جاء إعلان إثيوبيا رغبتها في المصالحة مع التيغراي، ومجمل المعارضة في البلاد، ليعيد الأمل في إمكانية حل أزمة هذا البلد الإفريقي الكبير التي تحولت لحرب أهلية تُرتكب بها فظائع هائلة، ولكن هذه الدعوة للمصالحة سرعان ما تبعها توسيع الحكومة لهجومها على تيغراي ليثير ذلك تساؤلاً: هل يسعى رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد حقاً للمصالحة، أم أنه يريد تحقيق مكاسب سياسية من هذه الدعوة مع الاستمرار في سياسته؟.
فعلى نحو مفاجئ، استبدل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الدعوة إلى مصالحة وطنية بين أطراف الصراع في البلاد بنداء الحرب؛ حيث أعلن الجمعة الماضي في الاحتفال بعيد الميلاد الأرثوذكسي أن الهدف من العفو هو "تمهيد الطريق لحل دائم لمشاكل إثيوبيا بطريقة سلمية وغير عنيفة".
وقال آبي أحمد إن بلاده على وشك الانتصار والتغلب على كل تلك التحديات، ويجب أن يقف جميع الإثيوبيين على قلب رجل واحد من أجل انتقال البلاد إلى التنمية والازدهار.
كما أعلنت الحكومة الإثيوبية فتح حوار مع شخصيات سياسية معارضة في إطار تمهيد الطريق لحل دائم لمشاكل إثيوبيا بطريقة سلمية بغرض التشاور الوطني الشامل.
وصاحب هذه الدعوة قرار إطلاق سراح عدد من قادة المعارضة، سواء من قومية الأورومو، أو من جبهة تحرير تيغراي.
ولم تخل مبادرة السلطات الإثيوبية للمصالحة من تعالٍ؛ إذ أعربت أديس أبابا عن أملها في أن يكون السجناء الذين تقرر إطلاق سراحهم قد تعلموا من الماضي، ويمكن أن يقدموا مساهمات سياسية واجتماعية أفضل لبلدهم وشعبهم، مشددة على عدم السماح بتكرار الممارسات السابقة من السجناء الذين تم العفو عنهم.
يأتي هذا القرار بالتزامن مع مكاسب سريعة يحققها الجيش الإثيوبي على الأرض أدّت إلى انكفاء مقاتلي جبهة تيغراي الذين كانوا قبل أسابيع فقط على مشارف أديس أبابا.
ولم يُعرف على الفور عدد المعتقلين الذين تم الإفراج عنهم، ولكن السلطات الإثيوبية أعلنت العفو عن مجموعة من كبار السياسيين السجناء في البلاد تم اعتقالهم على خلفية الحرب في إقليم تيغراي وقضايا سابقة.
ومن الذين شملهم قرار العفو- الذي تزامن مع احتفال البلاد بأعياد الميلاد- "سبحت نغا" الأب الروحي لجبهة تحرير تيغراي، و"أبادي زمو" أحد مقاتلي تيغراي أثناء حربهم ضد نظام منغستو (1975- 1991).
كما شمل قرارات العفو جوهر محمد، أحد قادة المؤتمر الفدرالي للأورومو، والذي كان له تأثير كبير فيما عرف بانتفاضة الأورومو خلال أعوام 2015 و2016 و2017 والتي لعبت دوراً كبيراً في إنهاء سيطرة جبهة تحرير شعب تيغراي على البلاد والتي امتدت من عام 1991 إلى 2018 .
ولعب جوهر محمد دوراً في وصول آبي أحمد للحكم، وكان حليفاً سابقاً له وأصبح لاحقاً أحد أشد منتقديه.
وعلى لائحة الشخصيات التي تم العفو عنها، عضو المؤتمر الفدرالي لأورومو زميله بيكيلي غيربا. ومحمد كان حليفاً سابقاً لآبي أحمد الذي يتحدر من إثنية أورومو، أكبر مجموعة عرقية في البلاد، وأصبح لاحقاً أحد أشد منتقديه.
