شاعرة ومغنية وعازفة عود مبدعة، حسنة الوجه، ورقيقة المعشر، وسريعة البديهة، لا يضاهيها أحد في لعب الطاولة والشطرنج، فكيف لا يكثُر العشاق من حولها، ويبذل الخلفاء في سبيلها المال الكثير؟ تعالوا نحدثكم عن عريب المأمونية، أبرز شاعرات ومغنيات البلاط العباسي:
عريب المأمونية.. الطفلة التي شرَّدها غضب جدها
نعلم أن عريب المأمونية وُلدت في بغداد، ويقال إن والدها كان الوزير جعفر البرمكي.
إذ تقول الحكاية إن والدتها فاطمة كانت جارية ذات حسن منقطع النظير، عاشت في منزل يحيى البرمكي، الذي كان وزيراً لدى الخليفة هارون الرشيد، ويقال إن جمال فاطمة قد أخذ لب ولده جعفر، الذي راح يراودها عن نفسها وهي تتمنّع.
وكلما تمنّعت فاطمة خوفاً من غضب سيدها زاد جعفر إصراراً حتى تمكّن في نهاية الأمر من إقناعها بالزواج منه، رغم رفض والده لهذا الزواج غير المتكافئ.
لم تسلم فاطمة من غضب يحيى البرمكي بعد أن تزوجت من ولده جعفر، وقيل إنه عذّبها حتى ماتت، بعد أن وضعت مولودة تضاهي البدر في حسنها سمّتها "عريب".
حمل جعفر البرمكي ابنته وسلَّمها لامرأة تعتني بها كي يبقيها بعيدة عن بطش والده، وبقي يتحمل نفقتها ويزورها إلى أن قضى نحبه في مذبحة البرامكة.
وهكذا أصبحت الطفلة بلا معيل، فباعتها المرأة التي كانت تتولى رعايتها إلى رجل يدعى المراكبي سافر بها إلى البصرة.
من سوق الرقيق إلى قصور الخلفاء
كانت البصرة في ذاك الزمان ملجأ للعلماء والشعراء ومحترفي فنون الغناء والعزف، وقد حرص المراكبي أن تنهل عريب الصغيرة من كل أولئك، وتتعلم على أيديهم، خاصة أنه لمس فيها موهبةً نادرةً وصوتاً حسناً وسرعة بديهة تفوقت بها على أقرانها.
سرعان ما ذاع صيت عريب، التي كانت بارعة في نظم الشعر وتأليف الأغاني، والتي امتلكت حنجرة ذهبية وأجادت العزف على الكثير من الآلات الموسيقية كان العود أبرزها.
ووصل خبر الجارية عريب إلى مسامع الخليفة الأمين الذي أمر بشرائها على الفور، وعندما قُتل الأمين عام 813، عادت عريب إلى سيدها البرامكي.
لم تطُل إقامة عريب لدى البرامكي، فسرعان ما اشتراها الخليفة المأمون وبذل في سبيلها الكثير من المال.
ومنذ ذلك الحين لم تغادر عريب قصور الخلفاء، فقد طلبها المعتصم من بعد المأمون، وكان هو من حرَّرها من الرق، مع ذلك استمر الخلفاء من بعده في طلبها إلى مجالسهم وكان آخرهم المعتز بالله.
خلفت لنا ألف أغنية من كتابتها وتلحينها
ظهرت موهبة عريب في العزف والغناء منذ أن كانت في الرابعة عشرة من عمرها، ويقول عنها الأصفهاني في كتابه "الأغاني": "كانت عريب مغنية محسنة، وشاعرة صالحة للشعر، وكانت مليحة الخط والمذهب في الكلام، ونهاية الحسن والجمال والظرف، وحسن الصورة، وجودة الضرب، وإتقان الصنعة والمعرفة بالنغم والأوتار، والرواية للشعر والأدب، وليس لها نظير".
فضلاً عن ذلك أتقنت عريب لعب الطاولة والشطرنج، فجمعت بذلك العديد من المهارات التي جعلت صحبتها ممتعة ومؤنسة، لذلك كانت الجارية المفضلة في مجالس الخلفاء.
ويحكى أنها كانت تنافس الواثق بالله في التأليف الموسيقي، علماً أنه كان أول خليفة مارس الموسيقى والتلحين بشكل علمي، فكان كلما انتهى من تلحين قصيدة من الشعر عرضها على عريب وطلب منها إعادة تلحينها، فكانت تتغلب عليه في الجودة والإتقان والأداء.
وقد تم جمع ألف أغنية من أغانيها، تناقلتها الأجيال من بعدها ولا تزال موجودة إلى يومنا هذا.
أشعارها وعشاقها الكثر
يروى أن عريب فتنت قلوب الخلفاء وكان عشاقها كُثراً لحسنها وظرفها وحلاوة مجلسها.
وقيل إنها كانت المفضلة لدى الخليفة المأمون الذي عُرف عنه ولعه بالأدب والشعر والفنون، حتى إنه تنازل عن وقاره في إحدى المرات ونزل عند قدمها ليقبلها وهي تغني، وبسبب غرامه وولعه بها لقبت بـ"عريب المأمونية".
أما عريب فأصابها العشق أكثر من مرة في حياتها، وكتبت لعشاقها أشعاراً دلت على موهبتها الأدبية، فكانت تعشق رجلاً يدعى محمد بن حامد، وكان العاشقان يتبادلان رسائل الحب والغرام، ولما طلبت منه أن يزورها رد عليها أنه يخشى المأمون فكتبت له:
إذا كنت تحذر ما تحذر … وتزعم أنك لا تجسر
فمالي أقيم على صبوتي … ويوم لقائك لا يقدر
وفي مرة تخاصما فبعثت إليه قائلة:
تبينت عذري فما تعذر … وأبليت جسمي وما تشعر
ألفت السرور وخليتني … ودمعي من العين ما يفتر
فلما قرأ تلك الأبيات، قبل عذرها وأقبل عليها.
وبعد وفاة ابن حامد قيل إن عريب عشقت صالحاً المنذري، وتزوجته سراً -وقد كانت تحررت من الرق في ذلك الوقت- إلا أن الخليفة المتوكل أرسله لحاجة في مكان بعيد، فقالت عريب في ذلك:
أما الحبيب فقد مضى … بالرغم مني لا الرضا
أخطأت في تركي لمن … لم ألق منه عوضا
لبعده عن ناظري … صرت بعيشي غرضا
وبعيداً عن أخبار العشق والغرام كانت عريب حادة الذكاء سريعة البديهة، وفي إحدى المرات خطت إحدى الجواري اسم المتوكل على خدها بالمسك، فأعجب الخليفة بما رآه وطلب من عريب أن تنظم بيت شعر بذلك، فأمسكت عريب عودها وراحت تغني:
لئن أودعت خطاً من المسك خدها فقد أودعت قلبي من الوجد أسطراً