تخيل معي أنه ألقي القبض عليك مع أحد زملائك وزُج بكما في السجن بسبب خلافات بين الحكومة ومالك الشركة التي تعملان بها.. ما هو أقصى ما قد يفعله مدير الشركة من أجلكما؟ حسناً لو كنت تعمل في شركة EDS للبيانات الإلكترونية، وكان مديرك هو رجل الأعمال المخضرم روس بيرو، عندها سيتعاقد مديرك مع عقيد أمريكي متقاعد ويقوم بإشعال أعمال الشغب في السجن الذي يحتجزكما، وفي سبيل تحريرك مع زميلك سيتسبب بهروب الكثير من السجناء الآخرين.. ليست قصة من ضرب الخيال فهذا ما حدث في أحد أيام فبراير/شباط عام 1979.
تعالوا نروِ لكم القصة كاملة:
روس بيرو.. من بيع الصحف إلى اصطياد الثروة
ورث روس بيرو حنكته التجارية عن والده الذي كان سمساراً وتاجر خيول، لكنه كان أكثر طموحاً واستطاع دخول عالم الأعمال من أوسع أبوابه، وبفضل جهده الشخصي أصبح مليارديراً بفترة قياسية.
ولد بيرو عام 1930، وعمل ببيع البذور وتوزيع الجرائد بفترة المراهقة ودرس في الأكاديمية البحرية الأمريكية لينضم بعد التخرج إلى البحرية الأمريكية، وبعد أن انتهت فترة خدمته عام 1957 رفض إعادة التجنيد في البحرية فقد اكتشف أنه ولد ليكون رائد أعمال، وهو قرار لن يندم عليه في المستقبل بكل تأكيد.
انضم بيرو بعد ذلك إلى شركة IBM للمبيعات، وصنع لنفسه سمعة متميزة كأفضل رجل مبيعات على الإطلاق، فقد تمكن من إكمال حصته السنوية من المبيعات في غضون 3 أسابيع فقط.
مع ذلك، طمح بيرو إلى المزيد وحاول إقناع الشركة بالدخول إلى عالم صناعة برامج الكمبيوتر الناشئة آنذاك، لكن الشركة رفضت فكرته وفضلت العمل بالطريقة التقليدية، مما دفعه إلى تأسيس شركته الخاصة لأنظمة البيانات الإلكترونية والتي حملت اسم EDS عام 1962.
تأسيس تلك الشركة باستثمار مبدئي بسيط لا يتجاوز الألف دولار كان قراراً آخر لن يندم عليه بيرو فبفضله استطاع أن يصبح واحداً من أغنى رجال الأعمال في الولايات المتحدة.
شعبية متزايدة في كل أنحاء الولايات المتحدة
بعيداً عن كونه رجل أعمال ناجحاً، استطاع بيرو كسب شعبية واسعة في المجتمع الأمريكي بفضل نشاطه في المجالات الخيرية، مما شجعه لاحقاً للترشح للرئاسة.
فقد افتتح بيرو مع زوجته مؤسسة خيرية عام 1969 اهتمت بشؤون المحاربين القدامى، وبرامج التعليم، والبحوث الصحية، والمؤسسات الثقافية.
وكان بيرو من أوائل من لفت انتباه الرأي العام إلى قضية أسرى الحرب الأمريكيين في فيتنام عندما نظم شحنة من الأدوية والرسائل وهدايا عيد الميلاد والمواد الغذائية ليتم إسقاطها في شمال فيتنام.
وبناءً على طلب حاكم ولاية تكساس أصبح بيرو نائباً في حرب تكساس على المخدرات في عام 1979 فكان له دور في تعديل الأحكام القانونية بهذا الخصوص.
مهمة مستحيلة في أحد السجون الإيرانية
من بين جميع الأعمال والإنجازات التي قام بها بيرو في حياته، تبقى قصة إنقاذه لموظفيه من أحد السجون الإيرانية هي الأبرز.
