أصدرت روسيا في 4 فبراير/شباط 2022، إعلاناً مشتركاً مع الصين دعت فيه حلف الناتو إلى وقف توسُّعه والتخلي عن تعزيز هيمنته في أوروبا، لكن المفارقة هنا أن هذه الدعوات تأتي في وقت عمد فيه البلدان من تلقاء نفسيهما إلى تقديم أقوى الحجج الكافية، لكي تدفع كل دولة اعتادت الدوران في مدارهما للانضمام إلى الحلف الأطلسي.
ومن الأمثلة البارزة في هذا السياق التغيرات التي يشهدها الرأي العام والموقف من روسيا في فنلندا، فالأخيرة كانت على مدار تاريخها طرفاً حريصاً على التزام الحذر في منطقة شديدة الحساسية من الناحية الجغرافية السياسية، ولم يسبق قط أن انخفضت المعارضة العامة بين الفنلنديين لانضمام بلادهم إلى الناتو عن نسبة 53%، ولا حتى في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمها في عام 2014.
حشد التأييد لعودة المكانة الأمريكية على سياسات أمن أوروبا
لكن الآن، أمست طبول الحرب على الحدود الروسية الأوكرانية سبباً في تحوِّلٍ بارز لموقف الجماهير الفنلندية من التوسع الروسي. فبالإضافة إلى انخفاض المعارضة الشعبية للانضمام إلى حلف الناتو إلى مستوى غير مسبوق، كشفت دراسة صدرت حديثاً عن مركز الأبحاث Toivo بالتعاون مع مركز استطلاعات الرأي Kantar، أنه في حال أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا، فإن 60% من الفنلنديين سيؤيدون الانضمام إلى حلف الناتو.
ويقول تقرير لموقع Deutsche Welle الألماني، إن استطلاعات الرأي كشفت عن الاتجاه نفسه بين الجمهور السويدي، وبالنظر إلى التعاون العسكري الوثيق بين البلدين الاسكندنافيين، فنلندا والسويد، يذهب الخبراء إلى أن انضمام أحدهما إلى حلف الناتو سيلحقه بالتبعية انضمام البلد الآخر أيضاً. ويأتي ذلك التحول بعد أن بدا أن حتى تهديد موسكو الصريح بعمل سياسي وعسكري ضد السويد وفنلندا لم يكن دافعاً قوياً بما يكفي لكي يغير البلدان موقفهما المتردد حيال سياسة الدفاع الجماعي الأوروبية الأمريكية.
عن قصد أو غير قصد، جاءت الخطوات المندفعة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين على حدود بلاده مع أوكرانيا، لتقدِّم لأولئك الحريصين على توسيع الناتو وتحالفاته ليس الدافع الوجيه فحسب، بل والحافز القوي القادر على حشد الرأي العام. واقع الأمر أن الكرملين منح خصومه التقليديين الفرصةَ لتسليط الضوء مرة أخرى على أهمية إنشاء آليات مشتركة للدفاع العسكري والردع ضد روسيا.
يبدو أن الإجماع العام بين الخبراء والمحللين منعقد على استبعاد أن تشنَّ روسيا حرباً واسعة النطاق على أوكرانيا، وهو الرأي الذي ذهب إليه فيودور لوكيانوف، رئيس "مجلس السياسة الخارجية والدفاعية" الروسي، في حديث له مع وكالة DW الألمانية هذا الأسبوع.
قال لوكيانوف إن موقف موسكو الصارم يرمي أولاً وقبل كل شيء إلى إجبار الولايات المتحدة وحلفائها على إعادة التفاوض بشأن الترتيبات التنظيمية للأمن في أوروبا، ولا سيما المنطقة الواقعة في مجال النفوذ السوفييتي السابق. ويرى لوكيانوف ألأن موافقة واشنطن على التفاوض ومناقشة بعض هذه الأمور مع موسكو هو في حد ذاته نجاحٌ للكرملين.
لكن هذا لا يعني نفياً تاماً لاحتمال أن تندلع مواجهات منخفضة الحدة على طول الحدود الأوكرانية مع روسيا أو بيلاروسيا، على غرار ما شهدته منطقة دونباس منذ عام 2014، لا سيما أن الكرملين أعلن عزمه على نشر نحو 30 ألف جندي للمشاركة في مناورة عسكرية مشتركة مع القوات البيلاروسية.