كما أعلن حزب بالديراس المعارض عن إطلاق سراح مؤسسه إسكندر نيغا، والذي اعتقل في يوليو/تموز 2020 مع شخصيات معارضة أخرى بعد أعمال عنف اندلعت إثر مقتل المغني الشهير هاشالو هونديسا المدافع عن إثنية الأورومو، بالرصاص في أديس أبابا، ويحظى نغا بشعبية كبيرة وسط الشباب، وفق مؤيديه.
وجاءت هذه الإجراءات استمراراً للمصالحة الوطنية التي أعلن عنها آبي أحمد نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي وعضدها البرلمان بتكوين لجنة لها من عضويته، وتزامنت مع وجود المبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي جيفري فليتمان بأديس أبابا في آخر زياراته إلى المنطقة قبل انتهاء مهمته.
مصالحة مع الأورومو
رسالة أخرى بعث بها قرار العفو عن الزعيم الشعبي جوهر محمد، أيقونة الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في إثيوبيا عام 2015 تمثل رسالة إيجابية للأورومو- كبرى القوميات الإثيوبية- وخاصة الشباب، فجوهر يمثل أيقونة لهم كما أنهم يحفظون له حملته التي قادها بعد اغتيال المغني "هونديسا"- كما يقول راشد أحمد المدون الذي يقيم في القاهرة لموقع الجزيرة نت.
ويقول هايلي غبريال- وهو اسم مستعار للدواعي الأمنية، البالغ من العمر 29 عاماً ويعيش في العاصمة أديس أبابا- إن "إسكندر نيغا والذي شملته قرارات العفو، من القادة الذين يمكن أن يعطونا الأمل بأن بلادنا ستكون بلداً ديمقراطياً".
وإطلاق الأب الروحي لجبهة تحرير تيغراي
وليس واضحاً إذا كانت الحكومة عرضت على جبهة تحرير شعب تيغراي إجراء مفاوضات أم لا، ولكن كان لافتاً الإفراج عن أبيها الروحي سبحت نغا، والذي كان اعتقاله وهو مقيد بالسلاسل- وهو الرجل ذو الـ80 عاماً- محفوراً في ذاكرة الكثير من الإثيوبيين.
ورغم أنه لم يصدر تعليق رسمي من جبهة تحرير تيغراي على هذه القرارات، إلا أن الناطق باسمها غيتاشو رضا قال- في تغريدة على حسابه في تويتر أمس السبت- "رسالة آبي أحمد في عيد الكريسماس لا تتسق مع سلوكه اليومي بمنع المساعدات الطبية عن الأطفال وإرسال الطائرات المسيرة لاستهدافهم".
لكن مصدراً قريباً من جبهة تحرير تيغراي قال لـ"الجزيرة نت" إن "قيادة الجبهة تبلور موقفاً من هذه المصالحة وتنتظر خطوة أخرى من أديس أبابا بألا تقتصر على العفو وإطلاق سراح قيادات فقط؛ وإنما (يجب أن تشمل) آلاف التيغراي الموجودين في سجون أديس أبابا".
وتخوض الجبهة التي حكمت إثيوبيا لنحو 30 عاماً حرباً ضد الجيش الفدرالي منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
وإن كانت هناك ردود أفعال جاءت من قبل مجموعتين معارضتين، فإن المجموعات الأخرى لم تعلق بعد على الدعوة للحوار، بيد أن مصدراً إثيوبياً يعلل ذلك بأن هذه المجموعات ليس لديها معتقلون ويمكن دعوتها لجلسات الحوار حال انطلاقها.
من يقف وراء دعوات المصالحة مع التيغراي؟
في خلفيّات قرار فتح باب المصالحة مع التيغراي تحديداً، تبدو الضغوط الدولية، والأمريكية، خصوصاً بوقف الحرب، حاضرة بقوة بعد أن أدّت حرب تيغراي إلى أزمة إنسانية غير مسبوقة.
على الرغم من الرفض المشدد لحكومة آبي أحمد للوساطات حتى من قبل الاتحاد الإفريقي؛ فإنها قبلت وساطة المبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي والتي اصطدمت بشروط كل من أديس أبابا وجبهة تيغراي للجلوس على طاولة المفاوضات.
