بلغ معدل التضخم في الولايات المتحدة أسرع وتيرة له منذ 4 عقود، حيث أدت اختلالات العرض والطلب المرتبطة بالوباء، إلى جانب الحوافز التي تهدف إلى دعم الاقتصاد، إلى ارتفاع الأسعار بمعدل سنوي قدره 7%، ما يشكل مصدر قلق رئيسياً للرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي وعد بوقف هذه الدوامة خلال عام 2021. فما الذي ينتظر الاقتصاد الأمريكي خلال العام الجديد 2022؟
ما وراء هذا التضخم المرتفع بالولايات المتحدة؟
قالت وزارة العمل الأمريكية، يوم الأربعاء 12 يناير/كانون الثاني 2022، إن مؤشر أسعار المستهلك -الذي يقيس ما يدفعه المستهلكون مقابل السلع والخدمات- ارتفع بنسبة 7% في ديسمبر/كانون الأول 2021، مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي. كان هذا المعدل هو الأسرع منذ عام 1982، وكان الشهر الثالث على التوالي الذي تجاوز فيه التضخم 6%، وذلك بدفع ارتفاع أسعار الطاقة وتضرر سلاسل التوريد بفعل جائحة كورونا.
وقال مكتب وزارة العمل إن مؤشر أسعار المستهلكين زاد في نوفمبر/تشرين الثاني، بنسبة 6.8% على أساس سنوي. وأرجع مكتب إحصاءات العمل هذه الزيادة في معدل التضخم الكلي، على نحو خاص، لارتفاع أسعار السكن والسيارات والشاحنات المستعملة.
مضيفاً أن "مجموعة الأغذية ساهمت أيضاً (بارتفاع التضخم)، رغم ارتفاع أسعار هذه المجموعة، بنسبة أقل في ديسمبر/كانون الأول مما كانت عليه في الأشهر الأخيرة".
على أساس شهري، أظهرت بيانات مكتب إحصاءات العمل تباطؤ ارتفاع التضخم إلى 0.5% في ديسمبر/كانون الأول، من زيادة بنسبة 0.8% في نوفمبر/تشرين الثاني.
لكن التضخم الأساسي (باستثناء الغذاء والطاقة) سجل ارتفاعاً على أساس شهري بنسبة 0.6%، مقابل زيادة 0.5% في نوفمبر/تشرين الثاني.
ومن شأن هذه الزيادة في معدل التضخم زيادة الضغوط على الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي)، لتشديد السياسة النقدية بتقليل حيازته من السندات والأوراق المالية، ورفع أسعار الفائدة. ومعدل التضخم حاليا أعلى بكثير من المستوى الذي يستهدفه المركزي الأمريكي عند 2% على المدى المتوسط.
ذروة التضخم الأمريكي
في السياق، تقول سارة هاوس، كبيرة المحللين الاقتصاديين في شركة Wells Fargo، لصحيفة Wall street journal الأمريكية، إنه بينما من المرجح أن يبلغ التضخم ذروته في الأشهر القليلة المقبلة، فإن الوتيرة الإجمالية ستظل تمثل تحدياً للمستهلكين والشركات والإدارة السياسية للولايات المتحدة.
وكانت آخر مرة سجّلت فيها أسعار المستهلك مثل هذه الزيادة السنوية، في شهر يونيو/حزيران من العام 1982، لكن الظروف كانت مختلفة تماماً عن اليوم كما تقول هاوس، فبينما يرتفع التضخم الآن كان في ذلك الوقت ينخفض بعد أن بلغ ذروته عند 14.8% في عام 1980، عندما كان الرئيس جيمي كارتر لا يزال رئيساً، وكانت الثورة الإيرانية قد دفعت أسعار النفط إلى الارتفاع.
بحلول ذلك الوقت، كان رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الجديد بول فولكر قد شرع في سحق التضخم عن طريق رفع أسعار الفائدة بشكل كبير، ما تسبب في ركود قصير في عام 1980. ومع وصول الأسعار إلى 19% في عام 1981، بدأ ركود أعمق بكثير، وبحلول صيف عام 1982، انخفض كل من التضخم وأسعار الفائدة بشكل حاد.
اليوم، تسببت جائحة كورونا في اضطرابات في سلاسل التوريد، ونقص السلع والمواد -وخاصة السيارات- إلى جانب الطلب القوي من المستهلكين الأمريكيين بسبب فوائد التحفيز الحكومي، الذي أصبح أحد الأسباب وراء ارتفاع التضخم.
وتستمر أسعار السيارات والأثاث والسلع الأخرى في دفع الكثير من الزيادة التضخمية، والتي تغذيها إلى حد كبير الاختلالات المرتبطة بالوباء في العرض والطلب، والتي يتوقع معظم الاقتصاديين أن تتلاشى مع تراجع تأثير فيروس كورونا على النشاط الاقتصادي. وارتفعت أسعار السيارات والشاحنات المستعملة بنسبة 37.3%، في ديسمبر/كانون الأول 2021، عن العام السابق، بينما قفزت أسعار أثاث غرف المعيشة والمطبخ وغرفة الطعام بنسبة 17.3%.
