الكاتب والمؤلف السينمائي الراحل وحيد حامد من النماذج العربية المحترفة في الكتابة ذات الطابع الاجتماعي، شهدت حياته تحولات جذرية عميقة، حيث بدأ في عالم المقال والقصة والرواية بتسليط الضوء على قضايا مجتمعية وسياسية تمسّ صميم الشعب المصري، ثم تحول إلى أداة فتاكة في يد السلطة تحركها كيفما تشاء!
كيف تحول هذا الكاتب الموهوب من شخصية تنويرية، سعت بقلمها لانتشال المجتمع المصري من بئر الجهل إلى بحر المعرفة، ومن بدروم التسطيح إلى برج النظرة التكاملية الرامية لإيجاد مجتمع إيجابي، مبادر، متعالٍ على الظلم، ومستعلٍ على القيم السلبية إلى شخصية مائعة، متماهية مع الفساد الذي لطالما حذرنا هو من عواقبه الوخيمة؟
وكيف تحول وحيد حامد من كاتب سخّر قلمه للحديث عن الحرية، ومعالجة الفساد المنتشر في مصر لاسيما بعد اعتماد سياسة الانفتاح من قبل الرئيس أنور السادات إلى كاتب يسهم في صناعة الجهل وانتفاش الفساد، وتعميمه في طول وعرض البلاد؟
لكن قبل التغير المذكور، تعاون وحيد حامد مع عبقري الإخراج المصري والعالمي عاطف الطيب في أكثر من عمل درامي يسلط الضوء على أبرز القضايا الاجتماعية السائدة في مصر، فصنعا معاً أفلام "التخشيبة" و"ملف في الآداب" و"الدنيا على جناح يمامة" و"كشف المستور"، غير أن أجمل عمل أفرزه تعاون الاثنين هو فيلم "البريء" الذي أهداه وحيد حامد إلى عشاق الحرية في كل زمان ومكان!
ظهر هذا الفيلم الذي تم إنتاجه بعد ميلادي بأربع سنوات، وقت أن كنت ألهو في الطين؛ أيام الضحكات الصافية الخالية من النفاق، والمحلاة بالغضب الصادق بلا أدنى احتراز.
تتجلى عبقرية الفيلم في أنه خرج في وقت كانت كافة ملامحه تدعو إلى طرحه، حيث قلة الأعمال التي تعالج قضية العلاقة بين المواطن والسلطة الغاشمة، وما تبرع فيه الأخيرة من تجهيل للناس، وصناعة الالتباس، وإظهار التراب على أنه ماس، وإظهار الخناس على أنه ملاك حساس!
لقد أطلعنا "البرئ" على تجربة أحمد سبع الليل الذي أدى دوره الممثل القدير أحمد زكي، ذلكم الشاب القروي البسيط الذي أنهكه الفقر، وأطلعنا على نظرته للوطن، ومفهوم حب الوطن لديه، وكيف غرس في وجدانه بمفاهيم سلطوية.
وكذا كيف حوّلته السلطة إلى وحش مفترس لكل القيم النبيلة في المجتمع، ورأينا الشاب الجامعي الوطني المثقف الذي أدى دوره الممثل المميز ممدوح عبد العليم الذي يصبح ضحية الجهل ابتداءً.
كما رأينا كيف تعمد السلطة إلى تحويل الإنسان إلى آلة مبرمجة تعزز الجهل وتقتل الحرية، متكئة على الجهل الذي تتفنن في صنعه، وتبرع في إشاعته، وتجتهد في تعميمه.
ليضعنا الفيلم أثناء تناوله أمام تساؤلين مهمين للغاية: الأول: من هو عدو الوطن؟
والثاني: من هو البريء حقاً؟
هل هو ذلك المثقف الذي أحيط بالجهل أم هو الجاهل الذي كان يؤدي دور المثقف وهو يحسب أنه يُحسن صنعاً؟!
ليجيب بالأخير بحسب ما حاول النقاد تلخيصه "بأن الحرية لا تقمع إلا بجهل الأبرياء"!
لجرأة الفيلم تم منع عرضه كاملاً، إلا بعد عقدين من إنتاجه، وتحديداً في عام 2005، أثناء تكريم رئاسة الجمهورية للفنان أحمد زكي، بعدما أدرك مبارك أن سياسة إظهار قدر من المعارضة ربما تسهم في تهدئة الشارع المحتقن من غلاء الأسعار وانتشار البطالة وتسلط الأمن على المواطن بشكل غير مسبوق!
عاطف الطيب شاب مثقف، مات في ريعان شبابه، أخرج خلال 12 عاماً هي عمره المهني ما يقرب من 20 فيلماً، جلها بالتعاون مع وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة، ومعظمها يعزز المدرسة الواقعية التي تستلهم عناصرها من واقع المجتمعات وليس من النماذج اليوتيوبية، لتأخذ المشاهد في حالة وجدانية تنعكس في إعمال عقله، وتدبر واقعه.
لست ناقداً فنياً، ولا خبرة عريضة لديّ بمفردات العمل السينمائي؛ لكنني أجزم بأن عاطف الطيب كان عبقرياً بالاستناد إلى جودة مخرجاته، وحسن اختيار عناصره وأدواته، وحبكة صنعته، وحسن تناوله القضايا الاجتماعية من شباك الفلسفة وباب الواقعية.
وتأمل على سبيل المثال سر اختياره لـ"الناي" دون أدوات العزف الأخرى في فيلم "البريء"، لأنه الآلة الأكثر إثارة للوجدان، واستثارة الدموع، والأداة الأبرز في التعبير عن الحزن الذي يعانق الإنسان إذا ما لازمه الجهل ولم ينفك عنه!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.