عشنا في آخر 3 قرون ثورات صناعية كبيرة، تطورت فيها العلوم والصناعات، ومهدت كذلك لثورة صناعية أكبر يستخدم فيها الذكاء الاصطناعي وتقنيات تعليم الآلة والروبوتات وعلم الجينوم (الحمض النووي)، وغيرها من التقنيات والعلوم التي أشار لها البروفيسور الألماني كلاوس شواب -مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي ومديره التنفيذي- في عام 2016 عبر كتابه "الثورة الصناعية الرابعة".
بالنسبة للروبوتات والبرمجة فقد باتت حجر أساس للعديد من الصناعات في العالم، لا سيما الأجهزة الذكية، وقد وصل التطور في هذا المجال إلى اختراع جهاز كمبيوتر بحجم الكف، يستطيع أداء مهام جهاز الكمبيوتر الكبير، وهو ما يعرف بالـ"راسبيري باي".
الـ"راسبيري باي" كمبيوتر بحجم الكف ورخيص!
بينما كان "شواب" يعلن عن بدء الثورة الصناعية الرابعة في عام 2016، كانت هناك شركة صغيرة تطور تقنية أحدثت تغييراً كبيراً في عالم التقنية والروبوتات في غضون سنوات قليلة، – تأخذ أكبر خطواتها بانتقالها إلى مدينة كامبريدج البريطانية، لتحظى بالدعم من مختبر الكمبيوتر الخاص بإحدى أعرق جامعات العالم، جامعة كامبريدج.
هذه الخطوة جاءت بعد 10 سنوات من العمل، إذ تعود نقطة البداية إلى عام 2006، عندما لاحظ عالم الحاسوب البريطاني ابن أبتون، الذي كان يعمل حينها مديراً للدراسات في جامعة كامبريدج، انخفاض عدد المتقدمين لدراسة علوم الكمبيوتر في جامعة كامبريدج، من 600 شخص في التسعينيات إلى 250 متقدماً في مطلع القرن الحالي، بانخفاض أكثر من 40%.
أخذ أبتون على عاتقه تحليل أسباب ذلك، وتوصل إلى أن الشغف المصاحب لأجهزة الكمبيوتر التي ظهرت في الثمانينيات دفع العديد من الأطفال والشباب محبي التكنولوجيا لبرمجة هذه الأجهزة، والتوصل إلى برامج مختلفة وثورية في ذلك الوقت، لكن الآن لم يعد هناك ما يثير هذا الشغف.
في المقابل، شهد السوق العالمي ظهور لاعبين جددٍ مثل الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية وأجهزة الألعاب، لا تسمح واجهتها بالبرمجة كما في أجهزة الكمبيوتر الأولى، ما جعل الشغوفين بهذه الأجهزة الجديدة مستهلكين وليس منتجين.
هنا قرّر أبتون أن يحاول إعادة مجد عالم البرمجة، وتحويل المستهلكين إلى منتجين مرة أخرى، عبر إنتاج كمبيوتر صغير يمكن حمله أينما ذهب الشخص ويمكنه برمجته بسهولة كذلك.
إعادة المرح إلى تعلم البرمجة
كان الهدف منذ البداية أن يعود الكمبيوتر كواجهة برمجية سهلة الاستخدام لتشجيع المستخدمين على كتابة الأكواد البرمجية لابتكار أدوات (أجهزة وبرامج) جديدة، في بيئة يملؤها الحماس والشغف، وبجانب ذلك أراد أبتون وفريقه استحداث كمبيوتر بسعر منخفض جداً وصغير، حيث يسهل حمله، وهو الأمر الذي يشجع المستخدمين، خاصة الشباب، على الحصول على هذا الكمبيوتر الجديد، إلا أن هذا شكّل تحدياً كبيراً للفريق.
وعلى غرار الشركات التقنية الأخرى التي تتخذ من أسماء الفواكه علامات تجارية لها، مثل آبل، وبلاك بيري، ابتكر أبتون الراسبيري، وهو أحد أنواع التوت، لتتخذ من شكلها شعاراً لها ومن اسمها علامة تجارية للشركة الناشئة ومنتجها الوليد، أما عن كلمة (باي) الملحقة بكلمة راسبيري، فإنها تشير إلى لغة البرمجة بايثون، التي يعمل الراسبيري على تعليمها ودعمها.
بعد عمل مُضنٍ استمر لسنوات، ظهرت أول نسخة من الراسبيري، في مايو/أيار 2011 بـ25 دولاراً فقط! وهو عبارة عن شريحة إلكترونية بها مكونات الكمبيوتر التقليدي مثل معالج البيانات (البروسيسور)، والذاكرة العشوائية (الرام)، ومداخل يو إس بي… إلخ، ومضمنة بكل التقنيات المتوفرة في الأجهزة الذكية مثل الوايفاي والبلوتوث إلى آخره، كما يمكن توصيلها بشاشة وسماعات ولوحة مفاتيح… إلخ.
