حاولت أن أجمع بين المذكرات الشخصية والرواية التاريخية عندما أتحدث عن السياسي الفلسطيني نبيل شعث، ولهذا فقد امتدت هذه المذكرات لتغطي ثلاثة كتب، بدأت من الجزء الأول الصادر بالعام 2016 وعنوانه "من النكبة إلى الثورة"، وهو كتاب يزيد عن الـ500 صفحة، لكن أسلوبه الأدبي الرفيع يجعلها تمر سريعاً.
يذكر نبيل أنه عاش 50 عاماً في الشتات، ولكنه لم يعانِ ما عانه اللاجئون في مخيمات اللجوء، فقد أتيح له التعلم والتثقيف في مجالات مختلفة منها الموسيقي وحصل على الدكتوراه من أرقى جامعات العالم. وهو يذكر في مقدمته أمراً مهما تمنيت لو كان ممكناً لجميع القادة، يقول إنه تمسك بمهنته كأستاذ ومدرب وخبير في الاقتصاد والإدارة وناشر لكتب الأطفال، في الوقت الذي كان يمارس فيه مهامه النضاليةن فهو يؤمن بأن العمل الوطني يجب أن يستند إلي التطوع، وأن المناضل السياسي يجب أن يكون له مهنة يكسب منها قوته ليستمر في عطائه من وقته وجهده وماله للقضية، وقد مارس هذا نبيل بنفسه حتى تفرغ للوزارة العام 1994 وأصبح بهذا يتقاضى راتباً.
عائلة شعث بالثاء نسبة إلي التبعثر، وبعضهم يسميها بالتاء وكلاهما واحد، إذ تنتمي العائلة إلي قبيلة طيء الذين استقر بعضهم في قرية شعثة شمالي المدينة المنورة، وهاجروا إلى مصر أيام الظاهر بيبرس، حيث استقروا في بلبيس ولكنهم أيضاً توزعوا على كفر الشيخ والفيوم، وينسب إلي أحدهم جامع شعث في الإسكندرية.
فيما هاجر بعضهم إلى خان يونس وغزة وبئر السبع، وصار كبيرهم تاج الدين شعث رئيساً لبلدية بئر السبع، حيث استمر في منصبه 34 عاماً، بيته لا يزال قائماً في بئر السبع. وإن كان نبيل لا يعرف من احتله من الإسرائيليين.
جد نبيل كان يعمل بالتجارة مع إخوانه ولذلك رأى أن يغادر غزة ويستقر في القدس كي يتابع تجارة العائلة، في القدس التحق ولدان له بمدرسة الكاردينال فيراري الإيطالية، ثم انتقل بعدها إلى الرشيدية ليحصلا على الشهادة الثانوية، توفي الجد ليصبح ابنه علي والد نبيل عائلاً لأسرته وكان لما يزل في السادسة عشرة من العمر.
عندما أكمل شهادة الثانوية عمل سنتين مدرساً في عكا استطاع بعدها الحصول على منحة لدراسة الكيمياء في الجامعة الأمريكية ببيروت. وفيها زامل مجموعة ممن أصبح لهم شأن بعد ذلك، مثل إسماعيل الأزهري السوداني وفاضل الجمالي العراقي وكلاهما أصبح رئيساً لوزراء بلاده، الغالب على زملائه أنهم من رواد القومية العربية.
بحث التخرج لعلي شعث كان عن استخلاص هرمون الغدة الدرقية من غدة الثيران، وكانت تلك التجربة الناجحة الثانية في العالم. أهلته أبحاثه للحصول على منحة دراسية إلى لندن، لكنه استُبعد بعد اكتشاف إصابته بالتراخوما. ولذا فقد عاد إلى فلسطين معلماً لمادة الكيمياء في عكا ثم أصبح مديراً لثانوية صفد، نقل بعدها إلى الخليل ثم إلى المدرسة العامرية (نسبة إلى أبي عبيدة بن الجراح) في يافا.
