يتهم أغلب المحللين جو بايدن، لافتقاد إدارته سياسة واضحة تجاه قضايا الشرق الأوسط، لكنَّ فريقاً آخر من المراقبين يرى أن الرئيس الأمريكي يمتلك استراتيجية تُوصف بالبراغماتية الصارمة.
وكان العام الأول من رئاسة بايدن قد شهد تراجعاً كبيراً في نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، انعكس في سعي دول المنطقة إلى إعادة ترتيب أوراقها استعداداً لمرحلة ما بعد أمريكا، في ظل زيادة الصين وروسيا من نفوذهما في الشرق الأوسط بوسائل وأدوات مختلفة.
لكن يبدو أن إدارة بايدن أرادت طمأنة حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط بأنها لا تنوي مغادرة المنطقة، وسعى وزير الدفاع لويد أوستن والخارجية أنتوني بلينكن وغيرهما من كبار مسؤولي الإدارة إلى إقناع الحلفاء بأن الولايات المتحدة ستظل تولي منطقة الشرق الأوسط أهمية خاصة.
بايدن وحسابات المصلحة الأمريكية
مجلة Foreign Policy الأمريكية نشرت تحليلاً عنوانه "استراتيجية بايدن في الشرق الأوسط هي براغماتية صارمة"، أعده ستيفن كوك الزميل الأول في دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، رصد فيه تعامل إدارة بايدن مع المنطقة من خلال وجهة نظر مختلفة عن وجهات النظر السائدة طوال العام المنصرم 2021.
إذ يرى عددٌ لا يُحصى من المحللين في مقالاتهم، بما في ذلك عدد من كتاب مجلة Foreign Policy نفسها، أن بايدن يحتاج إلى تشكيل استراتيجية خاصة بالشرق الأوسط، لكن غالباً ما يعكس اتهام إدارة ما بأنَّها "لا تملك استراتيجية" خلافات الكاتب الأيديولوجية مع إدارة بعينها وليس الغياب الحقيقي لتلك الاستراتيجية.
إذ تكشف الأحداث حتى الآن أنَّ بايدن يملك بالفعل استراتيجية خاصة بالشرق الأوسط. وهذا يعني أنَّه ومستشاروه فكروا في المشكلات الإقليمية، وكيف تتقاطع مع مصالح أمريكا، وما الموارد المتاحة للولايات المتحدة، وما تكلفة اتّباع مجموعة مختلفة من السياسات. والنتيجة هي استراتيجية يمكن وصفها بأنَّها "براغماتية صارمة". وهذا ما يفسر غضب نشطاء حقوق الإنسان والصقور المتشددين كذلك.
وربما تكون البراغماتية الصارمة أوضح ما يكون في سياسات إدارة بايدن في سوريا واليمن. فاستناداً إلى تصريحات الرئيس خلال ترشُّحه للبيت الأبيض كان المرء يتوقع منه اتخاذ دور أكثر نشاطاً في سوريا. وليس المقصود هنا أن حملة بايدن-هاريس 2020 قد قدمت خطة مفصَّلة للتعامل مع الحرب الأهلية السورية، لكن حين تحدث المرشح عن المسألة أشار إلى نهجٍ ينبئ عن قوة.
إذ هاجم بايدن الرئيس دونالد ترامب على عدم فهمه للبيئة الجيوسياسية، مُصوِّراً أنَّ نية ترامب سحب القوات الأمريكية من سوريا من شأنها منح أفضلية لنظام الأسد وإيران، كما أنَّه يجعل الإسرائيليين يعتمدون على الروس لضمان أمنهم.
وبطبيعة الحال من النادر أن يتوافق خطاب الحملات الانتخابية مع السياسة بمجرد أن يؤدي الرئيس اليمين لتولي المنصب. فحين كان جورج بوش الأب يستعد للترشُّح للرئاسة عام 1988، وكان حينها نائباً للرئيس، أبلغ الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف بأن يتجاهل "المَدافع الخطابية الفارغة" التي سيسمعها حين يطلق بوش حملته الانتخابية.
