أظهرت نتائج انتخابات التجديد النصفي لمجلس الأمة في الجزائر تقدماً واضحاً لحركة البناء الوطني، على حزبه الأم حركة مجتمع السلم، ما يدعو للتساؤل حول ما إذا كانت الأخيرة فقدت زعامتها للتيار الإسلامي، وما سر تحول الأولى من حزب مجهري منشق إلى أحد الأحزاب الخمسة الأولى؟
وحصلت حركة البناء على 5 مقاعد من إجمالي 68، في انتخابات التجديد النصفي لأعضاء مجلس الأمة، التي جرت في 5 فبراير/شباط الجاري.
وحلت الحركة في المرتبة الرابعة بعد كل من حزب جبهة التحرير الوطني (26 مقعداً) والمستقلين (13 مقعداً) والتجمع الوطني الديمقراطي (11 مقعداً)، بينما لم تحصل حركة مجتمع السلم سوى على مقعد واحد فقط.
وانتخابات التجديد النصفي لمجلس الأمة، تجري كل 3 أعوام لتجديد نصف أعضاء الغرفة الثانية للبرلمان، الذي كان يبلغ عدد مقاعده 144، قبل أن يرتفع هذه المرة إلى 174، بعد إضافة 10 ولايات جديدة.
ويتم انتخاب ثلثي أعضاء مجلس الأمة عبر نظام الانتخاب غير المباشر، الذي يشارك فيه المنتخبون في المجالس البلدية والولائية (المحافظات)، بينما يعين رئيس البلاد الثلث المتبقي.
ويشمل التجديد هذا العام 68 عضواً، منهم 20 عضواً يمثلون الولايات العشر الجديدة، بمعدل عضوين من كل ولاية (عدد الولايات أصبح 58 بعد أن كان 48 ولاية).
كما سيتم تجديد نصف الثلث الرئاسي، أي 24 عضواً، بالإضافة إلى 10 أعضاء آخرين، بمجموع 34 عضواً معيناً جديداً.
صراع غير محسوم على الزعامة
تفوق حركة البناء الوطني على حركة مجتمع السلم في انتخابات التجديد النصفي لمجلس الأمة، لا يعكس بالضرورة حسمها لمعركة الزعامة على التيار الإسلامي، نظراً لطبيعة هذه الانتخابات غير المباشرة على الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية أو المحلية.
فانتخابات التجديد النصفي لمجلس الأمة، تعتمد بشكل كبير على التحالفات بين الأحزاب التي حصلت على أكبر عدد من المقاعد في الانتخابات البلدية، وبدرجة أقل في الانتخابات الولائية.
إذ إن المنتخبين في المجالس البلدية (24 ألفاً و801 منتخب) يمثلون أكثر من 91% من الكتلة الناخبة في انتخابات التجديد النصفي، أمام المنتخبين في المجالس الولائية (2350 منتخباً) فلا يمثلون سوى أقل من 9%.
وتفوقت حركة البناء على حركة مجتمع السلم في الانتخابات البلدية بعد حصولها على 1848 مقعداً (7.45%) بفارق ضئيل لا يتجاوز 28 مقعداً عن الثانية، التي حصلت على 1820 مقعداً (7.33%).
إلا أن حركة مجتمع السلم، تقدمت على حركة البناء في الانتخابات الولائية بـ9 مقاعد فقط، بعد أن حصلت الأولى على 239 مقعداً مقابل 230 مقعداً للأخيرة.
وجاءت انتخابات التجديد النصفي لمجلس الأمة لتحسم هذا التقارب لصالح حركة البناء الوطني، التي تتبنى سياسة المشاركة في الحكومة، وخطاً داعماً للرئيس عبد المجيد تبون.
بينما قاد رئيس حركة مجتمع السلم عبد الرزاق مقري، حزبه نحو التموقع مع المعارضة، بعيداً عن الخط الذي رسمه لها الأب المؤسس للحركة محفوظ نحناح (توفي في 2003)، ما تسبب في انشقاق عدة أحزاب عنها، بينها حركة البناء الوطني.
ويعكس هذا التقارب الشديد، شراسة في المنافسة بين الحركتين على زعامة التيار الإسلامي، الذي احتكرت حركة مجتمع السلم قيادته منذ 2007.
وقادت حركة مجتمع السلم التيار الإسلامي فعلياً منذ 1997، قبل أن تسقط في 2002، أمام حركة الإصلاح الوطني التي أسسها عبد الله جاب الله، ثم استعادت ريادتها في 2007.
سر الصعود المفاجئ
قبل الحراك الشعبي الذي أطاح بالرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة من الرئاسة في 2019، لم تكن حركة البناء الوطني تمثل ثقلاً كبيراً في الساحة السياسية.