تزوج الأب من فتاة لبنانية تعرفت عائلته عليها يوم كانت في زيارة أختيها المتزوجتين في يافا، أبوها بيروتي كان مجنداً في الجيش العثماني، عمل في القدس، وأمها مولودة لأب أوزبكي قدم مما كان يُعرف قديماً ببخارى وطاب له المقام في يافا، عمل بإصلاح الساعات، تزوجت بناته في يافا وبيروت، أخوها عبد القادر التنير هو مؤلف السلام الملكي الأردني. أتاح للوالد دخله المحترم 22 جنيهاً فلسطينياً آنذاك أن يقضي وزوجه شهر العسل في مصر. تمنى علي أن يرزق بأربعة أولاد، أحدهم سياسي يخدم بلده، وثانيهم طبيب يرعى صحته، وثالث شيخ يقوم على أمر دينهم ودنياهم ورابعهم- وهذا هو الغريب- أزعر كي يحميهم.
ولد نبيل في صفد عندما كانت تشتعل بالثورة الفلسطينية الكبرى التي بدأها الشيخ عز الدين القسام، وكانت المدرسة الثانوية التي يعمل بها مقراً لقيادة الثورة، قضت والدته في المخاض ثلاثة أيام حتى وصل طبيب من طبرية بصعوبة؛ إذ كان الأمر آنذاك يستدعي تحصيل عدة أذونات من الحاكم العسكري الإنجليزي، ولذا فقد وصل الطبيب بعد أن ولد فساهم في إنعاشه، وبسبب صعوبة المخاض فقد ولد في حالة أقرب إلى الإغماء.
في عامه الثاني، انتقل مع العائلة إلى الخليل، والده مدير الثانوية عمل على معالجة طلابه من وباء جلدي، كان العلاج بالقطران والكبريت والماء، كما أنه أنشأ مضافة ملحقة بالمدرسة يقيم فيها الطلاب القادمون من قرى الخليل، وكان يخزن لهم المؤن تهيؤا للحرب.
في العام 1942 انتقلت الأسرة إلى يافا، البيت أصغر كثيراً من بيت الخليل، لكن الحياة أكثر ثراء بنشاطاتها. درس نبيل في مدرسة تديرها راهبات كاثوليكيات مع طلاب من مختلف الأديان، إلى جانبه كانت تدرس بنت يهودية، التقيا مصادفة خلال مفاوضات طابا، وكانت تعد برنامجاً للتليفزيون الإسرائيلي، قالت له إن المدرسة ما زالت قائمة ومختلطة وتديرها نفس الراهبة، عرفت الراهبة عنوان نبيل وطلبت منه المساعدة. يتذكر نبيل الكثير عن يافا التي كانت تصدر فيها صحيفتا الدفاع وفلسطين، وكان فيها عشرات الأندية، وكانت مقراً لإذاعة الشرق الأدنى. وكان زوجا خالتيه يملكان سينما الحمرا التي كان يزورها الفنانون العرب وفيها غنت أم كلثوم.
أُولع نبيل بالنجم السينمائي بدر الأعمى، الذي هاجرت أسرته من بيت لحم إلي تشيلي، أصبح اسمه هناك بدر لاما، عمل وأسرته بالإنتاج السينمائي ثم عاد إلى مصر وأنتج أول فيلم عربي، إلى جانب سينما الحمراء، زار نبيل يافا بعد أوسلو؛ فوجد أن المدارس التي درس بها ودور السينما ومستشفى الدجاني قائمة يشغلها مستوطنون، المدرسة العامرية أصبحت تابعة لوزارة التربية الإسرائيلية وتغير اسمها. يذكر نبيل أنه بعد أن أسس دار الفتى العربي للنشر أصدر كتاباً عن يافا اسمه "يافا عطر مدينة" تخاطفه أهل يافا.
في المدرسة العامرية تزامل مع شفيق الحوت وفاروق القدومي وصلاح خلف وإبراهيم أبو لغد وعمر العقاد، كل منهم أصبح ذا شأن، كان مديرها أبوه صارماً وبالذات مع ابنه الذي كان مثاله في المساواة بين ابن المدير وابن الغفير.
والد نبيل حرص على تعويد أبنائه على القراءة وكان يأتيهم بكتب الأطفال من مصر التي أصبحت زيارته لها في الربيع تقليداً سنوياً، وقد قرأ نبيل كتب كامل كيلاني ومثيلاتها. كذلك علمه والده بعض التجارب العلمية، وفي مرحلة تالية قدم له الكتب عن تاريخ فلسطين وثوراتها، وهكذا أنشأ الهوية الوطنية عند أبنائه. وقد ألف أبوه مع مجموعة من زملائه في العامرية كتب الرياضيات الحديثة التي ظلت تدرس في المنهاج التعليمي في المدارس الفلسطينية والأردنية سنين طويلة، كما ألف والده كتباً أخرى لفت نظري منها كتاب البنسلين والقنبلة الذرية، وكتاب طرائف العلماء.