كان ذلك في ديسمبر/كانون الأول عام 1978 عندما احتجزت السلطات الإيرانية مديرين تنفيذيين في شركة بيرو للبيانات الإلكترونية EDS بتهمة رشوة المسؤولين الإيرانيين لتأمين عقد بقيمة 20 مليون دولار للشركة.
أما بيرو فقد رأى الأمور بشكل مختلف، واعتبر أن موظفيه رهائن لدى الحكومة التي طالبت بالفعل بدفع مبلغ ضخم لتخليصهما، فما كان منه إلا أن سحب موظفيه من إيران، واستعد ليتدخل بنفسه بعد أن رفضت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية التدخل بشكل رسمي.
وبعد فشل المفاوضات مع الحكومة الإيرانية، استعان بيرو بآرثر سيمونز، العقيد الأمريكي الذي قاد في عام 1970 غارة على معسكر أسرى الحرب الفيتناميين الشماليين، وذلك لتنظيم أعمال شغب في السجن الإيراني ليتسنى لموظفيه الهروب، وفقاً لما ورد في Washington Post.
وهذا ما كان بالفعل في فبراير/شباط من عام 1979، حيث تواصل العقيد مع سجناء وحراس في السجن الإيراني واستطاع إثارة أعمال شغب نتج عنها هروب الكثير من السجناء الآخرين كان من ضمنهم المهندسان الأمريكيان اللذان عادا بأمان أخيراً إلى الولايات المتحدة.
أقوى طرف ثالث في تاريخ الانتخابات الأمريكية
خلال الانتخابات الرئاسية عام 1992، أدار بيرو واحدة من أنجح الحملات الانتخابية التي يديرها طرف مستقل في التاريخ الأمريكي فانتقد تدهور الاقتصاد، وزيادة الضرائب التي فرضها الرئيس جورج بوش الأب، واتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية. وأنفق 65 مليون دولار من أمواله الخاصة وحشد جيشاً من المساندين له، ولم يقدم نفسه على أنه تابع لأحد الحزبين السائدين في الولايات المتحدة، إنما على أنه ملياردير تكساس المستقل، الذي يمكنه إنقاذ واشنطن الغارقة بالفساد.
لكن حملة بيرو المتمردة تلك شكلت تهديداً للحزبين الجمهوري والديمقراطي اللذين اعتادا احتكار الانتخابات، وانسحب بيرو في يوليو فجأة من السباق الرئاسي متهماً الجمهوريين بالتآمر ضده، لكنه عاد ليخوض المعركة الانتخابية في أكتوبر/تشرين الأول بعد أن ضيع على نفسه وقتاً ثميناً كان من الممكن أن يستثمره في دعم حملته الانتخابية.
بسبب غيابه عن السباق الانتخابي فترة طويلة تراجعت شعبية بيرو، مع ذلك فقد صوت له 20 مليون أمريكي ليحصل على 19% من الأصوات، وكانت تلك أعلى نسبة يحصل عليها طرف ثالث منذ الحزب التقدمي لثيودور روزفلت في عام 1912.
ومن يدري ربما كان بيرو ليفوز بالانتخابات لو أنه كسب دعم أحد الحزبين المهيمنين، لكن تقديم نفسه كطرف ثالث أفسح المجال لبيل كلينتون ليفوز في الانتخابات ويصبح رئيساً للولايات المتحدة.
حاول بيرو العودة للسباق الانتخابي عام 1996 لكنه لم يفلح في إثارة نفس الحماسة الشعبية، وبالرغم من أنه لم يصبح رئيساً في المرتين اللتين ترشح بهما، إلا أنه استطاع أن يبقى عضواً فاعلاً في السياسة الأميركية، كما بقي فاعلاً في الأعمال الخيرية وفي ريادة الأعمال بكل تأكيد.
حصل بيرو على عدد من درجات الدكتوراه الفخرية والجوائز خلال حياته منها جائزة ونستون تشرشل وتمت تسمية متحف جديد في دالاس باسم متحف بيرو للطبيعة والعلوم تكريماً له.
توفي روس بيرو في منزله في دالاس في 9 يوليو/تموز عام 2019، بعد معركة مع سرطان الدم عن عمر يناهز تسعة وثمانين عاماً.