فمنذ انشقاق عدد من صقور وحمائم حركة مجتمع السلم، وتشكيلهم لحركة التغيير ثم حدث الانشقاق الثاني من الأخير وتأسيس حركة البناء الوطني في 2013، برئاسة مصطفى بلمهدي، الشخصية التاريخية ورفيق نحناح، لم يتمكن الحزب من فرض نفسه، وعُدّ من الأحزاب الصغيرة.
حيث اضطر للتحالف مع حزبين إسلاميين آخرين وهما: حركة النهضة، وجبهة العدالة والتنمية، بقيادة جاب الله، ومع ذلك لم تحصل الأحزاب الثلاثة مجتمعة إلا على 15 مقعداً، في الانتخابات البرلمانية لعام 2017، إلا أن ذلك مكَّنها من تشكيل كتلة برلمانية (تحتاج 10 مقاعد على الأقل).
ومنذ 2013، حدث تنافس بين حركة البناء الوطني وحركة مجتمع السلم على أمرين اثنين، أولهما من له الحق في ميراث تاريخ "الشيخ نحناح"، وتجلى ذلك في تنافسهما حول تنظيم المؤتمر السنوي "للأب المؤسس"، ودعوة أبرز القيادات الإسلامية في العالم للمشاركة في هذا المؤتمر لتكون شاهدة على الحركة التي تسير على نهج نحناح.
ثانيهما، تنافس سري حول من يمثل التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين في الجزائر، وتشير عدة مؤشرات إلى أن حركة البناء الوطني تمكنت من الحصول على هذه "الشرعية التنظيمية"، رغم أن كلا الحزبين ينفيان في العلن تبعيتهما للتنظيم الدولي لجماعة الإخوان، لما لذلك من حساسية وطنية وقومية لدى الرأي العام في الجزائر.
وفي 2018، حدث تغيير جوهري في حركة البناء، عندما تخلت عن رئيسها التاريخي بلمهدي، الذي لا يشتهر بقوة الكاريزما والخطابة التي عرف بها رفيقه نحناح، وتولى عبد القادر بن قرينة، وزير السياحة السابق، رئاسة الحركة، وهو المعروف بقربه من دوائر في السلطة.
وجاء الحراك الشعبي في 2019، ليقذف بأحد صقور حركة البناء الوطني إلى رئاسة البرلمان، رغم أن الحركة لم تكن تملك سوى بضعة نواب ضمن تحالف لا يضم سوى 15 نائباً (نحو 3.25%).
إذ إن الرئاسة كانت بحاجة لشخصية إسلامية لقيادة البرلمان، لامتصاص غضب المتظاهرين الرافضين لولاية رئاسية خامسة لبوتفليقة.
ووقع الاختيار على النائب سليمان شنين، أحد صقور حركة البناء، ومن القيادات البارزة في حركة مجتمع السلم سابقاً، لرئاسة المجلس الشعبي الوطني (الغرفة الأولى للبرلمان) من 2019 إلى غاية 2021، ثم كوفئ بتعيينه سفيراً فوق العادة بليبيا.
وساهمت الانتخابات الرئاسية لعام 2019، في زيادة أسهم حركة البناء في مواجهة غريمتها حركة مجتمع السلم، إذ إن بن قرينة، كان المرشح الرئاسي الوحيد من التيار الإسلامي في هذه الانتخابات، في حين فضل مقري عدم الترشح.
والأداء المميز والمفاجئ لبن قرينة، خلال حملته الانتخابية، وحصوله على مليون ونصف مليون صوت مكَّنه من احتلال المرتبة الثانية بعد الرئيس الحالي تبون، ما رفع من الوزن السياسي لحركة البناء.
وتجلى ذلك في الانتخابات البرلمانية التي جرت في 2021، والتي ضاعفت فيها حركة البناء مقاعدها البرلمانية عدة مرات، حيث حصلت على 39 مقعداً، في حين كاد شريكاها السابقان (حركة النهضة وجبهة العدالة والتنمية) أن يندثرا تماماً.
إلا أن حركة البناء كانت متأخرة كثيراً عن حركة مجتمع السلم، التي فازت بـ65 مقعداً برلمانياً، ما جعلها تتزعم فعلياً التيار الإسلامي.
لذلك ففوز حركة البناء بـ5 مقاعد في مجلس الأمة مقابل مقعد واحد لحركة مجتمع السلم، لا يعني قيادتها للتيار الإسلامي بقدر ما يرمز إلى شراسة الصراع السياسي بين حزبين يتبنيان نفس القيم، لكن القرب أو البعد من/عن السلطة فرقهما.
حيث يسود الاعتقاد أن السلطة تشجع حركة البناء، للصعود وإضعاف معارضة حركة مجتمع السلم، كما فعلت ذلك من قبل مع أحزاب إسلامية أخرى.