ليس غريباً أن تقرر مشاهدة فيلم لمجرد أن فيه ممثلاً معيناً أو ممثلة بعينها؛ ولهذا فبالنسبة لي أن يكون الفيلم من بطولة توم هانكس فذلك سبب مقنع لكي أشاهده، وعادةً لا يخيب ظني بأفلام توم هانكس، وحتى لو أن الفيلم لم يعجبني بمجمله فإن مشاهدة تمثيل توم هانكس وحده هو من أكثر الأمور متعة.
وأول شيء أسجله لفيلم finch هو أنه حمَّسني لأن أكتب عنه، فما أكثر الأفلام التي أشاهدها ولكن لا شيء منها يفتح مساحةً للخيال والفكر، اللذين هما بمثابة المحركات الأساسية للكتابة.
والشيء الآخر الذي أسجله، ولكن هذه المرة بشكل عام، هو أن هذه ليست مراجعة، فأنا لا أكتب مراجعات تتناول الجوانب الفنية الاختصاصية للعمل السينمائي، وإنما أسجل هنا الخواطر الفكرية التي يدفع الفيلم العقل لخوض غمارها.
مع أن تصنيف الفيلم يضعه في خانة الأفلام الخيالية، وذلك كونه يعالج مسألة المستقبل ومسألة الذكاء الاصطناعي، فإنه يبعث إحساساً واقعياً غير عادي بالتجربة الإنسانية.
الفيلم يتكون من خليط غريب من الممثلين، حيث لدينا إنسان واحد، هو فنش، وكلبه غوديير، ورجل آلي كان يحب أن يدعى باسم شكسبير، ولكنه في النهاية اختار اسم جيف.
أحداث فيلم finch المهمة لا تحدث في الخارج، وإنما في تطور معرفتنا بالشخصيتين الرئيسيتين وهما الإنسان والرجل الآلي. فالحدث الرئيسي الخارجي هو الانفجار الشمسي الذي قضى على طبقة الأوزون في مناطق معينة، وقد حدث بالفعل. فالفيلم لا يخبرنا عن حدود هذه المناطق التي اختفت فيها طبقة الأوزون، ولا عن الأسباب العلمية التي أدت إلى ذلك الانفجار، وهذا ما يبعد الفيلم عن خانة أفلام الخيال العلمي التي تكون مهووسة بالنظريات والفرضيات المنطقية وغير المنطقية لتفسير ظواهر ربما لن تحدث أبداً.
الحدث المهم المحرك للفيلم هو نقل التجربة الإنسانية من الإنسان إلى الرجل الآلي! وهنا أيضاً تجاوز الفيلم مسألة الوعي الذاتي في الذكاء الاصطناعي. وربما يعتقد المؤلف أن الوعي الذاتي لا يختلف عن تكديس المعلومات واسترجاعها بعد ذلك، فأول شيء يتفاخر به الروبوت هو كمية المعلومات التي يعرفها.
بعد تعليم الروبوت المشي يأخذه فنش ليبحثوا عما يمكن أن يجدوه من طعام أو دواء أو أي شيء مفيد آخر غاب عن أعين الناس الذين يجوبون الشوارع ليلاً.
وهنا أسجل أن finch بقدر احتفائه بالتجربة الإنسانية فهو يتخذ موقفاً سلبياً تجاه الناس، لذلك بينما يتحرك الناس ليلاً بسبب الأشعة فوق البنفسجية، يتحرك فنش خلال النهار مستعيناً ببذلة واقية من الأشعة فوق البنفسجية، ولذلك أساساً قام بصنع رجل آلي عوضاً عن مصاحبة الإنسان.
ومن المشاهد المعبرة التي تؤيد هذا التفسير مشهد المطاردة القصيرة التي حدثت خلال الليل، ففي أثناء تعرُّض فنش لوعكة صحية قاد جيف (الروبوت) السيارة إلى مكان مهجور، ظانّاً أنه يتبع تعليمات فنش، ولكن يتضح فيما بعد أن المكان كله كان فخاً فيهربون بسيارتهم ويستمرون بالهرب حتى الليل، حيث تكون خلفهم سيارة أخرى تطاردهم، ولكنهم يتخلصون منها في النهاية. وفي الليلة التي قبلها كان فنش قد أعطى جيف محاضرة عن ضرورة عدم الثقة بالناس.