"عندما أعلنا السعر لأول مرة اعتقد الناس أننا مجانين"- بيتي توماس، شريك إيبن أبتون في مؤسسة راسبيري باي.
إلا أن ما يميز شريحة الراسبيري هو احتواؤها على مخارج تحكم رقمية -وهي غير الموجودة في الحواسيب العادية- التي يمكنها التحكم في القطع الإلكترونية والكهربائية المختلفة، ومن خلالها يمكن برمجة الشريحة لتصبح "روبوت" يقوم بمهمة ما عن طريق برمجته، ولن يكون المستخدم، خاصة الأطفال، خائفين من أهلهم بسبب تخريب الكمبيوتر الخاص بهم، فالراسبيري مخصص لذلك.
كما أتاحت مؤسسة راسبيري نظام تشغيل يدعى (راسبيان)، وهو نظام تشغيل مجاني يتعلم مقتنو الراسبيري كيفية تنصيبه على الشريحة لتصبح كمبيوتراً متكاملاً ومتنقلاً (صغير الحجم)، كما يحتوي هذا النظام على العديد من البرامج التي يمكن تحميلها مجاناً، ويحتوى أيضاً على العديد من البرامج التعليمية الخاصة بالبرمجة بشكل سهل وتفاعلي.
رغم أن مؤسسة راسبيري عملت على توفير نظام راسبيان، فإن المستخدم للراسبيري يمكنه تنصيب عدة أنظمة تشغيل أخرى (من توزيعات لينكس) وهي أنظمة مجانية بالكامل، كما أنها مفتوحة المصدر، أي يمكن تعديل نظام التشغيل طبقاً لما يحتاجه المستخدم.
فعلى سبيل المثال، يمكن تنصيب "ليبرا إليك" على الراسبيري، ومن ثم توصيله على أي شاشة تلفاز قديمة لتتحول الشاشة إلى شاشة حديثة بالكامل، تدعم مشاهدة الفيديوهات عالية الجودة، والدخول إلى اليوتيوب عن طريق الشاشة، وما إلى ذلك من تقنيات خاصة بأجهزة التلفاز الحديثة، وكذلك يمكن تنصيب نظام تشغيل ويندوز 10 عليه، كما تتيح جوجل نظام أندرويد لتنصيبه على الراسبيري، وبذلك نجحت مؤسسة راسبيري باي -التي تتولى إنتاج شرائح الراسبيري- في تحقيق مبدأ المرح والمتعة والسهولة في تعلم البرمجة.
مجتمع عالمي يتخطى حدود المتخصصين
في أول عام من مبيعات شرائح الراسبيري واجه إيبن أبتون وفريقه مشكلة، وهي زيادة الطلب غير المتوقع على شرائح الراسبيري، حيث تخطى عدد الطلبات مئات الآلاف.
أما في الوقت الحالي فيتواجد آلاف الأعضاء على منتدى موقع راسبيري الذين يتناولون العديد والكثير من الموضوعات حول الراسبيري، إذ يتناولون مبادئ الراسبيري الأساسية، وصولاً إلى تطبيقات الراسبيري المتقدمة في العديد من المجالات، مثل تعلم لغات البرمجة المختلفة على الراسبيري، وتطبيقات علم الشبكات والخوادم، وبرامج الغرافيك والتصميمات، إلى تطبيقات الروبوتات والأتمتة والأجهزة الذكية.
كما تحصد قناة راسبيري على اليوتيوب عشرات ومئات الآلاف من المشاهدات، هذا غير حسابات المؤسسة على باقي المواقع مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام وغيرها من المنصات، والتي جعلت من مقتني الراسبيري باي مجتمعاً عالمياً.
وفي خبر على موقع المؤسسة تحت عنوان "الراسبيري باي أشهر من ليدي غاغا" أظهر رسم بياني يقارن عدد الباحثين عن كلمة "ليدي غاغا" وهي مغنية أمريكية مشهورة على جوجل، وكلمة راسبيري باي، ويظهر من خلال الرسم أن الراسبيري تفوّق على غاغا، وذلك في شهر فبراير/شباط عام 2012.
ويظهر بحث أجراه "عربي بوست" على موقع جوجل تريند، أن أعلى عملية بحث تمت عن الراسبيري باي كانت في عام 2015، وظلّ مستوى البحث مرتفعاً قبل ظهور كورونا، إلا أن المنحنى بدأ في الانخفاض منذ ظهور الوباء في عام 2019.
