صدم تهديد فيسبوك لأوروبا بوقف خدماته في دول الاتحاد الأوروبي العالم بأكمله، وأظهر كيف يمكن أن تصبح حتى الكيانات الدولية الكبرى عرضة لشروط عمالقة التكنولوجيا.
ولكن ما صدم الأوروبيين أيضاً ردود أفعال مسؤوليهم، التي بدت خليطاً من السخرية والتحدي، فلماذا وصلت العلاقات بين شركة ميتا "فيسبوك سابقاً" وبين الاتحاد الأوروبي لهذا المستوى، وما أسباب تهديد فيسبوك لأوروبا، ومن بدأ هذه الأزمة؟
تهديد فيسبوك لأوروبا جاء في تقرير الشركة السنوي
أعلنت شركة ميتا أنها قد تغلق تطبيقي فيسبوك وInstagram في أوروبا، بسبب نزاع مع الاتحاد الأوروبي على مسألة نقل البيانات الخاصة بالمستخدمين الأوروبيين إلى مقر الشركة بالولايات المتحدة، وسط مخاوف أوروبية من اختراق الأجهزة الأمنية لخصوصيات المواطنين الأوروبيين.
وأصدر عملاق وسائل التواصل الاجتماعي هذا التحذير في تقريره السنوي، الخميس الماضي، في وقت تعاني فيه الشركة أزمة غير مسبوقة أفقدتها ربع قيمة أسهمها، وأدى الانخفاض الهائل في أسعار أسهم الشركة إلى القضاء على على أكثر من 200 مليار دولار من القيمة السوقية لها، وذلك بعد أن حققت نموا في الإعلانات أقل من المتوقع.
ويأتي تهديد فيسبوك لأوروبا، رداً على عمل الجهات التنظيمية في الاتحاد الأوروبي حالياً على وضع تشريعات جديدة، من شأنها أن تحدد كيفية نقل بيانات المستخدمين الخاصة بمواطني الاتحاد الأوروبي عبر المحيط الأطلسي.
لماذا يخشى الاتحاد الأوروبي من نقل بيانات مواطنيه لأمريكا؟
تنبع القضية من قلق الاتحاد الأوروبي من أن الرقابة الحكومية الأمريكية قد لا تحترم حقوق الخصوصية لمواطني الاتحاد الأوروبي، عند إرسال بياناتهم الشخصية إلى الولايات المتحدة للاستخدام التجاري.
في يوليو/تموز 2020، قضت محكمة العدل الأوروبية بأن معايير نقل البيانات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لا تحمي خصوصية المواطنين الأوروبيين بشكل كاف.
وفرضت المحكمة، وهي أعلى سلطة قانونية في الاتحاد الأوروبي، قيوداً على كيفية قيام الشركات الأمريكية بإرسال بيانات المستخدمين الأوروبية إلى الولايات المتحدة، بعد أن خلصت إلى أن مواطني الاتحاد الأوروبي ليس لديهم طريقة فعالة لتحدي مراقبة الحكومة الأمريكية.
يمكن للوكالات الأمريكية مثل وكالة الأمن القومي الأمريكي "NSA"، أن تطلب نظرياً من شركات الإنترنت مثل فيسبوك وGoogle، تسليم بيانات عن مواطن من الاتحاد الأوروبي.
وجاء حكم محكمة العدل الأوروبية بعد أن رفع الناشط النمساوي المعني بالخصوصية، ماكس شريمس، دعوى قضائية في ضوء التسريبات عن أعمال التجسس الأمريكية التي كشفها إدوارد سنودن، الذي انشقّ عن وكالة الأمن القومي الأمريكي.
وكانت حجة الناشط النمساوي أن القانون الأمريكي لا يوفر حماية كافية ضد المراقبة من قبل السلطات العامة.
ورفع شريمس شكوى ضد فيسبوك، الذي مثله مثل العديد من الشركات الأخرى، كان ينقل بياناته وبيانات المستخدمين الآخرين إلى الولايات المتحدة، حيث توجد مقرات الشركة.
وأبطل حكم المحكمة اتفاقية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تسمى اتفاقية درع الخصوصية (Privacy Shield)، التي مكّنت الشركات من إرسال بيانات مواطني الاتحاد الأوروبي عبر المحيط الأطلسي مع ضمان خصوصيات المواطنين الأوروبيين، ونتيجة لذلك، اضطرت شركات التكنولوجيا الأمريكية إلى الاعتماد على شركات الكابلات المتخصصة بعد إبطال الاتفاقية من قبل المحكمة.
