بعد ما يقرب من أسبوعين منذ الإعلان عن مبادرة أممية، تبدد الأمل في نجاح تلك الخطوة في إحداث اختراق في الأفق المسدود منذ انقلاب قادة الجيش على المكون المدني، فلماذا لا تمتلك تلك المبادرة فرصة النجاح؟
كان السودانيون والعالم قد استيقظوا، الإثنين 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، على حملة اعتقالات شملت رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وعدداً من وزرائه ومستشاريه وقادة قوى "إعلان الحرية والتغيير"، المكون المدني في السلطة الانتقالية في البلاد، ثم ألقى البرهان بياناً في اليوم نفسه، أعلن خلاله جملة قرارات أنهت عملياً الشراكة بين العسكر والمدنيين في البلاد.
وقرر البرهان إقالة حكومة حمدوك ومديري الولايات في السودان، كما حل مجلس السيادة، وألغى قرار حل المجلس العسكري، وجمّد عدداً من مواد الوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس/آب 2019، بمثابة دستور للفترة الانتقالية في البلاد، وانفرد البرهان وزملاؤه في المجلس العسكري بالسلطة في البلاد.
لكن المظاهرات الحاشدة رفضاً للانقلاب لم تتوقف ونجحت وساطة الأمم المتحدة على مدى الأسابيع التي أعقبت الانقلاب في إعادة حمدوك إلى منصبه، لكن تلك العودة جاءت في إطار اتفاق سياسي بين حمدوك والبرهان رفضته القوى المدنية واستمرت المظاهرات الحاشدة المطالبة بإبعاد قادة الجيش عن العملية السياسية بشكل كامل، وأدى ذلك إلى استقالة حمدوك في نهاية المطاف، ما زاد الغموض المحيط بمستقبل السودان السياسي.
مبادرة أممية تفاصيلها "سرية"
وفي هذه الأجواء المشحونة، أعلن الممثل الخاص للأمم المتحدة في السودان فولكر بيرثيس، السبت 8 يناير/كانون الثاني، في بيان عن إطلاق عملية سياسية جديدة، مضيفاً: "لم تنجح كل التدابير التي تم اتخاذها حتى الآن في استعادة مسار التحول الذي يحقق تطلعات الشعب السوداني. لم يسهم العنف المتكرر ضد المتظاهرين السلميين عقب الانقلاب إلا في تعميق انعدام الثقة بين كافة الأحزاب السياسية في السودان".
هذا التعهد من الأمم المتحدة أن تتضمن مبادرتها الجديدة لحل الأزمة في السودان النصَّ على دور محدود للجيش وتأسيس مجلس سيادي جديد ومجلس تشريعي انتقالي، أدى إلى حالة من التفاؤل الحذر في بعض الأوساط.
لكن التفاؤل ما لبث أن تبدَّد في غمار ما أبداه خبراء وجماعات معارضة من مخاوف ترى أن مبادرة الأمم المتحدة لم تقدم جديداً. ورصد تقرير موقع Middle East Eye البريطاني ردود الفعل بعد مرور نحو أسبوعين من الإعلان عن المبادرة دون جديد.
إذ قالت مصادر للموقع البريطاني إن مبادرة الأمم المتحدة، الذي لم تتوافر تفاصيلها الكاملة بعد للجمهور، تشمل عزل الجيش من السلطة وحلِّ مجلس السيادة الحاكم الذي يقوده اللواء عبد الفتاح البرهان. وقال مصدران، لم يرغبا في الكشف عن هويتيهما، إن المبادرة التي تحظى بدعم من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، تنص على إنشاء كيان جديد يُسمى مجلس الدفاع والأمن، ويرأسه رئيس وزراء مدني جديد، بالإضافة إلى تشكيل مجلس تشريعي انتقالي بعد التشاور مع الأحزاب السياسية.
وفي حين أن ما تسرب عن المبادرة لم يوضح الدور المنوط بالجيش في الإدارة الجديدة، فإن المصادر أخبرت موقع MEE بأن الجيش يضغط من أجل دور قيادي له في مجلس الدفاع والأمن.
وقال أحد المصادر دون تطرقٍ إلى التفاصيل: "ما زالت تجري محادثات للبحث فيما إذا كان قادة الانقلاب سيُسمح لهم بمخرجٍ آمن من السلطة، أم سيشاركون في الحكومة بأدوار محددة وواضحة".
في المقابل، نفى مكتب فولكر بيرثيس، الممثل الخاص للأمم المتحدة في السودان ورئيس بعثتها، وجود اقتراح كهذا، وقال إن هذا الكلام "غير صحيح على الإطلاق".
وقال مكتب بيرثس لموقع MEE: "نحن لم نتعهد بأي شيء. فنحن لسنا المسؤولين عن صياغة المبادرة، إنها مسألة موكولة إلى السودانيين". وصرح بيرثيس للصحفيين الأسبوع الماضي بأنه سيُجري مشاورات مع جميع الفاعلين السياسيين والقوى الاجتماعية، والجيش أيضاً.
"لا تفاوض، لا شراكة، لا حل وسطاً"
رحَّبت قيادة الجيش السوداني بوساطة الأمم المتحدة، لكن المعارضة أبدت التحفظ، وشكَّكت منظمات المجتمع المدني والمجموعات الاحتجاجية السوداني في نزاهة الأمم المتحدة وقدرة بيرثيس على الوصول إلى أي حلول حاسمة.
وكان البرهان قد أصدر الخميس 20 يناير/كانون الثاني، بصفته رئيساً لمجلس السيادة، قراراً بتكليف 15 وزيراً في حكومة تصريف أعمال جديدة دون أن يسمي رئيساً للحكومة خلفاً لحمدوك، في محاولة لتخفيف الضغوط الدولية على ما يبدو.