هكذا غيّر بايدن موقفه من نظام بشار الأسد
وبدلاً من النهج الصقوري المتشدد الذي أشار إليه بايدن تجاه سوريا، يبدو أنَّه خلُص إلى أنَّ خفض التصعيد يخدم على أفضل نحو مجموعة من الأهداف الجيوستراتيجية المرتبطة بالصراع السوري وعلى نطاق أوسع من الحرب الأهلية، بحسب تحليل فورين بوليسي.
ويقوم ذلك على الاعتراف الضمني بأنَّ الرئيس السوري بشار الأسد قد انتصر ولا يوجد ما يمكن لأي أحد عمله حيال ذلك. ويعتقد فريق بايدن على ما يبدو أنَّه بتقبّل هذا الواقع، ستحظى الولايات المتحدة بفرصة أفضل لتقديم المزيد من المساعدات لمَن يحتاجون إليها في سوريا، ومساعدة اللبنانيين الفقراء، وإحداث تغيُّر في العلاقات مع روسيا (ولو أنَّ ذلك الآن يرتبط بأوكرانيا أكثر من أي شيءٍ آخر)، وإبعاد السوريين عن الإيرانيين.
ولتحقيق تلك الغايات لم تكن إدارة بايدن شديدة الانتقاد -أو منتقدة على الإطلاق- حين هاتف العاهل الأردني عبد الله الثاني الرئيس السوري، أو حين زاره وزير الخارجية الإماراتي في دمشق، في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. ويبدو أنَّ خطة العاهل الأردني لاستعادة الوحدة والسيادة السورية متماشية مع رؤية بايدن العامة، ولو أنَّ البيت الأبيض لم يوافق على خطة الملك.
وأفادت تقارير بأنَّ دبلوماسيين أمريكيين انخرطوا في مساعي استخدام "خط الغاز العربي" لإرسال الغاز المصري إلى الأردن، ومن ثَمَّ إلى لبنان عبر سوريا، ما يوفر متنفساً للبنانيين الذين اضطروا للتعامل مع انقطاع الكهرباء. وقد ترك هذا أعضاء الكونغرس من كلا الحزبين، الذين سعوا لمحاسبة الأسد على جرائم الحرب التي ارتكبها، يتساءلون بصوتٍ عال لماذا لا تحرك إدارة بايدن ساكناً بينما تعيد البلدان العربية، بما في ذلك مصر والجزائر والبحرين وعُمان ولبنان وتونس، فضلاً عن الإمارات والأردن، تأهيل سوريا.
وبحسب تحليل المجلة الأمريكية، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع ما تفعله إدارة بايدن في سوريا، من الواضح أنَّ هناك استراتيجية ضمنية تحكم تلك التصرفات أو غيابها. إذ تتماشى براغماتية بايدن الصارمة في سوريا مع المصالح الأمريكية في مكافحة الإرهاب، ومكافحة الانتشار النووي، وأمن إسرائيل، وحتى حقوق الإنسان من خلال البحث عن سبل لزيادة تدفق المساعدات.
هل يعالج ذلك السبب الأساسي للمشكلة؟ لا، هل يمكن التشكيك في المبررات التي يسوقونها؟ نعم، بالطبع. إذ يتعين على أي مراقب موضوعي الإقرار بأنَّ الأسد لم يتعامل مع مسألة المساعدات بحسن نية قط، وفعل في كثير من الأحيان ما يكفي لإبعاد خصومه، في حين يحتفظ بالقدرة على مواصلة السياسات الخبيثة، ربما تكون استراتيجية بايدن سيئة، لكنَّه يملك استراتيجية.
بايدن واليمن والعلاقة مع السعودية
اليمن هو المكان الآخر الذي تتجلى فيه براغماتية بايدن الصارمة، كان هناك الكثير من الغضب بين مجموعات حقوق الإنسان وأعضاء الكونغرس التقدميين، حين صوَّت مجلس الشيوخ لصالح صفقة أسلحة بقيمة 650 مليون دولار للسعودية. وقالت الإدارة إنَّ الصفقة كانت لـ"أسلحة دفاعية"، لكنَّ معارضي الصفقة اشتكوا، ولديهم وجهة نظر، فكون السلاح دفاعياً أم لا يعتمد غالباً على من تسأله.
