فيها بوضع اليد، وما كرره وزير الري الأسبق محمد نصر علام، من أن تواجد الأهالي على هذه الجزر غير قانوني، كلام عار من الصحة تماماً، ولو كان سكان الجزر من واضعي اليد فلماذا أدخلت الدولة بعض المرافق كالكهرباء والماء إلى منازلهم، ولماذا تحصل الدولة من سكان جزيرة القرصاية على 4 آلاف و800 جنيه عن الفدان الواحد للأرض الزراعية، و8 جنيهات عن كل متر مبانٍ كان السكان يدفعونها في السابق إلى محافظة الجيزة، ثم إلى الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية، فكيف تقوم الدولة بتحصيل ضرائب ورسوم عن أراضي تم الاستيلاء عليها بشكل غير قانوني كما يدعي الرئيس والوزير الأسبق؟
وأضاف قائلاً إن ما يحدث مهزلة بكل المقاييس تجاه مواطنين مصريين وخرق لمواد الدستور التي تنص على حماية الملكية العامة والخاصة والتعاونية (المادة 33)، والمادة 59 التي تؤكد أن الحياة الآمنة حق لكل إنسان، والأهم من ذلك أن قرار الرئيس ونية القوات المسلحة بإجبار سكان الجزر على إخلائها يعكس عدم احترام الدولة ومؤسساتها الرسمية للقضاء وأحكامه التي يتشدق النظام ليلاً ونهاراً باستقلاله واحترام أحكامه.
سبق لسكان جزيرة القرصاية الحصول على حكم في فبراير/شباط من عام 2010 من محكمة القضاء الإداري بوقف قرار الحكومة السلبي بإخلاء الجزيرة وطرد الأهالي، وتضمن القرار تقنين أوضاع المواطنين بشكل نهائي نظراً لوجود ملكيات لهم مستقرة لسنوات، ورفضت المحكمة قرار الحكومة بتحويل أرض الجزيرة لمحمية طبيعية، لكن الحكومة لم تحترم القانون وكذلك القوات المسلحة التي اعتادت إرسال قوات من الشرطة العسكرية من فترة لأخرى بهدف التحرش بالسكان، ثم القبض على عدد منهم والحكم عليهم بأحكام عسكرية مشددة، وكل ذلك بهدف تخويف بقية السكان من التمسك بالبقاء في منازلهم وقبول التهجير.
مصدر رسمي: لا يوجد ملاك على الجزر النيلية وليس من اللائق تركها للعشوائيات
في المقابل قال مصدر بمجلس الوزراء المصري إن قرار الرئيس لا يفرض وضعاً جديداً مثلما يروج البعض، ولكنه بمثابة صيغة تنفيذية لقرارات سابقة اتخذها مجلس الوزراء في أواخر تسعينات القرن الماضي في عهد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، وبالتالي محاولة البعض الادعاء بأن الرئيس السيسي يريد تهجير المواطنين أو ترويعهم لترك منازلهم أمر يخلو من الصحة.
وحول التبعات المنتظرة للقرار على سكان الجزر، قال المصدر إن المشكلة التي لا ينتبه لها أحد أن تلك الجزر بمثابة ثروة قومية يمكن للدولة أن تجني من ورائها المليارات، فضلاً عن أنها واجهة لنهر النيل أمام السياح والمصريين، ولم يكن من المعقول أن تكون مليئة بالعشوائيات مثلما كانت عليه طوال عقود من الزمن بدعوى أن سكانها استوطنوها على مدى أجيال، مشيراً إلى أن من يتحدث عن حق السكان يتعامل مع الأمر من منظور أحادي ولا يناقش حق الدولة في أراضيها، ومع ذلك كانت التعليمات التي صدرت للقائمين على الأمر بتعويض السكان سواء بصرف تعويضات مادية لمن يرغب، أو منحهم مساكن جديدة في نفس الجزيرة بعد إعادة تعميرها بشكل يليق بمصر وبنهر النيل، فما الذي يريده السكان غير ذلك؟!
وأضاف المصدر أن الدولة ليست مسؤولة عن تقاعس الأجهزة المعنية بالتعامل مع ملف الجزر النيلية عن تنفيذ قرارات مجلس الوزراء في هذا الشأن، متحدياً أي ساكن من سكان تلك الجزر أن يقدم وثيقة رسمية تثبت ملكيته للمنزل أو الأراضي الزراعية الموجودة على أي جزيرة نيلية، ما يعني ببساطة أن وضعهم غير قانوني، أما الضرائب والرسوم التي كانوا يدفعونها فهي مقابل حق الاستغلال، لأن القانون لا يعطي الدولة حق تحصيل ضرائب على الممتلكات الخاصة.
الصمت الرسمي يترك المجال للشائعات ويدفع سكان الجزر للتمرد على الدولة
باحث بأحد مراكز الدراسات الاجتماعية والسياسية الحكومية قال لـ"عربي بوست" تعليقاً على الأزمة الدائرة، إن المشكلة متشعبة وضاربة في القدم، بحيث يصعب على أي محايد تحديد من صاحب الحق ومن المخطئ، فالجزر بالفعل ملك الدولة ومن حقها استغلالها بالطريقة التي تراها تتناسب مع الأهداف المرسومة من قبلها، كما أن تلك الجزر عبارة عن عشوائيات بالفعل، فلا يوجد تخطيط للمباني والشوارع كما لا تتوفر في أغلبها الخدمات الأساسية مثل الصرف الصحي ومياه الشرب والخدمات الصحية والمدارس.