دفع ذلك مراقبين للتساؤل عن الذي حرَّك المصالحة الآن على الرغم من أن مسؤولاً حكومياً إثيوبياً صرح- عند إطلاقها في ديسمبر/كانون الأول الماضي- بأنها لن تشمل المجموعات المصنفة إرهابية من قبل البرلمان، وكان يشير إلى جبهة تحرير أروما وقواتها المعروفة باسم شن قبي وجبهة تحرير تيغراي.
وصرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس لصحفيين الخميس بأن فيلتمان الذي استقال هذا الأسبوع من منصبه، أجرى "مناقشات غنية وبناءة" مع آبي في أديس أبابا. وأضاف أن الولايات المتحدة ستعمل من أجل "أن يتحقق أي زخم إيجابي مستمد من هذه المناقشات".
ورحب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على موقع تويتر بهذا العفو. وقال: "ما زلت ملتزماً بجد مساعدة إثيوبيا على إنهاء القتال واستعادة السلام والاستقرار".
وقال دبلوماسي يقيم في أديس أبابا للجزيرة نت إن "الولايات المتحدة لعبت دوراً رئيسياً في تقريب وجهات النظر في إطار مفاوضات تمت بعيداً عن الإعلام، وذلك لمخاوفها من التمدد الروسي بعد أن وقع رئيس الوزراء آبي أحمد العام الماضي اتفاقية دفاعية مع موسكو في ظل التوجه الروسي الجديد نحو إفريقيا عبر بوابات مختلفة تتمثل في الاستثمار والتسليح والتدريب".
ونقلت وكالة "بلومبيرغ" (Bloomberg) الأمريكية في مارس/آذار الماضي استناداً إلى مصادر لم تسمها أن مرتزقة فاغنر الروسية يتمركزون حالياً في 10 دول أفريقية هي: السودان، جمهورية أفريقيا الوسطى، ليبيا، زيمبابوي، أنغولا، مدغشقر، غينيا، غينيا بيساو، موزمبيق، وربما في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
أما الخبير العسكري السوداني أحمد عبد الكريم فيشير إلى أن التطورات التي حدثت على الأرض في ديسمبر/كانون الأول الماضي- بدءاً من "انسحاب سريع لقوات تيغراي من إقليمي أمهرة وعفر واستعادة الحكومة لهذه المنطقة" دون أن تلاحق قوات تيغراي إلى داخل حدود إقليمهم- تشير إلى أن "تسوية جرى إعدادها بواسطة جهة لديها أدوات ضغط على كل من الطرفين".
هجوم يستهدف المدنيين بعد يوم من إعلان المصالحة
ولكن اللافت أنه بعد يوم على مبادرة المصالحة مع التيغراي هذه، وإطلاق سراح بعض المعتقلين، شنَّت القوات الحكومية هجوماً جديداً على قوات جبهة تحرير التيغراي.
ونقلت وكالة "فرانس برس" عن مسؤول في المستشفى الرئيسي في ميكيلي عاصمة تيغراي أن مستشفى بلدة شيري؛ حيث جرى إجلاء الضحايا، استقبل 55 قتيلاً و126 جريحاً، وقُتل ثلاثة أشخاص في غارة جوية على مخيّم للاجئين في المنطقة على ما أفادت الأمم المتحدة هذا الأسبوع، وأعلنت المنظمة الدولية بعد ذلك أن وكالات إغاثة علَّقت عملها في شمال غربي تيغراي الإثيوبية بعد الغارة الجوية المميتة.
وأكد متمردو جبهة تحرير شعب تيغراي، السبت، مقتل العشرات في هجوم بطائرة مسيرة على مخيم للنازحين في شمال إثيوبيا.
ووصفت وزارة الخارجية الأمريكية، السبت، الضربات الجوية المستمرة في تيغراي التي أدت إلى مقتل مدنيين، بأنها "غير مقبولة".