وبالعودة إلى تداعيات الإعلان عن المبادرة الأممية، نجد أن دعم بيرثيس العلني لاتفاق نوفمبر/تشرين الثاني بين الجيش وحمدوك لم يكن بادرة تبشِّر بالخير لدى مجموعات المعارضة، التي ترفض التفاوض مع قيادات الانقلاب في الجيش.
وأشارت المنظمات المؤيدة للديمقراطية في السودان إلى مخاوفها من أن أي ترتيب سياسي جديد تسفر عنه المفاوضات لن يكون إلا تكراراً لاتفاق السلطة في عام 2019، وأنه سيتضمن في الغالب عفواً عن القادة العسكريين الذين قادوا الانقلاب، وعن المشاركين في حملات القمع العنيفة للمتظاهرين.
وفي هذا السياق، قال تجمع المهنيين السودانيين لموقع MEE إنه تبنى فيما يتعلق بأي إشارة إلى محادثات محتملة مع الجيش استراتيجيةً تقوم على ثلاث نقاط: "لا تفاوض ولا شراكة ولا حل وسطاً".
وصرح وليد علي، المتحدث باسم تجمع المهنيين السودانيين، بأن التجمع "يراقب تحركات هذا الرجل المثير للجدل، بيرثيس، وتدخُّله في القضايا الداخلية لبلادنا وما نتطلع إليه لحل مشكلاتنا".
ولا يقتصر الأمر على تجمع المهنيين السودانيين، فـ"لجان المقاومة السودانية"، وهي إحدى القوى الشعبية البارزة الأخرى، تشارك المخاوف ذاتها بشأن "التدخل الخارجي المرفوض" في شؤون البلاد.
وقال محمد عبد الله، القيادي بلجان المقاومة، لموقع MEE: "لا يجوز السماح بتحديد مستقبلنا خلف الأبواب المغلقة تحت رعاية القوى الغربية وأجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية التي تريد فرض أجندتها على السودان". وشدَّد عبد الله على أن "السودان في ثورة، وليس أزمة، كما يقول مبعوث الأمم المتحدة".
تجربة بيرثيس في سوريا
من جهة أخرى، فإن "قوى الحرية والتغيير"، وهي جماعة بارزة أخرى مؤيدة للديمقراطية، اتخذت نبرة أكثر ليونة تجاه مبادرات الأمم المتحدة، وقالت إنها قبلت الوساطة بشروط، لكنها أشارت إلى تمسّكها بالموقف نفسه من رفض التفاوض مع الجيش.
وقال وجدي صالح، المتحدث باسم قوى الحرية والتغيير، خلال مؤتمر صحفي عُقد في الخرطوم في وقت سابق من هذا الأسبوع: "نرحب بمبادرة فولكر الخاصة بالأمم المتحدة، ما دامت لا تدعونا إلى الجلوس مع الجيش أو التفاوض معه. فنحن لن نكرر ما خبرناه من قبل ونبني شراكة أخرى مع الجيش. مكان الجيش هو الثكنات، وليس أي مكان آخر".
في غضون ذلك، فإن إحدى أبرز النقاط الشائكة لدى من يعارضون وساطة الأمم المتحدة في السودان تتعلق بالدور السابق لممثلها فولكر بيرثيس في محادثات السلام السورية. فبين عامي 2015 و2018، كان بيرتس مستشاراً لمبعوث الأمم المتحدة في سوريا، وترأس فريق العمل على وقف إطلاق النار التابع للمجموعة الدولية لدعم سوريا (ISSG).
وفي سياق الحديث عن الآراء المعترضة على وساطة بيرثيس، أشار فراس الخالدي، الذي كان ممثلاً للمعارضة السورية في المفاوضات الدولية في ذلك الوقت، لموقع MEE، إلى أن "[الوساطات الدولية في سوريا] فتحت الأبواب على مصراعيها للتدخل [الأجنبي] وأخذت من السوريين حقهم" في إدارة المفاوضات.
ولفت الخالدي إلى أن رعاية الأمم المتحدة للمفاوضات سمحت بتدخل المزيد من الدول ذات المصالح المتنافسة، مثل روسيا وإيران وتركيا وقطر والسعودية، وهو ما أدى في النهاية إلى فشل المفاوضات.
وذهب الخالدي، الذي كان على تواصل مباشر مع بيرثيس في ذلك الوقت، إلى أن "وساطة بيرثيس سمحت للنظام السوري بالمناورة وكسب المزيد من الوقت، لأن هذه المحادثات لم تفرض ضغوطاً حاسمة عليه. وأخشى أن هناك قرائن تدل على أن الشخص نفسه سيرتكب هذا الخطأ مرة أخرى في السودان".
يعتقد كاميرون هدسون، المدير السابق لمكتب المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان، أن بيرثيس "ساءت سُمعته" في السودان منذ أن دعم الصفقة التي "بدا أنها تبرئة للجيش من مسؤوليته عن الانقلاب".
ويرى هدسون أن فرص بيرثيس في إنجاح المبادرة ضعيفة، لا سيما مع تزايد السخط الشعبي ضد الجيش، وقلة الدعم له من الجهات الفاعلة الدولية ذات النفوذ. وقال هدسون: "مما لا شك فيه أن هذه المبادرة أُعلن عنها دون أن يكتمل نضجها بعد، ودون مشاركة كاملة للأطراف الفاعلة".
وخلص هدسون إلى أنه "ما لم يتخذ الجيش السوداني إجراءات ملموسة تثبت للناس أنه صادق بشأن مزاعم الإصلاح الداخلي وإصلاح الدولة السودانية، فلا معنى للاعتقاد بأن أي نسخة جديدة للشراكة القديمة [بين القوى المدنية والجيش] ستكون نتائجها مختلفة".