غموض يسود الأزمة السودانية في ظل رفض القوى المدنية اتفاق رئيس الوزراء عبد الله حمدوك مع رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، وسط تساؤلات حول قدرة حمدوك على تقوية موقفه عبر حملة الإقالات للمسؤولين الذي عيّنهم البرهان أم يحدث تحالف بين الرجلين.
ورغم توقيع "اتفاق سياسي"، الشهر الماضي، بين البرهان، ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك، فإن الحلول السياسية مازالت غائبة، في ظل احتجاجات مستمرة تشهدها مدن البلاد، رافضة لهذا الاتفاق ومطالِبة بمدنية كاملة للدولة، وسقط على أثرها نحو 44 قتيلاً ومئات المصابين منذ 25 أكتوبر/تشرين الأول، بحسب آخر إحصائية للجنة أطباء السودان (مستقلة).
ووفق مراقبين، فإنه مع حالة الاحتقان السياسي وانسداد الأفق في تقديم حلول للأزمة بالبلاد، تلوح في الأفق عدة سيناريوهات خلال الفترة المقبلة، من بينها العودة إلى شراكة ما قبل 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 وفق أسس جديدة، أو انسحاب حمدوك من المشهد مع استمرار الاحتجاجات، وإصرار المحتجين على سلطة انتقالية مدنية كاملة.
الأزمة السودانية تنتقل لمرحلة خطيرة
ومنذ 21 أغسطس/آب 2019، يعيش السودان فترة انتقالية تستمر 53 شهراً تنتهي بإجراء انتخابات مطلع 2024، ويتقاسم خلالها السلطة كل من الجيش وقوى مدنية (قوى "إعلان الحرية والتغيير") وحركات مسلحة وقعت مع الحكومة اتفاق سلام، في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2020.
ولكن تفاقمت الأزمة السودانية، في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إثر إعلان البرهان حالة الطوارئ وحلّ مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين وإعفاء الولاة، عقب اعتقال قيادات حزبية ووزراء ومسؤولين، مقابل احتجاجات مستمرة ترفض هذه الإجراءات، باعتبارها "انقلاباً عسكرياً".
وبعد احتجاجات شعبية على قرارات البرهان، وضغوط غربية، وقًع البرهان وحمدوك اتفاقاً سياسياً في 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لم يؤدِّ إلى حل ينهي الأزمة السودانية.
ويتضمن الاتفاق الذي يُعتقد أنه جرى بوساطة أمريكية، ولكنه رفضته القوى المدنية 14 بنداً، منها: إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وعودة حمدوك إلى منصبه بعد نحو شهر من عزله، وتشكيل حكومة كفاءات (بلا انتماءات حزبية)، وتعهد الطرفان بالعمل معاً لاستكمال المسار الديمقراطي.
هل يمكن العودة للشراكة بين العسكريين والمدنيين وفق أسس جديدة؟
العودة إلى ما قبل 25 أكتوبر/تشرين الأول، هي سيناريو يطرحه مراقبون وسياسيون، لكن بشكل مغاير ووفق أسس جديدة، بمعنى أن تعود قوى "إعلان الحرية والتغيير" للشراكة مع المكون العسكري، للعمل على تخفيف حدة احتجاجات الشارع واستجابة لضغوطات المجتمع الدولي.
وفي هذا الصدد، يرى المحلل السياسي أمير بابكر أنه يمكن أن تحدث تنازلات من كل الأطراف العسكرية والمدنية حتى يتم تجاوز الأزمة المستفحلة بالبلاد.
ويقول بابكر لـ"الأناضول": "قد يكون هذا التنازل بالتوافق على المضي في تحقيق قضايا رئيسية تتعلق بالانتخابات والمؤتمر الدستوري (الخاصة بالدستور الجديد)".
ويشير إلى أن ذلك قد يكون مخرجاً بتجاوز عدداً من القضايا المتعلقة بالانتقال الديمقراطي في الفترة الانتقالية مثل "إصلاح المؤسسات والخدمة المدنية وخلافه" بالانتقال إلى التركيز على القضايا الرئيسية المتعلقة بالانتخابات.
ويضيف: "لأن المتبقي من الفترة الانتقالية لن يسمح بالكثير، وإذا تم وضع المؤتمر الدستوري والانتخابات أولوية حقيقية وتم العمل على خلق توافق بينها، واتخاذ خطوات جادة لمراحل الانتقال، حينها ستكون الأزمة الحالية جزءاً من الماضي".
وخلال لقائهم برئيس الوزراء عبد الله حمدوك، أكد سفراء الاتحاد الأوروبي في الخرطوم، أهمية تحقيق "إجماع وطني" في السودان؛ من أجل "استئناف التطور نحو نظام ديمقراطي".
وقال السفراء في بيان، إن "تدابير بناء الثقة بين القوى المدنية والجيش تشمل إنشاء عملية وضع دستور وطني شامل، وتنفيذ وتوسيع اتفاق السلام لعام 2020، والتحضير لانتخابات ذات مصداقية، ومواصلة أجندة الإصلاح الاقتصادي".
