للعام الثاني على التوالي أجمع كبار الباحثين في معاهد الأمن القومي والتفكير الاستراتيجي في إسرائيل في تقييمهم للسياسات العامة للدولة للعام 2021 وتوقعاتهم للعام الحالي 2022، على حقيقة أن مستوى التهديدات الداخلية الذي تعيشه إسرائيل بات يشكل هاجساً أمام مشروع الحلم الصهيوني وتوسعه.
جاء ذلك في خلاصة تقرير صادر عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي التابع لجامعة تل أبيب الإثنين 24 يناير/كانون الثاني 2022، فيما يعرف بـ"وثيقة التقييم الاستراتيجي السنوية" الذي قُدم لرئيس الدولة إسحاق هرتسوغ.
وتضمنت الوثيقة حصر التهديدات التي تواجه إسرائيل بثلاثة مستويات وهي: خطر البرنامج النووي الإيراني باعتباره التهديد الخارجي، فيما حل ثانياً التهديدات والانقسامات الداخلية وما تعيشه إسرائيل جراء حالة التفكك الاجتماعي الآخذة في الاتساع بمستوى بات يستدعي دق ناقوس الخطر، كما حل ثالثاً المخاطر المحدقة من الجبهة الفلسطينية في ظل تراجع شعبية السلطة الفلسطينية وتنامي خصومها في ساحة الضفة الغربية.
ويعد معهد دراسات الأمن القومي أحد أهم معاهد الأبحاث ذات المصداقية، ويحتل المرتبة الـ26 في لائحة تقييم معاهد البحوث في العالم، ويرأسه البروفيسور مانوئيل طرخطنبرغ، ومن بين باحثيه شخصيات مركزية عسكرية وأمنية، مثل رئيس الأركان السابق للجيش غادي آيزنكوت، ورئيس مجلس الأمن القومي السابق مئير بن شبات، والسفير الأمريكي السابق في تل أبيب دان شابيرو.
الخطر المحدق بـ"الحلم الصهيوني"
ويصف آيزنكوت التهديدات الداخلية بأنها الخطر المحدق بمشروع "الحلم الصهيوني"، قائلاً: "الإسرائيليون قلقون ليس بسبب التهديد الإيراني، ولكن بسبب حالة التفكك الذي تشهده الدولة من الداخل".
وحدد آيزنكوت المُنظم لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط، وباحث أول في معهد دراسات الأمن القومي، أوجه القصور الذي تعاني منه إسرائيل من الداخل التي حددها بالتالي: استمرار القطيعة المتبادلة بين القادة السياسيين، وتدهور الحكم، وتراجع الثقة في مؤسسات الدولة والجيش، وانتشار الجريمة، وضعف التماسك وعدم المساواة، والنزاع بين القطاعات الاجتماعية، وعدم استيعاب الجمهور بأكمله في المجتمع.
تحاول السطور التالية تسليط الضوء على أبرز المشاكل والتحديات الداخلية التي تعيشها إسرائيل في السنوات الأخيرة، وإبراز دورها كأحد أهم المخاطر التي باتت تواجه مشروع الحلم الصهيوني واستقراره.
أزمة الحكم والانقسام السياسي
في الحديث عن الانقسامات الداخلية التي تعيشها إسرائيل لا بد من الإشارة إلى عمق الأزمة السياسية التي مرت بها دولة الاحتلال خلال العامين الأخيرين، حينما دخلت الدولة في نفق مظلم من أزمة الحكم، بعد أن خاضت 4 جولات انتخابية خلال أقل من عامين، فشلت خلالها الأحزاب السياسية في الاتفاق على رؤية مشتركة لتقاسم الحكم.
وتوصف هذه الأزمة بأنها الأخطر التي واجهت إسرائيل منذ تفجر الأزمة السياسية التي رافقت اغتيال رئيس الوزراء السابق إسحاق رابين في تسعينات القرن الماضي، حيث وصلت ذروة الخلافات الداخلية إلى تحذير أجهزة الدولة من مخاطر نشوب حرب أهلية ودخول الدولة في سيناريو من الفوضى وانهيار الدولة، وذلك في ضوء تلقي العديد من الزعماء السياسيين تهديدات بالقتل من جماعات متطرفة، ما استدعى جهاز الشاباك إلى زيادة عناصر الحراسة الأمنية على بعض أسماء الائتلاف الحالي كنفتالي بينيت، وإيليت شاكيد، ويائير لابيد، وبيني غانتس.
وقد سجلت الجولة الأخيرة لانتخابات الكنيست التي جرت في شهر مارس/آذار 2021، مشاركة 39 قائمة انتخابية، وهو رقم قياسي لم تشهده إسرائيل طوال 23 جولة انتخابية منذ تأسيسها قبل 74 عاماً، ما يعبر عن حالة مرضية وصل إليها النظام السياسي في إسرائيل.