فالحوثيون، الذين يشاركون في تحمل مسؤولية المعاناة اليمنية، يصوِّرن هجماتهم باستخدام الصواريخ والطائرات دون طيار على الأراضي السعودية باعتبارها دفاعية، لكنَّ السعوديين المسؤولين أيضاً عن المعاناة اليمنية سيعترضون، وسيُصوِّرون غاراتهم الجوية في اليمن باعتبارها دفاعية كذلك. إنَّ هذا النوع من الغموض الدلالي هو الذي يؤدي إلى براغماتية بايدن الصارمة. وقد صوَّت حتى كبار منتقدي المجهود الحربي الأمريكي مثل السيناتور كريس ميرفي (ديمقراطي عن ولاية كونيتيكت) لصالح صفقة الأسلحة، لأنَّ الأسلحة الموجهة للسعودية، مثلما قال، ستساعد البلاد في الدفاع عن نفسها.
وبالطبع، هنالك المزيد مما يدور هنا، على الأقل بالنسبة للإدارة الأمريكية. فقطع الأسلحة عن السعوديين لن يوقف الحرب في اليمن. وتقوم سياسة بايدن على هذا الواقع، وعلى اعتراف بأنَّه من الصعوبة بمكان جعل السعودية دولة منبوذة. ومنذ قتل جمال خاشقجي، والتدخل في اليمن، والكشف عن انتهاكات حقوق الإنسان السعودية الأخرى، وثورة الطاقة الصخرية في الولايات المتحدة، هنالك وجهة نظر بين محللي السياسة الخارجية في واشنطن وأعضاء الكونغرس ترى وجود فرصة لتغيير العلاقة الأمريكية السعودية. بأنَّ الرياض تحتاج واشنطن أكثر مما تحتاج واشنطن الرياض، وبأنَّ هذه الحقيقة تمنح الولايات المتحدة ورقة ضغط. لكن مثل أي شيء آخر في الحياة، فإنَّ العلاقة الأمريكية السعودية أكثر تعقيداً من ذلك. فالبلدان يحتاجان بعضهما لأمور مختلفة وغالباً في فترات مختلفة.
إنَّ الصراع في اليمن مروع، وزاده التدخل السعودي في 2015 سوءاً، لكن حين يتعلق الأمر بالسعودية، فإنَّ لدى بايدن مسألة أخرى يقلق بشأنها، وهي متشابكة مع سياساته ومع المصلحة الوطنية: حرية تدفق النفط وقدرة السعوديين على التأثير على سعر النفط، وبالتبعية على ما يدفعه المستهلكون الأمريكيون في محطات الوقود.
كما يثير محللون القلق بشأن استقرار شبه الجزيرة العربية والتهديدات التي تواجه الممرات المائية الاستراتيجية، مثل باب المندب والبحر الأحمر، إذا ما انتصر الحوثيون، لاسيما بالنظر إلى صِلاتهم بإيران. كل هذا صحيح ومهم، لكن في سياق صفقات الأسلحة توجد حاجة للحصول على مساعدة الرياض، إذ يود بايدن من السعودية أن تضخ المزيد من النفط، لأنَّه يتعرَّض للقتل سياسياً بسبب التضخم وارتفاع أسعار الوقود.
بالنسبة لنشطاء المناخ هذا فعل جبان، وهو كذلك إلى حدٍّ ما، لكن بقدر ما يشهده مشهد الطاقة من تغيُّر، فإنَّه لن يتغير بالسرعة أو السلاسة التي قد يرغب نشطاء البيئة من الجميع أن يعتقدوها. وإلى حين حدوث تغيُّر ثقافي في الولايات المتحدة، بحيث يتوقف الأمريكيون عن الاعتقاد بأنَّ لديهم حقاً إلهياً في القيادة بالأرجاء في شاحنات كبيرة وسيارات رياضية مليئة بالوقود الرخيص، ستظل السعودية دولة مهمة.
لا يوجد شيء تربوي أو بطولي بشأن براغماتية بايدن الصارمة، لكنَّ السياسة الخارجية كثيراً ما تكون متعلقة باتخاذ قرارات مشكوك فيها من الناحية الأخلاقية. لكن، يرى كوك في تحليله، أنه تجب نسبة الفضل لبايدن وفريقه لأنهم "منخرطون في تفكيرٍ استراتيجي".