البرهان وحمدوك يتطلعان إلى إعلان سياسي موسع
الخيار المفضل لرئيس الوزراء، وشريكه في الاتفاق السياسي، عبد الفتاح البرهان، هو "إعلان سياسي" يضم قوى سياسية واسعة، ما يسهل مهمتهم إلى حين انتهاء فترة الانتقال، بحسب تصريحات سابقة لمسؤولين.
إلا أن عدداً كبيراً من المراقبين يرون صعوبة ذلك، في ظل تمنّع تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير" بكتله وأحزابه، وكذلك الحزب الشيوعي وتجمع المهنيين السودانيين.
وتكمن الصعوبة في أن هذه القوى ترفع شعار "لا تفاوض.. لا شراكة.. لا شرعية"، وترفض الاتفاق السياسي الذي جاء بعد قرارات البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وورد "الإعلان السياسي" كأحد بنود الاتفاق السياسي، الذي نص على أن "إدارة الفترة الانتقالية بموجب إعلان وإطار سياسي، بشراكة بين العسكر والمدنيين والإدارة الأهلية ولجان المقاومة وقوى الثورة الحية وقطاعات الشباب والمرأة والطرق الصوفية".
وأعلن حمدوك مؤخراً، عن خطوات لبناء تحالف شامل يؤدي إلى "إعلان سياسي"، لإعادة البلاد لمسار الانتقال الديمقراطي.
إلا أن قوى الحرية والتغيير قالت، إنها ليس لديها إعلان سياسي مطروح، وإنها "تعمل مع المجموعات العريضة من الشعب السوداني للانقلاب من أجل مقاومته ودحره".
هل ينسحب حمدوك من الساحة؟
رهن حمدوك في الأول من ديسمبر/كانون الأول 2021، بقاءه في منصبه بتطبيق الاتفاق السياسي مع الجيش، الذي عاد بموجبه لرئاسة الوزراء، وبالتوافق بين القوى السياسية، بحسب وسائل إعلام دولية.
وسبق ذلك تصريح لحمدوك في مقابلة مع قناة "سودانية 24 الخاصة" في 25 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بقوله: "لو رأى الشعب السوداني أن الاتفاق لا يلبي مصلحته فإنني سأتقدم باستقالتي".
وبذلك ترك حمدوك الباب موارباً أمام خروجه من الحكومة، رغم أن محللين يرون الوقت مبكراً لانسحاب الرجل من المشهد طالما أنه خرج من إقامته الجبرية ووقع الاتفاق السياسي مع العسكر وحده.
وفي هذا الصدد، يرى المحلل السياسي عمرو شعبان، أن حمدوك سيستمر في منصبه، فهو مقتنع بما يريد أن يفعله خلال المتبقي من الفترة الانتقالية.
ويضيف شعبان في حديثه للأناضول أنه "فات الوقت لانسحابه بعد توقيعه للاتفاق السياسي، وكل المؤشرات تدل على بقائه بالمنصب بدليل تحركاته لكسب أراضٍ جديدة بجرِّ آخرين للمضي معه في الشراكة مع العسكر".
ويلفت إلى إمكانية توجه حمدوك وشركائه العسكر إلى خلق حاضنة سياسية جديدة بعد أبعاد تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير"، حتى يستطيع تنفيذ برامجه وإيجاد دعم سياسي لهم.
هل يحاول حمدوك خلق حاضنته الخاصة؟
ويشير شعبان إلى محاولة رئيس الوزراء لقاء لجان المقاومة وكسبها إلى صفه مؤخراً، وإن كانت طريقته خاطئة في التواصل مع هذه اللجان.
وأردف: "بدل أن يذهب للجان المقاومة الحقيقية على الأرض ليقابلها، ويشرح وجهة نظره، لجأ إلى دعوة أفراد منها لمقابلته، وهذا خطأ ولن يساعده في دعم موقفه".
وفي 29 نوفمبر/تشرين ثاني، نفت تشكيلات من "لجان المقاومة" بالخرطوم، مشاركتها في لقاء مع حمدوك، ودعت إلى المشاركة في المظاهرات الرافضة لاتفاقه السياسي.
وجاء النفي عقب بيان صدر عن مكتب حمدوك، قال إن الأخير عقد لقاءً مع عدد من أعضاء "لجان المقاومة" بالخرطوم والولايات بشأن الاتفاق السياسي الذي وقعه مع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
و"لجان المقاومة" تشكَّلت خلال الثورة السودانية على نظام عمر البشير، وهي مجموعات شعبية ساهمت في تنظيم الحراك الاحتجاجي؛ ما أجبر قيادة الجيش على عزل البشير، في 11 أبريل/نيسان 2019.