أمريكا تتحدى روسيا وتنتهز الفرصة لتحقيق مصالحها بأوروبا
كان التحذير الصارم دون عواقب محددة السمةَ المميزة للرد الغربي على محاولات روسيا الرامية إلى فرض مكانةٍ بارزةٍ لنفسها في النطاق الجغرافي السياسي بوصفها قوة عظمى سابقة، كما تقول DW. وحتى الآن، لم تتحمل موسكو سوى عواقب يسيرة على غزوها لشبه جزيرة القرم، ودعمها العسكري للانفصاليين في دونباس، ولاحتلالها أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، ثم الاعتراف بهما دولتين مستقلتين مواليتين لروسيا، علاوة على نشر القوات الروسية في شرق مولدوفا.
هذا الضجيج والاعتراضات الصاخبة من الدول الغربية وما يتبعه عادة من تلطيف الأجواء والتهدئة جعلَ موسكو خبيرة في كيفية التعامل مع الغرب، وجعلها أجرأ على تحدِّيه وتجاوز الخطوط الحمراء، مثل محاولات الاغتيال في المدن الأوروبية والاستعانة بالأجهزة الاستخباراتية لزعزعة استقرار الديمقراطيات الغربية بعمليات القرصنة الرقمية، وقد أصبح هذا السلوك الأخير منهجاً أساسياً في أسلوب تعامل موسكو مع كل من تعتبره خصماً لها.
لكن التطورات الأخيرة تشير إلى أن الأمور ربما تكون قد تغيرت، وربما يكون اعتماد بوتين المفرط على تاريخ من ردود الفعل المتهاونة مع الأعمال العدائية لموسكو قد جعله يخطئ في تقديره لتداعيات المسألة الأوكرانية، كما تقول دويتشه فيله.
ومن الأمثلة الجديرة بالذكر للإشارة على واقعة سابقة استدرجت فيها الولايات المتحدة غريمتها روسيا إلى التصعيد واستغلته لتحقيق أغراضها، هو مثال التعامل الأمريكي مع أول إنذار روسي بإشعال حرب كبرى على الأراضي الأوروبية في تسعينيات القرن الماضي [في نزاعات منطقة البلقان]، فقد أخذت الولايات المتحدة التهديد الروسي بجدية واستجابت وفقاً لذلك. واتبعت القوى الصديقة للولايات المتحدة حذوها، وفجأة احتشدت أوروبا مرة أخرى بالقوات والعتاد القادمين من كل اتجاه. واستغلت القوى الغربية تلك الأزمة لتعزيز قوتها على خطوط الصراع المحتملة مع روسيا في دول البلطيق، ونشرت قواتها في مناطق مهمة استراتيجياً مثل جزيرة غوتلاند السويدية، كما عزَّزت الوجود العسكري في بولندا.
مكاسب كبيرة لأمريكا من التصعيد الروسي وانقلاب في الرأي العام الأوروبي
أما الولايات المتحدة، فإن مكاسبها السياسية من التصعيد الروسي الأخير غير مسبوقة. ففي غضون أسابيع قليلة شهدت مكانة واشنطن في الساحة السياسية الأوروبية تحولاً جذرياً نحو مزيد من التعزيز لدورها والتأييد لحضورها.
والحقيقة الأولى التي كشفتها الأزمة هي أن الأحلام المتعلقة بذات عسكرية أوروبية مستقلة عن الولايات المتحدة لم تكن إلا أماني واهية. فقد أفضى الانقسام الشديد الذي ينطوي عليه الرأي العام في القارة إلى مواقف منقسمة بالمثل من بروكسل فيما يتعلق بالأزمة الروسية الأوكرانية.
وهكذا رفضت ألمانيا إرسال أسلحة إلى كييف رغم الاحتشاد الهائل للقوات الروسية على حدودها، ثم واجهت برلين سخرية دولية بسبب تعهدها الهزيل بتوفير إمدادات طبية و5000 خوذة عسكرية، غير أن الطبقة السياسية في ألمانيا كانت في واقع الأمر تستجيب لرغبات 60% من الجمهور الألماني، ممن يعارضون تسليح أوكرانيا، بحسب ما تذكر DW.
