لم أسمع من قبل اسم مدينة يُسرب الجمال فيها كما حدث لي مع ولاية سينالوا في المكسيك، وبالأخص عاصمتها كولياكان.
لم تعترني أي غُربة وأنا أسمع اسم الولاية المكسيكية ولا اسم عاصمتها، رغم أنها كانت المرة الأولى، لكن إعجابي بها ملأني بكَثير من الودِّ وأفرز لدي رغبة أكثر في فك تحايل الفضول، كي أتعرف على الولاية المثيرة، خاصة أن سينالوا وعاصمتها كوليكان تفتقد الكثير من الكتابات عنها بالعربية.
سينالوا الحُرة ذات السيادة، وهذا هو اسمها في دوائر الحكومة المكسيكية تتربع على عَرش توريد المخدرات في العالم، وخاصة الكوكايين.
حرب الكارتلات، أي العصابات في سينالوا تتمتع بإرث طويل من حيث التكوين والامتداد والثقافة تعود لخمسينيات القرن الماضي، فيما تكونت النواة الأولى للمافيا المكسيكية في السجون الأمريكية من أفراد عصابات ذات أصول إسبانية، ومن ثم تسرب الصراع بينها وبين غيرها من العصابات خارج أسوار السجون.
منصة نتفليكس أبت إلا أن تُغني المشاهد بمحتوى يُصدر سينالوا الحقيقية على الشاشة تاريخاً وحاضراً.
أنتجت المنصة ثلاثة أجزاء عن زعيم كارتل سينالوا أل تشابو وهو اسم أشهر عصابات المكسيك والعالم على وجه الإطلاق في تصدير الكوكايين للسوق الأمريكية والقارات الأخرى.
ومن ثَم أنتجت المنصة مسلسلاً، خاصة باسم "مخدرات المكسيك" بدأت حكايته من مرتفعات سينالوا وصراع العصابات مع الجيش في تصدير وزراعة الحشيش.
لكن الأكثر تصدراً على الإطلاق هو مسلسل "ملكة الجنوب" الذي خَطفني تماماً إلى كوليكان العاصمة، كي أغرق بشكل عميق في الثقافة المكسيكية.
ملكة الجنوب هو عمل فني غير اعتيادي، وسابقة في تاريخ الأعمال التي تتناول صراعات المخدرات والمافيا عموماً فيما أضفت سينالوا الولاية وكوليكان العاصمة خصوصية شديدة التفاصيل على العمل.
العمل مقسم على خمسة أجزاء، عُرض منه على منصة نتفلكس أربعة أجزاء كاملة منه حتى الآن.
بطلة المسلسل وهي الفنانة أليس براغا في دور تيريزا ميندوزا تَخطت المتوقع في أداء شخصية البطولة منذ اللحظة الأولى، التي ظهرت فيها بمدينة كولياكان، حيث كانت تعمل مع عصابات الشوارع في تغيير العملة مروراً بقصة حبها الأول مع طيار خاص لأكبر عصابات المخدرات في سينالوا.
قصة صعودها كارثية التفاصيل مليئة بالكثير من التحديات، خاصة أنها تدير أكبر عصابة مخدرات في نصف الكرة الجنوبي من الأرض، كما أن صناع المسلسل لم يغفلوا عن إبراز تفاصيل مثيرة للتأمل لتتبع الواقع المُر والنضال من أجل النجاة في عالم الجريمة.
العمل الفني الذي عكف على كتابته أحد عشر كاتباً، صاغوا الخطوط الدرامية للشخصيات بحرفية شديدة أثارت لدى المشاهد مزيجاً من الحيرة والإعجاب، والتعاطف والتضامن وكثيراً من التأمل في الأداء والتكامل بين الفنانة أليس براغا وزعيمة الكارتال الناجية تيريزا ميندوزا.