سيناريو السيطرة الكاملة للقوى السياسية المعارضة
المدنية الكاملة؛ أي سيطرة القوى التي تصنف نفسها بالمدنية على المرحلة الانتقالية ودون انتخابات، هو خيار تتبناه القوى السياسية التي لها قدرة على تحريك الشارع وأبرزها تجمع المهنيين والحزب الشيوعي، وتجد سنداً قوياً في مطالبها من لجان المقاومة ذات الانتشار الواسع وفائدة الحراك الاحتجاجي في الأحياء والمدن.
وانضمت قوى الحرية والتغيير (الائتلاف الحاكم سابقاً لهذا التيار)، متبنية ذات الشعار "لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية".
وفي وقت سابق، قال تجمع المهنيين السودانيين إن التظاهرات مستمرة طوال شهر ديسمبر/كانون الأول الجاري، لحين تحقيق المطالب، كما أعلنت لجان المقاومة (مكونة من نشطاء) عن أيام المواكب (المظاهرات).
وبحسب المعلن، فإن أيام "13 و19 و25 و30 " ديسمبر/كانون الأول، هي مواعيد التظاهرات الكبرى بالخرطوم ومدن الولايات تتخللها مواكب مركزية تذهب إلى القصر الرئاسي وسط الخرطوم.
وأيضاً يتخلل هذا الحراك الجماهيري، وفق التجمع، فعاليات ثورية من تظاهرات ليلية ووقفات احتجاجية وندوات في الأحياء ومواكب نوعية لقضايا محددة.
إلا أن المكون العسكري برئاسة البرهان قائد الجيش، يشدِّد على أن وجود المنظومة العسكرية والأمنية خلال الفترة الانتقالية هو صمام أمان للبلاد من التمزق.
وكرر البرهان أكثر من مرة حرصه على إنجاح الفترة الانتقالية وصولاً لانتخابات نزيهة وحرة في يوليو/تموز 2023، على حد قوله.
هل يحاول حمدوك تعزيز سلطته في مواجهة البرهان؟
وفي مسعى جرسء قيل إنه يهدف لمحو القرارات التي اتخذها البرهان عند إقالته، أطاح عبد الله حمدوك بجميع الولاة واستبدل معظم القائمين بأعمال نواب الوزراء، حسبما كشفت وثيقة اطلعت عليها وكالة رويترز، الأحد 12 ديسمبر/كانون الأول 2021.
وبموجب هذا القرار استبدل رئيس الوزراء السوداني جميع القائمين بأعمال أمناء الولايات الذين عينهم القائد العام للجيش عبد الفتاح البرهان في أعقاب الإجراءات الأخيرة التي اتخذها الأخير في أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
كما استبدل حمدوك معظم القائمين بأعمال نواب الوزراء الذين عينهم الجيش، وبعضهم ممن كانوا يعملون مع نظام الرئيس السابق عمر البشير الذي أطاحت به انتفاضة شعبية عام 2019.
هذا القرار جزء من جهود حمدوك، الذي عاد إلى رئاسة الوزراء بموجب اتفاق مع الجيش، للعدول عن التغييرات التي أجراها المجلس العسكري بعد الاستيلاء على السلطة.
وأكد مكتب حمدوك صحة هذا القرار.
مع ذلك لم يسمّ حمدوك بعد أعضاء حكومة التكنوقراط وفقاً لما نص عليه اتفاق 21 نوفمبر/تشرين الثاني الذي أبرمه مع الجيش، ويواجه تحدياً في ذلك بسبب معارضة أحزاب سياسية والقوى المدنية للاتفاق.
ويمكن النظر لقرارات حمدوك على أنها محاولة لإقناع القوى المدنية بدعمه وأن نهجه الجديد بعد عودته للسلطة سيكون مختلفاً عن السابق، وسوف يتضمن تعزيز صلاحيات الحكومة في مقابل مجلس السيادة، بالنظر إلى اختلال موازين القوى لصالح العسكريين هو الذي سهل عليهم إقالته.
ولكن رغم أهمية الولاة في بلد مترامي الأطراف كالسودان، تظل مفاتيح القوى الحقيقية في يد العسكريين، ومن الصعب تصور أن إقالة بعض المسؤولين سوف تقلل نفوذ البرهان الذي يقود الجيش الذي هو قادر على تكرار الكرَّة ثانية وعزل حمدوك.
كما أنه من الصعب تصور أن مثل هذه القرارات قد تقلل من نفوذ عضو مجلس السيادة وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو المعروف باسم "حميدتي"، بالنظر إلى ولاء هذه القوات له شخصياً، وشبكة علاقته الدولية والإقليمية والمحلية والتي يعززها دوره في تجنيد المرتزقة لصالح حربي اليمن وليبيا، وقدراته المالية الهائلة، عبر شبكة الشركات والمصالح المتعلقة باستخراج وتجارة الذهب.
وبالتالي فإن رهان حمدوك على قدرته على الزحف تدريجياً للسيطرة على مفاصل السلطة تبدو غير واقعية لحد كبير، كما أن رهان القوى المدنية على الشارع لإقالة النخبة العسكرية الحاكمة تبدو غير واقعية بعد الشقاق بينها وبين حمدوك وفقدان الشارع لزخمه نسبياً.