أيرلندا هي التي بدأت التحرك ضد فيسبوك
وبدأت هذه الأزمة من أيرلندا، فلقد أطلق مفوض حماية البيانات الأيرلندي (DPC)، المنظم الرئيسي لـFacebook في الاتحاد الأوروبي، تحقيقاً في أغسطس/آب الماضي، وأصدر أمراً مؤقتاً مفاده أن الآلية الرئيسية التي يستخدمها Facebook لنقل بيانات مستخدم الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة "لا يمكن استخدامها عملياً".
طعن فيسبوك في كل من التحقيق والمسودة الأولية للقرار، قائلاً إنهما يهددان بعواقب "مدمرة" و"لا رجعة فيها" لأعمالها، والتي تعتمد على معالجة بيانات المستخدم لخدمة الإعلانات المستهدفة عبر الإنترنت.
في أغسطس/آب 2020، أرسلت لجنة الحماية الأيرلندية إلى فيسبوك أمراً أولياً لوقف نقل بيانات المستخدم من الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة.
وقال نيك كليج، نائب رئيس الشؤون العالمية والاتصالات في فيسبوك، "بدأت لجنة حماية البيانات الأيرلندية تحقيقاً في عمليات نقل البيانات التي يتحكم فيها فيسبوك بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، واقترحت أنه لا يمكن استخدام نظام معايير نقل البيانات المعتمد، الذي يعرف اختصاراً بـ"SCC" عملياً، في عمليات نقل البيانات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة".
وأضاف أن هذا التوجه يكون له تأثير بعيد المدى على الشركات التي تعتمد على الاتصالات وعلى الخدمات عبر الإنترنت، التي يعتمد عليها العديد من الأشخاص والشركات".
من المتوقع أن تصدر لجنة حماية البيانات الأيرلندية قراراً نهائياً في النصف الأول من عام 2022.
ورأت المحكمة العليا الأيرلندية أن السلطات الأمريكية قد لا تحترم حقوق الخصوصية لسكان الاتحاد الأوروبي، عندما يتم إرسال معلوماتهم الخاصة إلى الولايات المتحدة للاستخدام التجاري.
لماذا يقلق فيسبوك من رغبة أوروبا في وقف نقل البيانات لأمريكا؟
جاء تهديد فيسبوك لأوروبا بسبب عدم وجود إطار عمل لنقل البيانات بعد إبطال اتفاقيتي الملاذ الآمن ودرع الخصوصية.
في تقرير شركة ميتا السنوي إلى المنظمين الأمريكيين، كتبت الشركة: "إذا لم يتم اعتماد إطار عمل جديد لنقل البيانات عبر المحيط الأطلسي… فسنكون على الأرجح غير قادرين على تقديم عدد من أهم منتجاتنا وخدماتنا، بما في ذلك Facebook وInstagram، في أوروبا".
وأضافت الشركة أن هذا "سيؤثر مادياً وسلبياً على أعمالنا ووضعنا المالي ونتائج عملياتنا".
إذا تعذر استخدام SCC كأساس قانوني لنقل البيانات، فسيتعين على شركة ميتا عزل غالبية البيانات التي يجمعها عن المستخدمين الأوروبيين، عن مقراتها في الولايات المتحدة، وإلا يمكن أن يفرض الاتحاد الأوروبي غرامة عليها تصل إلى 4% من إيراداتها السنوية، أو 2.8 مليار دولار إذا فشلت في الامتثال.
وقال محامي فيسبوك، في ديسمبر/كانون الأول 2021، إن مشروع القانون الأيرلندي إذا تم تنفيذه "سيكون له عواقب وخيمة" على شركة فيسبوك، وسيؤثر على 410 ملايين من عملاء فيسبوك النشطين في أوروبا، ويقوض حرية التعبير.
وصرحت مفوضة حماية البيانات الأيرلندية هيلين ديكسون، في فبراير/شباط الجاري، بأن الشركات على نطاق أوسع قد تواجه اضطراباً كبيراً في تدفق المعلومات عبر المحيط الأطلسي، بسبب قرار محكمة العدل الأوروبية.
قادة أوروبا يسخرون من تهديد فيسبوك
قوبل تهديد فيسبوك لأوروبا بخليط من الغضب والسخرية.
فقد قال وزير الاقتصاد الألماني الجديد روبرت هابيك للصحفيين خلال اجتماع في باريس، ليل الإثنين، إنه عاش من دون فيسبوك وتويتر لمدة أربع سنوات بعد تعرضه للاختراق، "وكانت الحياة رائعة"، على حد تعبيره.
من جانبه، أكد وزير المالية الفرنسي برونو لو مير، متحدثاً إلى جانب زميله الألماني، أن الحياة ستكون جيدة جداً بدون فيسبوك، وفق ما نقله عنه موقع "CITYA.M".