من النقاط الجميلة التي تتماشى مع هدف فيلم finch في نقل التجربة الإنسانية اعتماد فنش على رواية القصص لجيف، عندما لا يستطيع أن يشرح له مفهوماً ما. فعندما يريد أن يشرح له مفهوم الثقة بالآخرين والعمل الجماعي يروي له قصة حدثت له في العمل، وفي هذه القصة نجد المفارقة الكبرى التي تتحدث عن التعظيم من التجربة الإنسانية، ولكن في الوقت نفسه عدم الثقة بالإنسان نفسه، وهذا ما يفطن إليه الروبوت بسبب "عقليته الحاسوبية" التي لا تفهم التعامل مع متناقضات إنسانية كهذه. فهو يردّ على فنش بأنه يسرد قصة عن ضرورة العمل الجماعي وعن جعل الآخرين يثقون بك، في حين أن فنش يكره العمل الجماعي ولا يثق بالآخرين!
يحاول جيف خلق علاقة مع الكلب غوديير، وذلك من خلال محاولة يائسة منه لتعلم لغة الكلاب! ولكن فنش يخبره أنه ليس هناك شيء اسمه لغة الكلاب، ليس عليك فهم لغة الكلاب لتتفاهم معها، ولكن من خلال العيش معها ستعرف كيف تتعامل وكيف تفهمها وتبني معها ثقة متبادلة.
وبما أن ذروة التجربة الإنسانية هي الإحساس بالجمال، فإن فنش يقول لجيف إنك ربما تعرف كم يبلغ طول جسر سان فرانسيسكو (وهو الجهة التي هم في الطريق إليها)، وربما تعرف عدد الأسلاك التي فيه، وكم وزنها، ولكن عندما تقف فوق الجسر وتنظر إلى أقصى ما تستطيع رؤيته وأنت تسمع صوت الرياح وصرير الأسلاك، عندما تشعر بذلك كله فتلك هي التجربة الإنسانية.
في طريقهم الطويل يخبرهم الفراش الذي يصطدم بزجاج السيارة أنهم خرجوا من منطقة الانفجار، وأن الحياة لا تزال موجودة. وليس من قبيل المصادفة اختيار الفراش، فهو بقدر ما يرمز لقصر الحياة يرمز كذلك لمدى جمالها وروعتها.
في النهاية، يرتدي فنش أجمل بدلة لديه ويجلس للمرة الأولى تحت أشعة الشمس ليستمتع بها على جسده قبل أن يموت. ربما يكون هذا تبجيلاً للحياة، أو هو تبجيل للموت نفسه باعتباره نهايةً طبيعيةً للحياة وليس نهاية مأساوية.
إلى جانب نقل التجربة الإنسانية يعالج الفيلم أيضاً مسألة العلم، وعلى عكس نظرته للإنسان فالفيلم ينظر للعلم نظرة إيجابية جداً، فجيف يمكن اعتباره هو خليفة الإنسان، الخليفة الذي يمتلك القوة والذكاء، وإضافة إلى ذلك يمتلك التجربة الإنسانية التي ينقلها له الإنسان.
ولكن الانفجار لم يقضِ على جميع البشرية، لذلك فهناك الكثير من الأشرار في الخارج، وهنا قام المؤلف بإغماض عينيه فقط عن الناس، وحاول عدم مشاهدتهم وإقناعنا بأنهم غير موجودين، ولكنه في الحقيقة لم يستطع تجاهل وجودهم تماماً؛ لذلك نراه بين الحين والآخر يخبرنا بأنهم لا يزالون هناك يعكرون صفو "العالم المتحضر".
يحضرني الآن فجأة إنسان نيتشه الأعلى، هل المؤلف متأثر برؤية نيتشه للإنسان؟ ربما.
أو ربما هو هوس العقل الغربي بموت الإنسان ونهاية العالم.
يقف جيف أخيراً على جسر سان فرانسيسكو ومعه غوديير، ويشعر بما كان أخبره به فنش ولم يستطع فهمه في حينها. ومرة أخرى نجد خيال الناس وليس الناس أنفسهم، نجد صورهم معلقة على الجسر مكتوباً عليها عبارة الترحاب بالقادمين والانتظار للذين لم يقدموا بعد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.