لكن في المقابل هناك سكان عاشوا كل سنوات عمرهم تقريباً على تلك الجزر وأقاموا بيوتاً وتمَّ تمديد مرافق لها مثل الكهرباء والمياه، ويقومون بسداد ضرائب ورسوم وإيجارات للجهات الرسمية مثل وزارة الري والزراعة والمحافظة وغيرها، وهذا الوضع مستمر منذ عقود، وبالتالي ترتب لهؤلاء حقوق في تلك الأماكن ومن غير اللائق أخلاقياً مطالبتهم بالرحيل عنها الآن، وليس ذنبهم أن الدولة تقاعست عن حقها طوال عقود.
وأضاف قائلاً إن ما يفاقم من المشكلة أنه لا يخرج أي مسؤول في الدولة ليتحدث مع سكان الجزر عن مستقبلهم بعد نقل ملكيتها للقوات المسلحة، وهل يطردون من منازلهم أم يعودون إليها بعد إعادة بنائها بشكل مناسب، وهل السكان الحاليون وأغلبهم من الفقراء والبائسين سيكونون مناسبين للسكن في الجزر بعد تطويرها وتحويلها إلى مرافق استثمارية للأغنياء والمرفهين؟! أم تقوم الدولة بتعويض السكان ليحصلوا على منازل في أماكن قريبة؟!
والسؤال الذي يشغل بال الكثيرين هو سبب الصمت الرسمي وترك الناس للشائعات التي تحذر السكان من أن التعويضات التي سوف تصرف لهم ستكون هزيلة، مضيفاً أن من حق الدولة البحث عن العوائد الاستثمارية والأرباح، لكن دون أن يكون ذلك على حساب تهجير السكان الآمنين ونزع ملكياتهم دون مراعاة للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين.
تفريغ جزيرة الوراق من الخدمات لإجبار سكانها على المغادرة
كانت أزمة جزيرة الوراق النيلية قد بدأت عام 2017 عقب إشارة الرئيس عبد الفتاح السيسي، في شهر يونيو/حزيران من ذلك العام إليها في أحد خطاباته، حين قال "جزيرة موجودة في وسط النيل، مساحتها أكثر من 1250 فداناً -مش هذكر اسمها- وابتدت العشوائيات تبقى جواها والناس تبني وضع يد. لو فيه 50 ألف بيت هيصرّفوا فين؟ في النيل اللي إحنا بنشرب فيه؟" وأضاف: "الجزر الموجودة دي تاخد أولوية في التعامل معاها".
وعلى الفور داهمت قوات الشرطة مع مسؤولين من وزارات الأوقاف والري والزراعة، الجزيرة لتنفيذ قرارات إزالة لنحو 700 منزل في الجزيرة في 16 يوليو/تموز 2017، وهو ما تطور إلى اشتباكات أسفرت عن مقتل أحد مواطني الوراق، وإصابة العشرات من أفراد الشرطة، تلاه تحويل أكثر من 30 من أهالي الجزيرة للنيابة حيث حُكم عليهم بالسجن المشدد بين المؤبد و15 عاماً وخمسة أعوام، فيما يواجه عشرات آخرون من أهالي الجزيرة اتهامات تتعلق بالإرهاب والتحريض ونشر أخبار كاذبة.
وبحسب أحد سكان جزيرة الوراق فإن الحكومة لجأت أمام إصرار بعض الأهالي على البقاء في منازلهم وعدم تركها لتنفيذ مخطط تفريغ الجزيرة من الخدمات، فتم تقليص المعديات التي تربط الجزيرة التي تتوسط نهر النيل وسكانها بـ"البر"، حيث كانت هناك 5 معديات على 5 مداخل، مدخل من منطقة بسوس، ومدخل ثانٍ من ناحية شبرا الخيمة، ومدخل محطة القلل، ومدخل الجزارين ومدخل كلية الزراعة، وتم إغلاق معدية بسوس ومعدية الجزارين ومعدية كلية الزراعة من بداية ديسمبر/كانون الأول الماضي، كما تم تقليص ساعات عمل المعديات إلى ست ساعات فقط يومياً. بعدما كانت تعمل 24 ساعة في اليوم، ومؤخراً تم إغلاق الوحدة الصحية الوحيدة في الجزيرة.
وفي يوليو/تموز من عام 2020 أعلنت الحكومة المخطط العام لتطوير جزيرة الوراق، الذي جرى إعداده بالتعاون بين الهيئة العامة للتخطيط العمراني وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، وحدد المخطط 29% من الأراضي كمناطق استثمارية محيطة بالجزيرة، بالإضافة إلى 3% مناطق استثمارية متميزة عند طرفي الجزيرة الشمالي والجنوبي، و3% منطقة خدمات تجارية.
وفيما يخص المناطق السكنية، توجد ثلاثة أنواع: الأولى مناطق للإسكان المتميز بنسبة 6% من مساحة الأراضي، وتقع في النصف الشمالي من الجزيرة، والثانية منطقة إسكان وصفت بأنها ذات "طبيعة استثمارية خاصة" مواجهة للشاطئ الشرقي للجزيرة ونسبتها 3%، والثالثة مناطق إعادة التخطيط والتطوير المُخصصة لأهالي الجزيرة ممن يختارون البقاء بها، ونسبتها 17% من مساحة الأراضي، وتوجد في النصف الجنوبي من الجزيرة، حيث يقع معظم المساكن الحالية.