كل مآسي الناس تأتي من الأمل
الفيلسوف الفرنسي، ألبير كامو
إن جلست إلى جمع كبير وفتح باب الذكريات، خاصة تلك الشاقة، ستجد لكل امرئ حكاية خفية، تجربة عصيبة، ربما تجربة انتحار فاشلة، أو اثنتين، ولكن المحاولة لم تكن جادة بما يكفي لفك أسر الروح من الجسد الفاني نحو الموت.
لنسيان تلك المأساة غير المكتملة، يمكنك أن تقتطع مبلغاً مالياً من مرتبك لتحضر جلسة "تنمية بشرية"، لتجد رجلاً مهندماً أو امرأة جميلة تحدثك عن الأمل، أو المتعة الكامنة في الرحلة أو الأشياء الجميلة التي تغفل عنها في حياتك، لأنك كالحمار لا تعرف أن الحياة رحلة ممتعة!
في كل الأحوال، يجب عليك أن تدفع مبالغ مالية ضخمة لحضور مثل تلك الجلسة، ومبالغ أكبر للمتابعة مع طبيب نفسي يشير لك للأشياء الجميلة في حياتك والتي من الممكن أن تراها بنفسك ولكنك لا تتمكن من الاستمتاع بها للشعور بالتعب، الاكتئاب، الحزن، اليأس، أو أي شعور سلبي آخر ناتج عن دورانك في ساقية الحياة كالثور معصوب العينين.
في عالمنا، تدفع أكبر الأثمان في سبيل الأمل، أو محاولات التعافي من الأذى الناتج عن تتابع الأيام بلا جديد، وبلا روح.
وفي خضم معاركك اليومية ستجد من يسخرون منك لتفاهة أزماتك، أو من يشكّكون في إيمانك لأنك تشكو من التعب. سيرتدون ثوب الحكمة البالي، وبعنجهية سيخبرونك أن الله لا يضع المؤمن في امتحان إلا وهو قادر على تحمله، وأن الله يعطي البرد القارس على حجم الغطاء، دون تقديم لحل.
إن الأمل في الواقع هو أسوأ الشرور لأنه يطيل عذابات الإنسان
الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه
من سقط في البئر!
قبل يومين، رحل عن دنيانا طفل صغير يبلغ من العمر خمس سنوات.
اهتزت قلوب الجميع عند رحيله إلا أنا. الجميع كان على ثقة من نجاته، يشاركون الأخبار المبشرة، ويحتفلون باقتراب الساعات المعلنة للوصول إليه.
أما أنا فحينما أخبرتني أمي أن هناك طفلاً صغيراً عالقاً في بئر بمدينة مغربية، قلت لها: مسكين، سيموت.
رمقتني أمي بنظرة حادة كالتي ترميني بها كلما قلت شيئاً لا يعجبها. قالت لي: لا، سيخرج، يقولون إنهم اقتربوا منه. هززت رأسي ولم أعلق وأخذت حقيبتي استعداداً للعودة للساقية.
حينما عدتُ قالت لي أمي: مات الولد. مسكينة أمه بأن تضعها الأقدار في تجربة كهذه، قلت لها: ارتاح، ماذا كان سيجني في عالم مثل عالمنا، ثم رددت جملة من الإنجيل كان صديقي يرددها دائماً، وقلت لا تدخلنا في تجربة كهذه يا رب.
لمن لا يعرف، بدأت حكاية ريان حينما سقط في بئر عميقة بمدينة شفشاون المغربية، ورغم كل الجهود التي بذلتها السلطات المغربية مات الولد حينما أو بعدما خرج.
لم يمت خلال يومين، لم يتمكن أي أحد من ذويه من العثور عليه فيهما، لم يمت خلال عمليات الإنقاذ البدائية، لم يمت في لحظة يأس من أشد المتفائلين.
مات ريان في لحظة الأمل، حينما كان يجب أن تصل الحكاية لنهايتها السعيدة، ولكن هذا العالم بشع وكئيب، والأشياء السعيدة فيه كلها استهلكها كُتّاب الدراما الرخيصة في أعمالهم التي بشرت الناس بالأمل الكذاب.
في عالمي، يموت الآلاف يومياً، نتيجة لأي شيء، يموت الأطفال في إفريقيا بسبب المجاعات، يموت السوريون وهم يعبرون البحر مع أهلهم هاربين من القصف والدمار، يموت أطفال اليمن من المرض والجوع والاقتتال على السلطة، أما في فلسطين فتموت الناس والحجارة منذ بداية الاحتلال المغتصب للأرض.
