مع نهاية القرن الخامس عشر الميلادي بدأ نجم دولة المماليك في مصر والشام بالأفول رويداً رويدا، نتيجة عدد من العوامل، على رأسها تمكّن الملاح البرتغالي "بارثولوميو دياز" من اكتشاف طريق "رأس الرجاء الصالح" عام 1488، كذلك وصل مواطنه الملاح البرتغالي "فاسكو دا غاما" عام 1498 إلى سواحل الهند.
وشكَّلت هذه التطورات سابقة خطيرة لم تتوقعها دولة المماليك في أسوأ كوابيسها، فأن يصل البرتغاليون بهذه السرعة إلى الساحل الهندي يعني تطويقها وحرمانها من عماد قوتها، أي من عائدات الضرائب التي كانت تفرضها على التجارة القادمة من الشرق، كتعريفة مرور عبرة أراضيها.
أمام الواقع الجديد والمرير سعت دولة المماليك من خلال التحالف مع جمهورية البندقية في إيطاليا والمتضررة من ذلك التطور وبمشاركة رمزية من الدولة العثمانية إلى القضاء على الخطر البرتغالي، إلا أن القائد البرتغالي "فرانشيسكو دي ألميدا" استطاع في عام 1509 هزيمة القوات البحرية المملوكية بقيادة القائد المملوكي "حسين الكردي" في معركة ديو.
على إثر معركة ديو أصبح الطريق مُعبّداً للبرتغاليين وقائد حملتهم الرابعة (1512 -1515) "ألفونسو دي ألبوكيرك" للاستيلاء على خليج عدن والبحر الأحمر، وبدأ دي ألبوكيرك يفكر بكل جدية في الوصول للأماكن المقدسة لدى المسلمين؛ مكة المكرمة والمدينة، لنبش وسرقة قبر رسول الله محمد ومقتنياته، لمساومة المسلمين من أجل استعادة واسترداد بيت المقدس، بحسب ما ذكر ألفونسو دي ألبوكيرك في يومياته، ورغم أن مشروعه لم ير النور فإن فكرة نبش قبر رسول الله محمد بقيت حاضرة في ذهن المستعمر البرتغالي.
وأمام هذا الحدث المستجد والمتطوّر، بجانب الصراع على الحدود بين الدولة العثمانية والمملوكية وموقف المماليك من الصفويين وإيوائهم لأمراء عثمانيين فارين من الدولة العثمانية، تحرك السلطان العثماني سليم الأول نحو الشام بقوة عسكرية ضخمة قدرت ما بين 60-125 ألف مقاتل و300 مدفع، فقابله السلطان المملوكي قنصوه الغوري في معركة "مرج دابق" يوم الأحد 25 رجب عام 922 هـ/ 24 أغسطس/آب عام 1516، التي انتهت بهزيمة المماليك ومقتل السلطان المملوكي قنصوه الغوري، وسيطرة سليم الأول على الشام، ثم مصر، بعد معركة الريدانية عام 1517.
الأوضاع في مصر في ظل الدولة العثمانية
بعد معركة مرج دابق عين السلطان العثماني سليم الأول "خايرك بك" والي الشام السابق أثناء حكم المماليك والياً على مصر، كمكافأة له لدوره البارز في قلب هزيمة العثمانيين إلى انتصار في معركة "مرج دابق"، وبعد استقرار الأمور في مصر والشام والحجاز للدولة العثمانية، وجه السلطان العثماني سليمان القانوني قوة عسكرية بحرية بقيادة والي مصر "سليمان باشا" إلى مدينة جدة، ومنها إلى خليج عدن عام 1538، وقد استطاع هزيمة البرتغاليين وطردهم من خليج عدن والبحر الأحمر وإنهاء خطرهم ومشاريعهم الاستعمارية في جنوب الجزيرة العربية.
أما بخصوص ترتيب الأوضاع في مصر فقد أرسل السلطان العثماني سليمان القانوني صدره الأعظم "إبراهيم باشا" لترتيب الأوضاع الداخلية في مصر، فكوّن أول حكومة عثمانية في مصر، ووضع على رأسها والياً يساعده في إدارة أمور الولاية، ومجلساً استشارياً يجتمع أربع مرات في الأسبوع، كما أبقى العثمانيون على التقسيمات الإدارية لمصر في عهد المماليك على ما هي عليه، وهي: 14 قسماً، يرأس كل قسم ضباط مهمتهم تنظيم الري وجمع الضرائب.
