قبل عدة أيام استضاف وزير الخارجية الصيني وانغ يي، وفداً خليجياً يضم وزراء خارجية السعودية والكويت وعُمان والبحرين، فضلاً عن الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي. وأعقبهم مباشرةً وزيرا الخارجية التركي والإيراني. وأحدثت بكين أيضاً ضجة صغيرة بإعلانها أنَّ سوريا وقَّعت اتفاق تعاون من أجل العمل مع الصين بشأن "مبادرة الحزام والطريق".
هذه الزيارات أثارات السؤال الأهم حول علاقات الصين بدول الشرق الأوسط وهل هذه العلاقة عميقة بما يكفي أم أنها علاقة عابرة تحكمها فقط مصلحة التجارة والنفط، كما يقول تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
كانت هذه الزيارات هامة بالفعل لكن العلاقة بين بكين وهذه الدول ليست جديدة، ففي عام 2021 قام وزير الخارجية الصيني بجولتين مهمتين إلى المنطقة، فزار السعودية وتركيا وإيران والإمارات وعُمان والبحرين في مارس/آذار، ثم سوريا ومصر والجزائر في يوليو/تموز. أضيف إلى ذلك زيارة مستشار الدولة الصيني يانغ جيتشي إلى قطر والكويت في مطلع 2021، وسيكون واضحاً أنَّ بكين تُكرِّس موارد دبلوماسية كبيرة للمنطقة.
من السهل –لكن الخطأ- أن يُنسَب هذا فقط إلى الطاقة. وتعتمد الصين بالفعل بقوة على الخليج لتحقيق أمن الطاقة، وتستورد عادةً ما يزيد عن 40% من نفطها الخام من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. مع ذلك، أظهر العام الماضي الطبيعة متعددة الأوجه للحضور الصيني في المنطقة، بما في ذلك دور وليد لكن متنامٍ في الشؤون الأمنية.
ليس النفط وحده
تأتي زيارة المسؤولين الخليجيين في وقت تشهد العلاقات بين واشنطن وكلّ من الرياض وأبوظبي توتّرات على خلفية علاقتها بالصين، فقد علَّقت الإمارات العربية المتحدة المحادثات مع الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على طائرات "F-35″، بعد ضغط واشنطن على أبوظبي للابتعاد عن الصين وإزالة معدات "هواوي" من شبكاتها.
وشهدت العلاقات بين الصّين ودول الخليج العربي تطوراً كبيراً على مختلف الأصعدة، وتولي الصين أهميّة كبيرة لمنطقة الخليج العربي الغنية بالنفط، وهي تحتل المركز الأول كأكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بينهما نحو 162 مليار دولار أمريكي في العام 2020. وتتصدَّر السعودية لائحة شركاء الصين التجاريين، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين خلال العام 2020 حوالى 67 مليار دولار. وتأتي الإمارات العربية المتحدة في المرتبة الثانية، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بينهما 49.1 مليار دولار أمريكي.
وتعتبر السعودية أكبر مورد للنفط الخام إلى الصين، إذ أظهرت بيانات الجمارك الصّينية أنّ تدفّقات النفط السعوديّ إليها بلغت 7.4 مليون طنّ خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وهو ما يعادل 1.8 مليون برميل يومياً. وللصين علاقات استراتيجية شاملة مع السعودية والإمارات العربية المتحدة. كما تحتلّ دول الخليج دوراً مهماً في مبادرة "الحزام والطريق" الصينية التي انضمت إليها دول مجلس التعاون الستّ.
تسعى الصّين منذ سنوات إلى إبرام اتفاقية تجارة حرة مع دول الخليج. وقد أعلن عن ذلك صراحة وزير الخارجية الصيني وانغ يي أثناء زيارته إلى المنطقة في شهر آذار/مارس الماضي. ولا تعدّ المفاوضات لإبرام اتفاقية تجارة حرة جديدة، بل تعود إلى العام 2004. ومنذ ذلك الوقت، عقدت جولات تفاوضية واجتماعات فنية لإقامة المنطقة التجارية الحرة.
ويبدو أنَّ الطرفين يبديان اهتماماً كبيراً ورغبة جدّية في إتمام المفاوضات والتوقيع على اتفاقية التجارة الحرة، ولا سيما في ظل توتر العلاقات مع واشنطن. لذلك، ستشهد هذه الزيارة مفاوضات حول هذه الاتفاقية.
الدور العسكري للصين في الخليج
وأشارت تقارير مثيرة أخرى مؤخراً إلى دور عسكري صيني في شبه الجزيرة العربية. ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2021، أفادت صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية بأنَّ بكين تبني منشأة عسكرية في الإمارات، وهو التقرير الذي وصفته الحكومة الإماراتية بأنَّه توصيف خاطئ للمشروع. وبعد ذلك بفترة قصيرة، ذكرت شبكة CNN الأمريكية أنَّ السعودية تُصنِّع بنشاط صواريخها الباليستية بمساعدة صينية.
تُعَد العلاقات الصينية مع منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إذا ما نظرنا إليها بحد ذاتها، تعبيراً رائعاً عن تحول جيوسياسي متزايد، في ظل استمرار بلدان وشعوب وأسواق آسيا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في الاندماج على نحوٍ أعمق.