وفي اليوم التالي للغارة، اتهمت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، التي تسيطر على معظم إقليم تيغراي شمالي إثيوبيا، الأحد، إريتريا حليفة آبي أحمد بمهاجمة قواتها.
وقال المتحدث باسم الجبهة، جيتاشيو رضا، على "تويتر": "شن الجيش الإريتري هجمات جديدة على قواتنا أمس في سيجيم كوفولو… في شمال غرب تيغراي بالقرب من بلدة شيرارو".
وقبل أيام من دعوة الحكومة الإثيوبية إلى المصالحة مع التيغراي، كشفت منظمة هيومان رايتس واتش أنه تم احتجاز وإخفاء آلاف من المواطنين التيغراي قسراً العائدين من السعودية من قبل السلطات الإثيوبية وتعرضهم للانتهاكات، ودعت المنظمة السعودية إلى الكف عن ترحيل التيغراي إلى إثيوبيا.
وتخضع المنطقة لما وصفته الأمم المتحدة بحصار فعلي يمنع وصول السلع الأساسية لسكانها البالغ عددهم ستة ملايين نسمة.
هل آبي أحمد جاد في تحقيق السلام؟
ويؤشر استئناف القوات الحكومية لهجماتها في إقليم تيغراي وهجوم حليفتها القوات الإريترية الذي تم على الأرجح بالتنسيق مع أديس أبابا إلى عدم جدية آبي أحمد في دعوته للسلام، خاصة فيما يتعلق بمسألة المصالحة مع التيغراي.
وأعرب أستاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا التركية خيري عمر عن اعتقاده بأنّ سياسة آبي أحمد في الفترة الأخيرة تحاول أن تستعيد مبادرة القيادة مرة أخرى، خصوصاً أنّه منذ اندلاع الحرب لم يحقق انتصاراً واضحاً ضدّ إقليم تيغراي.
واعتبر الناشط الإعلامي من إقليم تيغراي مصطفى حبشي أنّ جبهة تحرير تيغراي لم تُهزَم، حيث يقول لموقع تليفزيون "العربي"، إنّ الجبهة استطاعت أن تعيد السيطرة على إقليمها وعلى معظم المدن داخله، ما عدا الشريط الحدودي الذي يربط بين السودان وإثيوبيا، كما استطاعت أن تتوغل داخل إقليم أمهرة وبعض المدن في إقليم عفار.
وينفي أن تكون جبهة تحرير تيغراي قد "هُزِمت" في الآونة الأخيرة، موضحًا أنّها انسحبت من المدن والمناطق التي كانت تسيطر عليها في إطار مبادرة حسن نيّة للوصول إلى حلّ سلمي وإيقاف الحرب داخل إثيوبيا، حسب تعبيره.
علماً أنه يعتقد أن الجبهة تراجعت بفعل هجمات الطيارات المسيرة التي يستخدمها الجيش الإثيوبي في إقليم عفار ذي الطبيعة الصحراوية المفتوحة نسبياً مقارنة بالتضاريس الجبلية التي تحابي حروب العصابات في إقليمي الأمهرة وتيغراي، وهي الحروب التي تجيدها جبهة تحرير تيغراي.
من جانبه، يقول خيري عمرلموقع تليفزيون"العربي"، إنّ آبي أحمد يحاول أن يعيد ما خسره من تحالف مع إريتريا، ومن تحالفات أخرى على مستوى إثيوبيا.
ويرى أنّ القضية الأساسية التي تواجه آبي أحمد هي أنه ليست هناك استراتيجية واضحة لديه، كما أنّ محتوى الحرب أكثر من محتوى السلام في سياساته، وبالتالي المعضلة التي أمامه هي كيف يوفّق بين المسارين، خصوصاً مع اندلاع أزمة الثقة في كثير من الأمور.
ورأى أنه إذا لم يستطع آبي أحمد التعامل مع هذه التحديات لتكون مشروعاً واضحاً في ترتيب السلطة والثروة وخفض النزاعات في البلاد، فإنّ السلام في إثيوبيا لن يكون سهلاً وقابلاً للتطبيق.