وكان "بيت المال" في ولاية مصر مسؤولاً عن دفع 16 مليون بارة للدولة العثمانية كل عام، كذلك كانت ولاية مصر في العهد العثماني من أهم مصادر الدخل للدولة العثمانية، وكان يتم من خلالها الإنفاق على الحرمين الشريفين، وإرسال جزء من خراجها كالأرز والسكر والقمح إلى الأماكن المقدسة في الحجاز وكذلك إلى إسطنبول.
ومن أشكال تسامح العثمانيين مع الأقباط وغير المسلمين في مصر أنهم سمحوا لليهود والمسيحيين بأن يمارسوا شعائرهم الدينية بحرية تامة تحت حماية الدولة، وفقاً لما تنص عليه الشريعة الإسلامية، وبذلك فإن أهل الكتاب من غير المسلمين كانوا يعتبرون رعايا عثمانيين، وفرض العثمانيون دفع الجزية على الرعايا من غير المسلمين مقابل إعفائهم من الخدمة في العسكرية، وكانت الإدارة العثمانية تفضل أن يتولى أقباط مصر الشؤون المالية والإدارية لخبرتهم فيها، وعلى الرغم من أن القوانين العثمانية تمنع إعادة بناء الكنائس فإن أقباط مصر خالفوا تلك القوانين، وقاموا ببناء كنائس جديدة داخل مجمعات الأديرة القديمة أو بجوارها، ولم تقم الإدارة العثمانية في مصر بالتعرض لهم بالتشدد في هذا القانون، كما كان هدم الكنائس في العهد العثماني نادراً.
المعلم يعقوب وأوضاع مصر قبل الحملة الفرنسية
ولد يعقوب حنا أو فام كما تجمع جميع المصادر في مدينة ملوي بمحافظة المنيا في مصر عام 1745، لأسرة قبطية متوسطة الحال، تلقى تعليمه بإحدى المكتبات القبطية داخل الكنيسة، ثم عمل مساعداً لبعض أبناء طائفته العاملين بجباية الأموال والحسابات حتى تعلم حرفتهم جيداً، ثم انتقل للعمل مع "سليمان بك" أحد رجالات المماليك الأقوياء في مصر إبان الحكم العثماني، الذي كان يعتبر من كبار أغنياء المماليك، لذلك تكونت لدى يعقوب فام ثروة كبيرة.
في تلك الأثناء، أي قبيل الحملة الفرنسية تراخت القبضة الأمنية العثمانية عن مصر بسبب حروبها التي لا تنتهي مع الدول الأوروبية، ما فتح الباب لبعض المغامرين والعابثين كإبراهيم بك ومراد بك وهم من رجالات المماليك، بالعبث بأمن مصر واستقرارها، وعندما توفي "محمد بك أبو الدهب" أحد رجالات المماليك الذين لعبوا دوراً كبيراً في إفشال مشروع "علي بك الكبير" في بناء دولة خاصة به في مصر، عينت الدولة العثمانية عام 1775 "إسماعيل بك" على ولاية مصر وبمجرد تعيينه دخل في حالة صراع مع كل من "إبراهيم بك" و"مراد بك" اللذين تمكنا فيما بعد من طرده والاستيلاء على السلطة في مصر.
في عام 1786 أرسلت الدولة العثمانية حملة عسكرية بقيادة "حسن باشا" الجزائري لاستعادة سيادتها على مصر، وقد حاول كل من إبراهيم بك ومراد بك المقاومة إلا أن قوات حسن باشا الجزائري تمكنت من هزيمتهم وتشتيت قواتهم، وفي الأول من أغسطس/آب من نفس العام تمكن حسن باشا الجزائري من دخول القاهرة وإعادة تنصيب إسماعيل بك والياً على مصر، وأثناء الحملة العثمانية لتأديب المماليك الخارجين على سلطة الدولة العثمانية، انضم يعقوب فام إلى صفوف المماليك أثناء المعركة، والذي سبق أن عمل معهم، وشاركهم القتال والمؤازرة، وقد مكنته هذه المشاركة من أن يتقن فنون القتال والفروسية وحمل السلاح وعمليات المناورة في الحروب.
وفي عام 1791 انتشر المرض الأسود "الطاعون" في أرجاء مصر حتى وصل للقاهرة، فسقطت أعداد كبيرة من الضحايا ومن الذين كانوا ضحايا الطعون إسماعيل بك والي مصر ومعظم أفراد عائلته، وقد استغل إبراهيم بك ومراد بك الفراغ السياسي الذي أعقب انتشار الطاعون فتمكنوا من العودة للحكم من جديد حتى وصول الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت عام 1798.