وقال النائب الأوروبي أكسل فوس عبر تويتر: "لا يمكن لـMeta ابتزاز الاتحاد الأوروبي للتخلي عن معايير حماية البيانات الخاصة به"، مضيفاً أن "مغادرة الاتحاد الأوروبي ستكون خسارة لهم"، وساهم فوس سابقاً في صياغة بعض تشريعات حماية البيانات في الاتحاد الأوروبي.
فيسبوك يتراجع قليلاً عن تهديده
شركة فيسبوك ليس لديها رغبة ولا تخطط للانسحاب من أوروبا، حسبما صرّح متحدث باسم Meta لقناة CNBC الأمريكية، يوم الإثنين الماضي، ولكنه استدرك قائلاً "إن الشركة أثارت نفس المخاوف في مرات سابقة".
وقال: "الحقيقة البسيطة هي أن Meta والعديد من الشركات والمؤسسات والتطبيقات الأخرى تعتمد على عمليات نقل البيانات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، من أجل تشغيل الخدمات العالمية".
ولم ترد المفوضية الأوروبية على الفور على طلب CNBC للتعليق.
واضطرت الشركة للتراجع في توضيح لاحق، بعد أن تصدر تهديد فيسبوك لأوروبا عناوين الصحف ووسائل الإعلام.
ففي مدونة، قال نائب الرئيس للسياسة العامة في Meta Europe، ماركوس راينيش، إن شركته "لا تهدد مطلقاً بمغادرة أوروبا، وأي تقرير يشير إلى أننا نفعل ذلك هو ببساطة غير صحيح. تماماً مثل 70 شركة أخرى في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فإننا نحدد مخاطر الأعمال الناتجة عن عدم اليقين بشأن عمليات نقل البيانات الدولية".
وأضاف "نريد أن نرى الحقوق الأساسية لمستخدمي الاتحاد الأوروبي محمية، ونريد أن يستمر الإنترنت في العمل، بما يتوافق مع القوانين المعمول بها، ولكن ليس محصوراً بالحدود الوطنية".
وعلق روب نيكولز، الأستاذ المشارك بجامعة نيو ساوث ويلز الأسترالية، وخبير سياسة المنافسة على كلام فيسبوك بقوله إن الشركة لا تهدد بمغادرة أوروبا، ولكنها تحاول الإشارة إلى المخاطر الناتجة عن إلغاء نقل البيانات لأمريكا، وليس بالضرورة ما ستفعله.
عاش أسبوع رعب وسبق أن حظر قارة بأكملها
يأتي كل ذلك في أعقاب أسبوع رعب بالنسبة لعملاق التكنولوجيا، حيث خسرت شركة ميتا أكثر من ربع قيمتها، وتلقت أول تهم جنائية لها على الإطلاق، وقبل ذلك بأشهر تعرض لانتقادات في الكونغرس الذي عقد جلسة استماع تحدثت فيها الموطفة السابقة في شركة فيسبوك فرانسيس هوغن عن تجاوزات الشركة.
وسبق أن فرض فيسبوك حظراً على أستراليا بأكملها، العام الماضي، لفترة وجيزة، حيث ظل الأستراليون ليوم أو أكثر غير قادرين على الوصول لحسابات فيسبوك، وذلك رداً على تشريع مقترح سعت فيه الحكومة الأسترالية إلى مطالبة منصات الإنترنت مثل Google وفيسبوك بدفع مقابل مادي للجهات الإخبارية الأسترالية، مقابل عرضها وربطها بمحتواها.
وقد قوبل حظر الأخبار بالفعل بالارتباك والنقد في البلاد.
وقالت خدمات الإطفاء والطوارئ والجمعيات الخيرية للعنف المنزلي ووكالات الصحة الحكومية وغيرها من المنظمات، إنها تأثرت أيضاً بالقيود، ما أثار الغضب بين أولئك الذين قالوا إن فيسبوك يقيد الوصول إلى المعلومات الحيوية.
فبالإضافة إلى الصفحات التي تديرها منافذ الأخبار، تم مسح العديد من الحسابات الأسترالية المدعومة من الحكومة بواسطة فيسبوك، ومن الصفحات الحكومية التي تأثرت تلك الصفحات التي تقدم تحديثات بشأن جائحة كوفيد-19، وتهديدات حرائق الغابات، حسب موقع CNBC.
وقال وزير الخزانة الأسترالي جوش فرايدنبرغ في ذلك الوقت، إن "تصرفات فيسبوك كانت غير ضرورية، لقد كانت قاسية، وستضر بسمعته هنا في أستراليا".
كان المسؤولون الآخرون أقل دبلوماسية، حيث اتهم رئيس وزراء مقاطعة أستراليا الغربية مارك ماكجوان الشركة "بالتصرف مثل ديكتاتور كوريا الشمالية".