يموت ثوار السودان، ويتفرق أبناء ليبيا وينجو بأعجوبة من يسعفهم الحظ في الحصول على العلاج في لبنان. كلنا هنا نموت في أي مكان لأسباب مجهولة أو بأيادي "طرف ثالث" خفي. تخيل أن لا أحد في سلك القضاء المصري بأكمله يعرف حتى الآن من قتل ثوار مصر في 25 يناير أو مشجعي النادي الأهلي في أحداث مجزرة بورسعيد التي تمت ذكراها العاشرة قبل أيام معدودة، أو أحداث استاد الدفاع الجوي.
"موت شخص واحد مأساة كبرى. موت الملايين من البشر إحصائية"..
- الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين
اختلف الجميع حول حادثة موت الطفل المغربي، بعضهم قال مات وارتاح، والآخرون ظنوا نجاته ستكون مثل نجاة نبي الله يوسف ورددوا القصة دليلاً على لطف الله ونسوا أن زمن المعجزات انتهى.
آخرون قالوا لعل لله حكمة لا ندركها، أتساءل أنا لماذا لا ندرك الحكمة؟ لماذا في كل مصيبة يجب أن توجد حكمة ما يجب إدراكها فيما بعد!
لماذا يصر البعض على منح الألم كل هذه القداسة، ومنح الحزن الذي يشق القلب مبرراً إلهياً؟
ما الحكمة من الألم، ما الذي قد يحصل عليه أهل هذا الطفل الصغير من وفاة ابنهم؟ وأي تجربة كان من الممكن أن يستفيد منها طفل لم يختَر أن يأتي لهذا العالم من الأساس إلا للاضطرابات والعاهات المستديمة والخوف من الوحدة، ومن الظلام؟!
لم يختر أي شخص منا الوجود في هذا العالم، كلنا ضحايا اختيار أشخاص في الغالب لم يكن أي منهم مناسباً للآخر، أو مناسباً ليكون مسؤولاً كُلياً عن جلب طفل لهذا العالم.
في الغالب تبدأ الأزمة حينما يدرك الإنسان أن الوجود هو أصعب التجارب، وأن كل أذى يمر به مهما كان تافهاً كان من الممكن تجاوزه لو لم نكن هنا.
تولد وتكبر ويتم ملء دماغك بما يجب عليك أن ترثه من أهلك، أسرتك، يملأون رأسك بالكلام عن الانتماء للأسرة، والوطن، يضغطون عليك لتحمل في قلبك الإيمان كما يعرفونه عن الإله، يحشون أذنك بما يحب عليك فعله حينما تتزوج من يرونها مناسبة لك، ويملأون أذنيكِ عن عدد الأطفال اللازم إنجابهم كي تمرري جيناتك لهم، وتصنعي أسرة كبيرة تسندك حينما يشيخ جسدك، ليس مهماً ما تُبنی عليه الأسرة، ولا أحد يهتم بسعادتك مع زوجك أو حقيقة الظروف التي قد تأتين بها بالأطفال، المهم أن تجلبوا المزيد من الأطفال في عالم يدهس فيه الناس بعضهم للحصول على المقعد الفارغ في المواصلات أو المركب الذي سيعبر بهم البحر في الليل البارد بحثاً عن فرصة عمل في بلد أجنبي، أو فرصة للحياة هرباً من القصف..
الإيمان في العالم الثالث مقتصر على الشكل والطقس اليومي، وترديد ما يردده الجميع في المصائب، والحديث بكثرة عن الحسد والعين والجن السفلي.
في الدول المتقدمة
كان من المفترض أن تنجح المحاولات التي حدثت على مدار عدة أيام لخروج الطفل الصغير، لو أن ما حدث في الريف المغربي حدث في أي دولة من دول العالم الأول.
لا أعرف كيف، لكن كان من الممكن أن يتم إنقاذ ريان في عدد أيام وساعات أقل، ليس تقليلاً من الجهود المغربية ولكنه الواقع. هناك، في دول العالم الأول، يحترمون الإنسان ويقدسون حياته، وباستخدام التكنولوجيا أو فرق إنقاذ مدربة كان سيتم إنقاذ ريان والاحتفاء بمنقذيه.ولكننا هنا، في العالم الثالث، حيث عدد الضحايا مجرد رقم، والحادثة المفجعة مجرد شيء رائج سيختفي خلال أيام، "تريند".
هنا، لا أحد ينجو من عبثية الحياة، هذا العالم انتهت معجزاته بمجرد أن تمت الرسائل الإلهية. كل ما يحدث لنا الآن هو نتيجة أفعالنا نحن فقط!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.