صحيح أن هذه الجولات المتكررة للانتخابات أفضت في نهاية المطاف إلى تشكيل حكومة تناوب بين نفتالي بينيت ويائير لابيد في مايو/أيار 2021 بعد إخفاق حكومة بنيامين نتنياهو في حرب غزة، إلا أن مركبات الحكومة الحالية وعددها 8 أحزاب هي خليط متناقض من أحزاب اليمين المتطرف والعلمانيين واليسار والعرب والإسلاميين، ما يضعها في حالة من عدم الاستقرار كونها تشكلت بالحد الأدنى من المقاعد 61 مقعداً مقابل 59 مقعداً للمعارضة، التي تبدو أكثر تماسكاً كونها تمثل الطيف الواسع من كتلة اليمين برئاسة الليكود.
ووفقاً لآخر استطلاع أجراه معهد الديمقراطية الإسرائيلي، فإنه بالكاد يبلغ التأييد للكنيست الحالي21%، في حين انخفضت الثقة في الأحزاب السياسية إلى نسبة غير مسبوقة بلغت الـ14%.
غياب القيادة
ضعف أداء الحكومة الحالية لا يقتصر فقط على حالة عدم الاستقرار التي تعيشها، بل إن مسألة اتخاذ القرارات للمسائل التي تحتاج إلى حسم غائبة عن جدول أعمال الحكومة، ففي الوقت الذي يشارك وزيرا الدفاع بيني غانتس والخارجية يائير لابيد لقاءات مع قادة السلطة الفلسطينية كالرئيس محمود عباس وحسين الشيخ وماجد فرج بهدف دفع عملية التسوية للأمام، يرفض رئيس الوزراء بينيت القبول بمبدأ الحديث مع الفلسطينيين.
نظير مجلي، الكاتب والمحلل السياسي من الداخل قال لـ"عربي بوست" إن "مستوى الصراعات الداخلية في السنوات الأخيرة وصل لمستوى ينذر بدخول الدولة في حرب أهلية، وهذا الصراع الذي تعيشه إسرائيل معقد بشكل كبير كونه يقع بين قوى اليمين واليسار والعلمانيين والمتدينين والعرب، وخطورته تكمن بأن بعض الجماعات اليمينية التي تمثل غالبية المجتمع باتت قوة منافسة للدولة، لدرجة أن الاعتداءات التي ينفذونها لم تعد محصورة في الوسط العربي بل باتت تشمل يهوداً من أبناء جلدتهم ومتضامنين أجانب دون قدرة الشرطة على ضبطهم".
وأضاف المتحدث أن "هذا الصراع بات ينهش في عظم المجتمع الإسرائيلي، ويضرب بقوة في اللبنة التي قامت عليها الدولة وهو التعاضد القومي، لذلك ما شهدناه من صدامات بين مركبات المجتمع الإسرائيلي أثناء فترة الانتخابات وجائحة كورونا وفي حرب غزة الأخيرة قد يكون مقدمة لما هو متوقع في السنوات القادمة، من فرض أحد الأطراف نفسه على المجتمع، ما سيدخل الدولة في سيناريو من الفوضى والحرب الأهلية".
وتابع: "القيادة الإسرائيلية السياسية كل الوقت كانت قيادة جبانة كما قال إيزنكوت فهي لا تستطيع اتخاذ القرارات، منذ رابين لم ينشأ في إسرائيل قائد يستطيع أن يطرح أمراً جدياً تجاه عملية سلام حقيقية أو تسوية شاملة، باستثناء إيهود أولمرت الذي وجدوا له ملفات فساد أبعدته عن الحكم وعملياً انتهى المشروع الذي جاء به لتسوية القضية الفلسطينية".
تراجع ثقة الجمهور بالجيش
تواجه المؤسسة العسكرية في إسرائيل تحدياً استراتيجياً يُهدد مستقبل الدولة يتمثل في تراجع ثقة الجمهور الإسرائيلي بجيش بلاده، إذ تراجعت نسبة الثقة لـ78% مقارنة بـ86% للعام 2021، وفقاً لاستطلاع معهد الديمقراطية الإسرائيلي الصادر في 6 من يناير/كانون الثاني 2022، كأدنى مستوى منذ حرب يونيو/حزيران 1967.
ولعل أخطر ما يواجه الجيش الإسرائيلي هو ما أشار إليه إيزنكوت قبل أيام بأن الصمود القومي للمجتمع الإسرائيلي أهم عنصر في الأمن القومي، معللاً ما قاله بأنه عندما انخرط في الجيش عام 1978 كانت ما نسبته 88% من المجندين يهوداً ودروزاً، ولكن عندما التحق ابني في الخدمة الإلزامية في العام 2015 وصلت نسبة التجنيد من اليهود إلى 67%، واصفاً هذا التراجع بالمريع والخطير.
كما أن غالبية المجندين الجدد وفقاً لإيزنكوت باتوا يفضلون التوجه للخدمة العسكرية في وحدات السايبر، و8200، والوحدات التكنولوجية، مما يعني أن استعدادهم للحرب والقتال والمجازفة آخذ في التراجع.