إصدارات مختلفة للكمبيوتر الصغير
يُستخدم الراسبيري باي في العديد من التطبيقات المذهلة، البسيطة منها والمعقدة، من استخدامه ككمبيوتر متنقل، وتحويل أجهزة التلفاز القديمة إلى أجهزة حديثة عبر مجموعة من الإجراءات البسيطة، إلى استخدام الراسبيري في تصميم الأنظمة المنزلية الذكية، وأنظمة المراقبة، والبث الحي -حيث يحتوي الراسبيري على كاميرا وميكروفون- ووصولاً إلى تطبيقات متقدمة مثل صناعة الطائرات بدون طيار والغواصات والحواسيب الفائقة والأقمار الصناعية البالونية.
ويوجد من الراسبيري نموذجان رئيسيان A وB، وتكمن الاختلافات بينهما في مساحة الذاكرة العشوائية، وعدد مداخل اليو إس بي ومساحة التخزين، إذ تتفوق نسخة B على نسخة A إلا أن باقي المواصفات متطابقة إلى حد كبير.
ويأتي الراسبيري بمعالج آرم كورتكس، وهي معالجات تمتاز بحجمها الصغير وسعرها المنخفض وسرعتها العالية، ما يمكنها من أداء مهام مثل معالجة الفيديو والرسوميات والصوتيات، وهو المعالج المستخدم في أجهزة أندرويد وآيفون.
من أين نبدأ؟
يظهر البحث الذي أجراه "عربي بوست" على موقع جوجل تريند أن أعلى 5 معدلات بحث عن الراسبيري باي على جوجل كانت كلها من نصيب دول أوروبية؛ حيث جاءت في المرتبة الأولى ألمانيا، ثم تلتها النمسا، ثم هولندا، والسويد، وفي المركز الخامس تأتي سويسرا، بينما لم تأتِ أي دولة عربية في أول 30 دولة، وكانت الدولة العربية الأولى في هذا التصنيف هي تونس، التي جاءت في المركز الـ36.
ورغم أن تواجد الراسبيري في العالم العربي يُعد ضئيلاً بالمقارنة بشرائح إلكترونية أخرى أقل منه من حيث الإمكانيات والتقنية، فإن الراسبيري يتواجد على المتاجر العربية الإلكترونية، كما تتوفر له عدة مصادر عربية تعليمية.
فلغير المختصين والهواة وكذلك الأطفال يتوفر كتاب "راسبيري باي ببساطة" لعبد الله علي عبد الله، الذي يأخذ القارئ في رحلة شيقة -على حد وصف الكاتب- لتوضيح المفاهيم الأساسية لغير المتخصصين، ومن ثم يبدأ الكتاب الشروع في الرحلة التي تنطلق بتنصيب نظام التشغيل، ومن ثم بدء التعامل مع أنظمة التشغيل المختلفة، التي تتشابه كثيراً في طريقة تنصيبها على الراسبيري.
ثم يصل الكتاب إلى شق المشاريع المنفذة بالراسبيري، وأهم المصادر الإضافية المهمة في عالم الراسبيري، ولا يغفل الكتاب سرد قصة نشأة مؤسسة راسبيري باي وظهور الراسبيري، كما يقارن الراسبيري بعدة شرائح إلكترونية أخرى متاحة في السوق، ويُعد هذا الكتاب أبرز المصادر التعليمية العربية لتعليم الراسبيري باي كما أنه مجاني.
أما المصادر الإنجليزية فهي بكل تأكيد أكثر غزارة وإثارة، فعلى موقع المؤسسة توجد العديد من المصادر من إنشاء المؤسسة، التي توفر مادة قيمة وتفاعلية على موقعها. ففي منصة متكاملة تُقدم المؤسسة موقع المشروعات الذي يوفر العديد من الأفكار والمشروعات للأطفال في كيفية إنشاء الألعاب ومواقع الإنترنت، وكذلك الروبوتات والموسيقى والأعمال الفنية والإبداعية، وتعلم لغات البرمجة المتعددة، وغيرها العديد من المساقات التعليمية التفاعلية وعالية الجودة والمجانية بالكامل.
وفي منصة منفصلة عن موقع المؤسسة، توفر مؤسسة راسبيري باي موقعاً لأهم المشروعات المنفذة بالراسبيري حول العالم، كما قامت المؤسسة بإنشاء (نادي الكود العالمي)، والذي يحتوي على مجموعة من الألعاب المصممة للأطفال من سن 9 إلى 13 سنة لتعلم البرمجة.
أما عن طريقة الحصول على الراسبيرى فيكفي أن تدخل على موقع مثل أمازون في بلدك، وتقوم بكتابة راسبيري باي، لتختار بين العديد من الفئات والنسخ المختلفة من الراسبيري، لتصلك إلى المنزل، وتبدأ رحلة تنفيذ أول جهاز خاص بك، أو تصميم ألعابك وبرامجك المفضلة عن طريق التعلم داخل عالم راسبيري.