الجنرال يعقوب فام والحملة الفرنسية
في 19 مايو/أيار 1798 أبحرت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت من ميناء طولون في فرنسا بهدف الاستيلاء على مصر، وقد تألفت الحملة من 35 ألف جندي، تحملهم 300 سفينة ويحرسها أسطول حربي فرنسي مؤلف من 55 سفينة، وقد استولى نابليون بونابرت وهو في طريقه إلى مصر على جزيرة مالطة من فرسان القديس يوحنا الذين كانوا دائمي الإغارة على السواحل العثمانية في شمال إفريقيا.
في 2 يوليو/تموز عام 1798 وصل نابليون بونابرت إلى مدينة الإسكندرية فاستطاع احتلالها بعد مقاومة من جانب أهلها وحاكمها "محمد كريم"، ثم زحف نابليون بونابرت نحو القاهرة فالتقى بقوات مراد بك وهزمهم بقرب منطقة إمبابة، في 21 يوليو/تموز من نفس العام، في معركة أطلق عليها الفرنسيون معركة "الأهرام".
أراد نابليون بونابرت تثبيت حكمه وإدارته لمصر، ولكنه واجه مصاعب في تحقيق ذلك، فلم تكن لديه الدراية الكافية عن إيرادات مصر ومصروفاتها من الضرائب والجباية، لذلك استعان نابليون بونابرت ببعض المسيحيين من كبار التجار والملاك والمسؤولين عن جباية والضرائب، فكان أول من قدم خدماته للفرنسيين المعلم "جرجس الجوهري" ليكون مسؤولاً عن تنظيم الموارد المالية لمصر، وفي المقابل عرض "يعقوب فام" خدماته على المعلم جرجس الجوهري وأبدى استعداده ليكون جندياً مطيعاً تحت تصرف الفرنسيين، فزكاه المعلم جرجس لدى الفرنسيين فوافقوا عليه.
كان لدى يعقوب فام خبرة بطرق الصعيد ومسالكه ووديانه وحتى طريقة تفكير أهل الصعيد بحكم عمله سابقاً في الجباية، وملماً بأوضاع مصر المالية والإدارية والسياسية والعسكرية والاجتماعية، إلى جانب ذلك كان لديه كذلك معرفة بطريقة تفكير المماليك لعمله مع باشاواتهم واشتراكه في الحروب بصفوفهم، لذلك استعان به الجنرال "ديسيه" في إحدى حملاته التي قام بها لإخضاع الصعيد ومطاردة فلول جيش مراد بك، فقام يعقوب فام بتجهيز ما يلزم الحملة من حاجيات وتأمين مواصلاتها وأيضاً مشارك في القتال، بلاؤه الحسن هذا دفع الفرنسيين لتوليته قيادة أحد فصائل الجيش الفرنسي العاملة على القضاء على فلول المماليك في أسيوط، فاستطاع يعقوب فام قيادتها وهزم المماليك حتى تم تكريمه بتقديم تذكار له عبارة عن سيفٍ منقوش على مقبضه: معركة عين القوصية – 24 ديسمبر 1798.
تولى يعقوب فام فيما بعد جمع الضرائب من أهالي الصعيد بقرار من نابليون بونابرت نفسه، فكان يستخدم أعنف الطرق وأبشعها في جباية الضرائب مع أهل الصعيد سواء أكانوا من المسلمين أو المسيحيين، فأطلق عليه أهل الصعيد لقب "حملة الجنرال ديسيه".
حينما عاد يعقوب فام من إحدى حملاته على الصعيد فوجئ باندلاع ثورة القاهرة الأولى في 20 أكتوبر/تشرين الأول 1798، فحول بيته إلى ما يشبه القلعة العسكرية أو غرفة عمليات، وجعل له بوابات محصنة، يقف على كل باب حراس مسلحون ليلاً ونهاراً، وتوافق ذلك مع شروع نابليون في بناء عدد من القلاع الحصينة حول القاهرة، بحيث تحيط مدافعه بالقاهرة كلها، واعتبرت قلعة يعقوب فام واحدة من قلاع الفرنسيين المهمة والمركزية في القاهرة.
وحينما اندلعت ثورة القاهرة الثانية في 20 مارس/آذار 1800 التي انطلقت من حي بولاق واستمرت قرابة شهر حتى اضطر الجنرال كليبر خليفة نابليون بونابرت في مصر لضرب أحياء القاهرة وإحراقها بمدافعه. قام وقتها يعقوب فام بوضع كل خبرته ودرايته وخدماته بين يدي كليبر إلى أن تمكن الأخير من قمع الثورة والقضاء على ثوارها، ولقد منح الجنرال كليبر يعقوب فام رتبة كولونيل لشجاعته أثناء ثورة القاهرة الثانية، وسمح له ببناء فرقة عسكرية من أبناء طائفته تم تدريبهم على أيدي ضباط فرنسيين ليكونوا تحت تصرفه، وتولى يعقوب فام تزويدهم بالسلاح والعتاد اللازم على نفقته الخاصة.