فتُشكِّل البلدان الآسيوية أكبر الأسواق لنفط الخليج، الأمر الذي يُوجِد تعاوناً اقتصادياً طبيعياً، وشهية الصين لطاقة الخليج هائلة. وكانت الشركات الصينية لاعبة رئيسية في العقود المُبرَمة في مختلف أنحاء المنطقة على مدار العقدين الماضيين. أُضِيف إلى ذلك مبادرة الحزام والطريق، التي تربط الأسواق وسلاسل التوريد عبر المحيط الهندي وأوراسيا، وأصبح من الواضح بشكل أكبر أنَّ استقرار منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عنصراً مهماً لنجاح مبادرة الحزام والطريق، وبالتالي نجاح السياسة الخارجية لبكين.
مع ذلك، فإنَّ مثلث الصين – أمريكا – منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يضفي إطاراً من التعقيد على هذه المسألة. فمثلما هو الحال بالنسبة للبلدان الخارجية الأخرى النشطة في المنطقة، استفادت بكين من مظلة واشنطن الأمنية التي سمحت لها بتطوير حضور عميق لها دون الاضطلاع بالتزامات أمنية مقابلة. لم تكن هذه مشكلة حين كانت العلاقات الصينية الأمريكية في حالة جيدة، لكن مع تدهور العلاقات الثنائية في السنوات الأخيرة، بدأت التوترات بينهما تبرز في البلدان والمناطق التي تملك كلٌّ منها مصالح عميقة فيها.
مسرح جديد للتنافس
والشرق الأوسط هو بوضوح إحدى هذه المناطق. ويترك إطار التنافس الاستراتيجي الذي تتبنّاه واشنطن تأثير على السياسة الخارجية لحلفائها وشركائها في مختلف أنحاء المنطقة. فأشار أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات، قائلاً: "ما نحن قلقون حياله هو هذا الخيط الرفيع بين المنافسة القوية بين الصين والولايات المتحدة وظهور حرب باردة جديدة".
ولا بد من النظر إلى زيارات وزراء خارجية الشرق الأوسط إلى الصين في هذا السياق الأكبر. فالقادة في مختلف أنحاء المنطقة قلقون من أن تصبح المنطقة مسرحاً لتنافس القوى الكبرى. وفي الوقت نفسه، يشعرون بالقلق من الاحتمال الدائم بالانسحاب الأمريكي في ظل تحوُّل تركيز هذه الأخيرة نحو منطقة المحيطين الهندي والهادي. وأصبحت إدارة العلاقة مع واشنطن، وفي نفس الوقت تعزيز العلاقات مع بكين توازناً صعباً، لكنَّه مهم، فالجميع يريدون التحوط.
لم تنتج اللقاءات بحد ذاتها إلا القليل في ما يتعلق بالتعهدات الجوهرية أو المبادرات الجديدة. وكان هنالك حديث عن مواصلة العمل نحو إتمام اتفاق تجارة حرة بين الصين ومجلس التعاون الخليجي، وهذا الأمر مطروح منذ عام 2004. وقال وانغ ووزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، إنَّ البلدين بدآ مرحلة تطبيق الشركة الاستراتيجية الشاملة التي جرى توقيعها في مارس/آذار 2020 وكانت قيد التطوير منذ 2016.
أعاد وانغ أيضاً التأكيد على مبادرة الخمس نقاط الصينية بشأن أمن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتي أُعلِنَت خلال زيارته إلى السعودية عام 2021. وتتسم المبادرة، التي تدعو بلدان المنطقة إلى احترام بعضها البعض، ودعم الإنصاف والعدالة، وتحقيق عدم الانتشار النووي، والتعزيز المشترك للأمن الجماعي، وتسريع التعاون التنموي، بأنَّها مبهمة ولا تصيغ إطار عمل للتطبيق. وكان البيان الصحفي المتعلق بزيارة وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، قد ذكر أنَّ الوزير أعرب عن توقعات تركيا وحساسياتها بشأن معاملة الإيغور، وهي نقطة مهمة تتحدث عنها أنقرة دوماً. وفي حين أنَّ وزير الخارجية الإماراتي، الشيخ عبد الله بن زايد، لم يسافر مع الوفد إلى بكين، فإنَّه تحدث هاتفياً مع وانغ لمناقشة مجالات التعاون والدعم.
ولم يؤدِّ أيٌّ من هذا إلى إحداث تغيير جوهري في أي شيء. بل أعادت فقط التأكيد على ما كنا نراه يتكشَّف، وهو أنَّ الصين أضحت فاعلاً سياسياً مهماً في الشرق الأوسط. وكانت تصيغ حضوراً إقليمياً طموحاً على نحو متزايد، وقادة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا متقبِّلون لذلك. وفي بيان صحفي بعد عودة كل ضيوفه إلى بلدانهم، أكَّد وانغ على "عدم وجود فراغ قوة" في الشرق الأوسط، وبالتالي عدم وجود حاجة لتدخل "أبوية أجنبية" في المنطقة. إنَّه يقول للمنطقة إنَّ الصين لديها طريقة مختلفة للانخراط مع المنطقة، وإنَّ هنالك بديلاً للولايات المتحدة. وسواء تبيَّن أنَّ ذلك هو الحال فعلاً أم لا، ستترك الرسالة أصداءً.