لقد عَمق الكُتاب مشاهد المسلسل بإحساس قوي في إظهار مأساة استغلال البطلة من قبل العصابات في حياة ما دون الحياة من تعذيب واستغلال بدني، جنسي ونفسي وتهديد على مدار الساعة وشعور بالرقابة الصارمة وتفوق القسوة على العدالة، ومن ثم تغلّب فطرة النجاة على الصراعات والمخاطر في قصة صعود ملحمية لتيريزا ميندوزا، كي تصبح من موزعة مخدرات في دالاس الأمريكية تحت إمرة زعيمة عصابة تنحدر من سينالوا إلى زعيمة عصابة كبيرة تنافس زوجها حاكم المدينة وأحد أكبر زعماء العصابات داخل الأراضي المكسيكية.
لكن البطلة تتخطى كل هذه التعقيدات لتدير خط التوريد من سينالوا جنوباً في المكسيسك إلى نيويورك والساحل الشرقي الأمريكي بالكامل في إمبراطورية ممتده قائمة على الأبيض الخالص من مخدر الكوكايين.
صدّر السيناريو كذلك رَحمة البطلة في الأجواء المحيطة بها مع رفيقاتها من موزعي المخدرات وحتى مع أعدائها التي تورطت معهم وكشفتهم ورفضت قتلهم لمجرد القتل أو لتثبيت قواعد العصابات المتمثلة في رفض الخيانة والمثلية الجنسية، واحتقار أعضاء التنظيم من العصابات، وهي قواعد متعارف عليها في الواقع بين العصابات بوجه عام في أمريكا اللاتينية.
تَعرضت البطلة في رحلة صعودها لكثير من التحديات الفاصلة لتضعها في محل اختيار محوري وحساس بين الرحمة والقسوة، والمساعدة والتخلي، والأخلاق والدناءه.
تميّز المسلسل كذلك بالتنوع بين الشخصيات والذي أعطى ثراء غير مسبوق للأحداث، حيث جمع بين العصابات من مختلف الأعراق والثقافات من المكسيك وأمريكا وبوليفيا، امتداداً لعصابات الشرق الأوسط وأوروبا وأضاف خصوصية على أغلب الشخصيات من خلال عادات ومعتقدات وأفكار وهوايات تميز كل صاحب شخصية وجماعته في العمل.
ولقد كان الأبرز على الإطلاق شخصية أل سانتو زعيم العصابة البوليفي الذي كان يتحكم في صناعة أفضل وأنقى أنواع الكوكايين العالمي، وكيف أنه صنع ديناً مستقلاً بنفسه وبأتباعه، وكانت له فلسفته الخاصة وكتابه المقدس ومعبده الخاص.
الدور الذي أداه الفنان الكوبي ستيفين بوير كان عبقرياً ومفعماً بالإحساس، وأداؤه الصوتي كان عظيماً روحانياً، ليظهر كيف تحكم في عصابة مترامية الأطراف عن طريق استغلال دينه الخاص على أتباعه في شكل غير مسبوق على عالم الجريمة تلفزيونياً وسينمائياً.
إيقاع العمل مميز في سرعة تعاقب الأحداث وفك التشابك والربط بينها، بحيث رَبط المشاهد بكافة التفاصيل منذ اللحظة الأولى، فيما كان العامل الأهم هو الغنى غير المسبوق في الأفكار وتعقيد التحديات من حلقة لأخرى بمواقف مبتكرة، دون تكرار أو ملل.
اعتمد العمل على رواية "ملكة الجنوب" للكاتب الإسباني أرتورو بيريز، الذي استوحى روايته من القصة الحقيقية لزعيمة في عالم المخدرات من غواتيمالا، التي أطلقت عليها الصحافة ملكة الجنوب، وتقضي الآن عقوبة في السجون الأمريكية منذ 2014.
إن مسلسل ملكة الجنوب عمل يستحق التتبع لدارسي السيناريو والإخراج، حيث يعد مرجعاً له من الأهمية الكثير من التفاصيل التي تستحق التوقف عندها إخراجياً وعلى مستوى الكتابة الخاصة بالأعمال الدرامية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.