حالة من عدم اليقين بشأن ما هو قادم بسبب متحورات كورونا
يتوقع الاقتصاديون والاحتياطي الفيدرالي أن ينخفض التضخم هذا العام مع وضوح اختناقات العرض وعودة الطلب إلى طبيعته، لكن متحور "أوميكرون" جدد عدم اليقين بشأن التوقعات الاقتصادية مع استمرار الوباء، كما تقول صحيفة WSJ.
وتتوقع كونستانس هانتر، كبيرة المحللين الاقتصاديين في شركة KPMG، أن ينعكس الطلب المتزايد على السلع في النصف الأول من عام 2022، مما يخفف من ضغط الأسعار الإجمالي. وقالت للصحيفة الأمريكية: "أعتقد أننا سنعود إلى بعض مظاهر الطبيعة، ونأمل أن نتجاوز أوميكرون".
من جهته، قال رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، في شهادته أمام الكونغرس، يوم الثلاثاء 11 يناير/كانون الثاني 2022، إنه متفائل بأن قضايا سلسلة التوريد ستخفف هذا العام، وتساعد على خفض التضخم. ومع ذلك، أشار أيضاً إلى أن القوة العاملة الأمريكية الأصغر "يمكن أن تواجه مشكلة في المضي قدماً لتجاوز التضخم".
تشير بيانات التضخم لشهر ديسمبر/كانون الأول 2021، إلى تأثير مبدئي مختلط لمتغير Omicron، الذي يشكل تهديداً جديداً للاقتصاد مع دخول الوباء عامه الثالث. تسارعت أسعار تذاكر الطيران، ولا سيما الفنادق، في ديسمبر، رغم انخفاض أسعار خدمات الترفيه. فيما تراجعت أسعار الخدمات الشخصية بشكل عام خلال الزيادات السابقة في إصابات كوفيد-19.
وأظهرت المكاسب في أسعار الطاقة -التي تأثرت بالاضطرابات المرتبطة بالوباء وكذلك العوامل الجوية والجيوسياسية- علامات التراجع، مع انخفاض أسعار البنزين بنسبة 0.5% في ديسمبر عن نوفمبر. ومع ذلك لا يزال تضخم الغذاء مرتفعاً، حيث ارتفع بنسبة 0.5% في ديسمبر عن نوفمبر، وهي وتيرة أبطأ قليلاً من الشهر السابق.
وأدى انتشار متحور أوميكرون السريع والفريد إلى تفاقم نقص العمالة من خلال زيادة التغيب عن مكان العمل. تتبنى شركات التصنيع حلولاً باهظة الثمن للحفاظ على استمرار تشغيل المصانع، حتى تتمكن من تلبية الطلب المتزايد. قالت شركة FedEx لخدمات البريد السريع هذا الأسبوع إن متحور أوميكرون سبب نقصاً في الموظفين وتأخير الشحنات.
أزمة سلاسل التوريد تُنهك الاقتصاد الأمريكي
حول اضطراب سلاسل التوريد التي تعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية، تقول مجلة Economist البريطانية، إن شركات الشحن الأمريكية اعتادت في السابق على النقر فوق بضعة أزرار، لتتسلم بعد 8 أسابيع حاويات شحن جديدة من الصين، جاهزة للاستخدام في أمريكا، لكن في الآونة الأخيرة، واجهت هذه الشركات صداعاً شديداً.
إذ باتت تحتاج لوقت أطول بكثير لتسلّم شحناتها، فيما تعاني الموانئ من الازدحام الشديد، لأن آلاف السفن لا توجد بها هياكل لنقل الحمولة التي تسد أرصفة الإنزال، الأمر الذي يجعل جاهزية البضائع للاستهلاك في الأسواق المحلية تتأخر لنحو شهر كامل بعد وصولها الموانئ الأمريكية.
وتكتظ الموانئ الأمريكية ومن بينها لوس أنجلوس، وسافانا بولاية جورجيا، وإلينوي بالحاويات. وبقيت مواد التصنيع الرئيسية مثل أشباه الموصلات صعبة المنال من المصدر، فيما ترتفع أسعار السلع الأساسية، ويكافح بعض أرباب العمل للعثور على العُمّال حتى غير المهرة.
ولكن المشاكل متفاوتة، حيث تعزز الموانئ في بوسطن وأوكلاند، بكاليفورنيا، السهولة النسبية لنقل البضائع عبر أرصفتها. وفي النظرة الأخيرة لبنك الاحتياط الاتحادي للاقتصاد، فإن 10 من أصل 12 بنكاً إقليمياً أعلن عن قلقه من شكل من أشكال الندرة، من حيث العمال، والمدخلات، أو السلع. واستخدم البنك كلمة "نقص" 70 مرة، واستشهد في 6 مقتطعات "باختناقات" وأبلغ معظمها عن "ارتفاع كبير في الأسعار".
وتعد أمريكا أكبر سوق استهلاكي في العالم، وأزمة سلاسل التوريد هذه مجرد واحدة من الأسباب الأخرى التي تعصف بالاقتصاد الأمريكي. وبغض النظر عن أي انتعاش على المدى القريب فكم بقي من الوقت قبل نفاد الانتعاش داخل الأسواق الأمريكية؟ تقول الإيكونومست باختصار شديد إن هناك ثلاثة أسباب كبيرة تدعو للقلق بشأن ذلك: سوق العمل الضيق، والتضخم المرتفع بعناد، والتراجع السريع عن التحفيز الاقتصادي، والتي يجب مراقبتها جميعاً باستمرار.