يُعد الحديث عن الجيش في إسرائيل مسألة تحظى باهتمام كبير، كونه يمس العصب الأكثر حساسية في المؤسسة الرسمية والمجتمع، فمنذ قيام إسرائيل مثل الجيش حجر الأساس لقيام الدولة، ولكن ما شهدته السنوات الأخيرة غير من قناعات الجمهور تجاه المؤسسة العسكرية من تقديس الجيش وتحويله من "جيش الشعب" إلى وظيفة اختيارية.
انخفاض الجهوزية وغياب الميزانية
وقد دخل الجيش الإسرائيلي على خط الانقسامات السياسية في الدولة، فخلال أزمة الانتخابات المتكررة في العامين الأخيرين، التي ترافقت مع انتهاء حقبة إيزنكوت وتولي أفيف كوخافي رئاسة الأركان، فشل الأخير في تمرير خطته متعددة السنوات لتطوير قدرات الجيش المعروفة بـ"تنوفا" بسبب عدم التوافق بين الكتل السياسية على قانون الموازنة العامة للعامين 2020_2021، ومثل التحدي الثاني نشوب خلافات بين قوى اليسار واليمين بشأن قانون التجنيد الإجباري الذي تم تمريره مؤخراً بنجاح، وأعفى المتدينين اليهود من أداء الخدمة الإلزامية.
ميدانياً تعرض الجيش في السنوات الأخيرة لهزات استراتيجية بعد فشله في حسم الكثير من ساحات القتال، وفقد عنصر المبادرة والحسم، ولعل ما شهدته حرب غزة الأخيرة في مايو/أيار 2021، يعبر عن هذا الخلل العملياتي والانحراف الكبير في تقدير الموقف لدى الخصوم.
في جبهة غزة بشكل خاص كونها الجبهة الأكثر اشتعالاً، والتي باتت تؤرق قادة الجيش والدولة، فقد مُنيت المؤسسة العسكرية والأمنية بتحدٍّ خطير نتيجة تفوق قدرات المقاومة الفلسطينية في حروب السايبر، كما استطاعت المقاومة اختراق هواتف الجنود في فرقة غزة واستدراجهم بطريقة احترافية مكنتهم من الوصول لمعلومات خاصة عن المواقع والاستعدادات العسكرية، وهو ما حذر من خطورته وزير الدفاع غانتس بالإشارة إلى أن جيشه لن يسمح بكسر التفوق العسكري أمام خصوم إسرائيل.
واصف عريقات، اللواء المتقاعد والخبير العسكري قال لـ"عربي بوست" إن "تراجع أداء الجيش الإسرائيلي في المعارك التي يخوضها في جبهاته المتعددة، انعكس سلبياً على صورته أمام الجمهور، وتحول الجيش في السنوات الأخيرة من جيش مبادر إلى جيش دفاع يتعامل برد الفعل، أي أنه فقد عنصر المباغتة والمبادرة التي تميز بها لسنوات، وهذا ما يفسر انخفاض ثقة الجمهور بالمؤسسة العسكرية لمستويات خطيرة".
التحديات الاقتصادية والاجتماعية
بات المجتمع الإسرائيلي يواجه أشكالاً متعددة من التحديات الاجتماعية باتت تهدد نسيج الدولة وتماسكها، وينظر إليه وفق مراكز صنع السياسات كأخطر تهديد داخلي يواجه ما يعرف بـ"المناعة المجتمعية" ليهودية الدولة، في ضوء ارتفاع مستوى التجاذبات والانقسامات بين مركبات المجتمع اليهودي.
وشهدت الساحة الإسرائيلية في الأعوام الثلاثة الأخيرة حالة من النقاش الواسع بعد انزلاق حالة الانقسام والتفكك الداخلي، لتصل ذروتها إلى اندلاع سلسلة احتجاجات ضمن مظاهرات دعت إليها قوى اجتماعية وسياسية ضد سياسات الدولة في التعامل مع الكثير من القضايا العالقة وتحديداً خلال أزمة كورونا التي أرهقت فئات مختلفة من الجمهور الإسرائيلي والتي زادت بدورها من مستوى الفروقات الاقتصادية بين فئات المجتمع وكشفت عن هشاشة النظام الاقتصادي في إسرائيل وخضوع القرارات الخاصة بالجائحة للمزاج السياسي دون وجود مرجعية إدارية.
أبرز ما يعانيه المجتمع الإسرائيلي من تحديات داخلية هو انعدام الأمن الاقتصادي والوظيفي، وأزمة العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة واتساع دائرة الطبقة الوسطى وخلق ما يعرف بالطبقية داخل المجتمع.
فوفقاً لمؤسسة التأمين الوطني في إسرائيل فإن خط الفقر في الدولة يتحدد عند دخل 1040 دولاراً للفرد سنوياً، في ضوء ذلك فإن نسبة الفقر في الدولة وصلت
لـ24% ما يعني وقوع نحو مليوني مواطن تحت خط الفقر، ومن أشكال غياب العدالة الاجتماعية ضمن هذا المؤشر فإن نسبة الفقر بين المتدينين (الحريديم) تصل إلى 59%، بينما تنخفض النسبة بين العلمانيين لـ12%، و47% بين المواطنين العرب.