وفي الوقت الذي اشتدت فيه الحاجة إلى استجابة موحدة وواضحة، عجزت الكتلة الأوروبية عجزاً لا يخفى عن الاجتماع على رأي واحد. ومن ثم لم تكن الأزمة كاشفة عن أن الولايات المتحدة لا تزال الفاعل الوحيد الموثوق به لقيادة أي استراتيجية دفاعية قابلة للتطبيق في أوروبا فحسب، بل الأهم من ذلك والأشد وطأة على الجهات الفاعلة الأوروبية التي تحلم باتحاد أوروبي مستقل عن الولايات المتحدة ومعتمد على ذاته، أن تلك الأزمة أعادت ترسيخ أفضلية الناتو فوق أي أحلام بتحالف عسكري أوروبي.
وأمريكا قد تحقق ما تريد بالاستغناء عن خط الغاز الروسي نورد ستريم 2
ومما لا يقل أثراً عن ذلك أن الأزمة الجيوسياسية الحالية والتهديد الروسي قد بعث حياة جديدة في بند من أشد البنود أهمية على أجندة واشنطن في أوروبا، وهو البند الوحيد الذي يجتمع عليه الفرقاء السياسيين في الولايات المتحدة على اختلاف مواقفهم من روسيا: تفكيك خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 المكتمل بالفعل، والذي يمتد من روسيا إلى ألمانيا ومن المقرر أن يبدأ في نقل الغاز قريباً.
مشروع نورد ستريم 2 أقامته شركة غازبروم الروسية ينقل الغاز مباشرة من روسيا إلى ألمانيا، دون مرور بأوكرانيا، التي كانت حتى الآن معبراً رئيسياً في طريق الغاز الروسي إلى أوروبا. وقد عارض الأمريكيون بجميع اتجاهاتهم السياسية المشروعَ وحاولوا إيقافه بشتى الطرق، حتى الترهيب والتهديد، ولم يمنعهم عن ذلك اقتراب المشروع من الاكتمال.
والآن، أصبح مشروع نورد ستريم 2 واحداً من أقوى الأدوات المتبقية للغرب للتأثير على صنع القرار الروسي عندما يتعلق الأمر باحتمال غزو عسكري روسي لأوكرانيا.
وكانت ألمانيا تقاوم الضغوطات المستمرة من الولايات المتحدة، لأنها تحتاج تماماً إلى إمدادات غاز موثوقة من روسيا، رغم أنها الآن واحدة من أكبر مصدري الغاز الطبيعي المسال في العالم، لا يمكن للولايات المتحدة أن تحل محل روسيا في هذا الدور كمورد رئيسي، كما يقول الخبراء، وذلك بالرغم من زعم روسيا أن واشنطن "أرادت وقف المشروع حتى تتمكن من شحن مزيد من الغاز الطبيعي المسال الخاص بها إلى أوروبا".
وأدى تجاوز أوكرانيا إلى انخفاض حاد في نفوذ البلاد مع روسيا وخفض دخلها. ومع ذلك تعتمد أوروبا وألمانيا على الغاز الروسي، حيث يكشف هذا الصراع الحالي عن نقاط الضعف، ما يعني أن نورد ستريم 2 أصبح رادعاً للحرب في أوكرانيا وخياراً للعقاب في حالة نشوبها.
الخلاصة أن الكرملين كان سبباً -بانتهاجه سياسة حافة الهاوية بشأن أوكرانيا- في وضع الحكومة الألمانية الشريكة له في المشروع في موقفٍ محرج باتت مضطرة معه إلى الإقرار بأن المشروع أصبح عبئاً أمنياً كبيراً عليها، وهي مجبرة من جهة أخرى على إعادة تقييم جدوى المشروع الذي اكتمل إنشاؤه بالفعل، وهو ما لم تنجح فيه الإدارات السياسية الأمريكية التي حاولت مراراً عرقلة المشروع ودفع ألمانيا إلى التراجع عنه.