كان للمدرسة العامرية دور كبير في قيادة المظاهرات التي تقوم ضد البريطانيين ومشروع الاستيطان الإسرائيلي؛ فقررت الحكومة البريطانية طرد بعض طلبتها وأساتذتها، واتُّهم والده بالتحريض وخُفضت مرتباته الوظيفية، قاتل الوالد من أجل طلبته ونجح في وقف طردهم، إلا أن العقوبات الأخرى قد بقيت فقام الوالد بالاستقالة، رُفضت الإستقالة ولكنه حصل على تقرير طبي يفيد بإصابته بالتراخوما وبالتالي استحق التقاعد المبكر. تقدم للعمل بعدها لدى البنك العربي فحصل على وظيفة مدير لفرع البنك في الإسكندرية.
أول عمل إعلامي عمله نبيل كان فى مدرسته بالإسكندرية، فحينما بدأت أحداث عام 1948 طُلب منه أن يمر على الفصول للحديث عن فلسطين، وكان أحياناً ينشد لهم قصيدة أخي جاوز الظالمون المدى التي غناها عبد الوهاب آنذاك. تحول جو المدرسة بعد ذلك إلي كابوس؛ إذ بعد هزيمة الجيوش العربية وحصار الجيش المصري في الفالوجة، بدأ هناك من ينشر الشائعات عن بيع الفلسطينيين لأرضهم، كما قيل إن الفلسطينيين يبيعون الضابط المصري للإسرائيليين بجنيه، وكان عليه مساعدة والده أن يتصدى لتفنيد ذلك. لكن المشاعر المعادية تلك تحولت إلى الضد عندما بدأت حرب تحرير القناة.
درس نبيل فى الإسكندرية حتى نهاية مرحلته الجامعية في كلية التجارة، ثم انتقل إلى أمريكا فحصل فيها على الماجستير والدكتوراه في الإدارة من إحدى جامعات ولاية بنسلفانيا، وقد عمل بالتدريس في الجامعة نفسها بعد حصوله على الماجستير.
بعد نجاحه في السنة الأولى ماجستير بدأ يهتم بالعمل العام، فدخل انتخابات اتحاد الطلبة العرب أول مرة عام 1960 ولم يفز، كان الاتحاد آنذاك يكاد يكون خالصاً للبعثيين الذين كانوا يتلقون الدعم من سوريا والعراق. بعد انضمامه لفتح، عاد لدخول الانتخابات على رأس تحالف للناصريين والقوميين والفتحاويين عام 1963، ولأول مرة يخسر البعثيون؛ مما أدى إلى انسحابهم من المقاعد التي فازوا بها، فشُغلت بالكامل من قبل تيار نبيل الذي كان رئيساً للاتحاد، وهذا يستلزم جهداً كبيراً تفانى في أدائه كما يتضح في مذكراته. وقد نجح إلى حد كبير في إيقاف تحول الطلاب العرب من اتحاد عام يضمهم إلى اتحادات قطرية؛ أي لكل بلد اتحاده، من الأنشطة التي قام بها تكوينه فرقة موسيقية مع أخته نهى، حيث كان عازفاً على الأكورديون، وكانت الفرقة تغني الأغاني الوطنية في مناسبات الاتحاد.
عاد بعدها إلى مصر ليعمل أستاذاً في المعهد القومي للإدارة العليا، وأصبح ممثلاً للاتحاد الاشتراكي في معهده، كما أصبح عضواً في مركز الدراسات الإسرائيلية الذي أنشأه هيكل في "الأهرام"، وكان هدف المعهد إزالة آثار العدوان بتقديم دراسات عن دولة العدو تمكِّن صانع القرار من إدارة معركة التحرير.
ومع الوقت زادت التزاماته فأصبح عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني وفي المجلس الثوري لحركة فتح، وقام ببعض المهام في أوروبا لصالح فتح، ولذا فقد استقال من وظائفه في مصر في مطلع السبعينيات وانتقل إلى بيروت ليكون مع حركة فتح، وعمل أستاذاً في الجامعة الأمريكية.
ولأن سطور هذا المقال لا تكفي لقراءة كتب وحياة شعث، سأستكملها في جزء آخر.
مقالات الرأي المنشورة في "عربي بوست" لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.