كمكافأة كذلك من كليبر ليعقوب فام جعله كبير جامعي الضرائب في مصر لمعاقبة المصريين على ثورة القاهرة الثانية، فلم يتوانَ يعقوب فام عن استخدم أسوأ الوسائل وأبشعها وأكثرها وحشية لجمع المال، فكان يفرض مبالغ ضخمة على الفلاحين لا يطيقون دفعها، ومن لم يستطع كان رجالات يعقوب فام يضربونه ويحرقون ممتلكاته ويعتدون على عرضه، وقد تعاظمت ثروته وازداد نفوذه بشكل كبير حتى ذكر ذلك الجنرال "بليار" نائب الجنرال مينو في مذكراته عن يعقوب: (ومع أنه كان يعمل لحسابنا فهو لم ينس مصالحه الخاصة).
في عام 1801 زحف الجيش العثماني نحو القاهرة والجيش الإنجليزي نحو رشيد، وتمكنا من حصار الجنرال مينو -الذي تولى منصبه عقب مقتل الجنرال كليبر على يد سليمان الحلبي في الإسكندرية- اضطر مينو أمام وطأة الحصار إلى عقد مفاوضات مع العثمانيين والإنجليز للمغادرة إلى فرنسا، فلم يجد الجنرال يعقوب الذي حصل على رتبة كولونيل بداً من المغادرة مع الحملة الفرنسية إلى فرنسا، فجمع أمواله وكنوزه وأهله وعسكره ليكون مع من سيغادر مع الحملة إلى فرنسا، وركب السفينة الإنجليزية بالاس ليخرج من القاهرة في 10 أغسطس/آب عام 1801م.
أصيب الجنرال يعقوب بالحمى أثناء إبحار السفينة الإنجليزية بالاس في عرض البحر، اشتد عليه المرض ومات في 16 أغسطس/آب عام 1801، وحسبما ذكر الجبرتي في تاريخه والدكتور الصاوي في كتابه كانت آخر كلمات يعقوب وهو يحتضر للجنرال بليار أن يُدفن مع صديقه ديسيه في قبر واحد.
وتذكر بعض الروايات أنه لم يلقِ قبطان السفينة الإنجليزية بالاس بجثة يعقوب إلى البحر كالمعتاد، بل احتفظ بجثته في برميل من الخمر حتى وصلت السفينة إلى مارسيليا وهناك تم دفنه، أما الرواية الثانية عن وفاته، فهي أن الجنرال يعقوب أصيب بعد يومين من ركوبه السفينة الإنجليزية بالاس بالحمي وتوفي على إثر إسهال حاد، وكانت آخر وصية له أن يدفن بجوار صديقه الجنرال ديسيه، ونظراً لعدم توفر سوائل لحفظ الجثث قد تم إلقاء جثمانه في البحر، هكذا كانت نهاية الجنرال يعقوب فام أو المعلم يعقوب حنا.
بعد مغادرة الحملة الفرنسية ميناء الإسكندرية دخلت مصر في حالة من الفوضى نتيجة الصراع على السلطة بين كل من بقايا المماليك في الصعيد، والوالي العثماني خسرو باشا، الذي كان يسعى للتخلص من المماليك، الإنجليز الذين لعبوا دوراً مهماً في طرد الحملة الفرنسية من مصر ويهدفون للاستيلاء على مصر، الشعب المصري الذي استكشف مكامن قوته أثناء ثورتي القاهرة الأولى والثانية بقيادة عمر مكرم.
وفي أتون الصراع تولى محمد علي باشا ولاية مصر العثمانية، بدعم وتأييد من جموع الشعب المصري، التي أرسلت إلى السلطان العثماني تطالبه باستصدار فرمان بتعيين محمد علي باشا والياً على مصر، وهذا ما حصل، وفي عام 1807 حاول الإنجليز غزو مصر بتحالف مع بقايا المماليك، إلا أن قوات محمد علي باشا بالاتحاد مع الشعب المصري تمكنوا من هزيمة الجنرال ألكسندر ماكنزي فريزر، وتبدأ من هنا مرحلة جديدة في تاريخ مصر الحديث.
المصادر
- أحمد حسين الصاوي، المعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة، وزارة الثقافة المصرية، القاهرة، رابط الكتاب:
https://www.noor-book.com/كتاب-المعلم-يعقوب-بين-الاسطورة-والحقيقة-pdf
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.