لا تزال تفاعلات نجاح مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في إعادة وصل ما انقطع بين لبنان والمملكة العربية السعودية محل نقاش، في كل الأوساط والصالونات السياسية في لبنان، التي تعكس ارتياحاً لبنانياً عاماً، وارتياحاً على مستوى تعاطي كثير من العواصم العربية والاجنبية وتفاعلها مع الشأن اللبناني.
فقد ذكرت مصادر حكومية لـ"عربي بوست" أن رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي سينطلق في ورشة متعدّدة الوجوه، للبدء في ترجمة ما اتُّفق عليه لتطبيع العلاقات مع السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، واتخاذ كل الإجراءات على كل المستويات، بما يعيد الثقة الخارجية بلبنان، ولا سيما العربية منها، وكذلك بما يمكن لبنان من استعادة ثقته بنفسه.
بالمقابل تشير مصادر سياسية مطلعة لـ"عربي بوست"، إلى أنه يجب قراءة جوهر نتائج زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المملكة العربية السعودية بشكل مختلف، بخصوص ما استطاع الرجل تحقيقه، بتأمين اتصال برئيس الحكومة نجيب ميقاتي، بعد قطيعة طويلة من قبل السعودية للمسؤولين اللبنانيين، وتحديداً من القيادات السّنية، التي هجرتها السعودية منذ انعقاد التسوية بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل في العام 2016.
فالمصدر الدبلوماسي يشكك في قدرة الرئيس نجيب ميقاتي على تنفيذ ما وعد به ماكرون وبن سلمان، وتحديداً ملفات الأمن الإقليمي، الذي لا يمكن لحزب الله التنازل عنه إلا بطلب إيراني، والطلب الإيراني متصل بما يمكن الاتفاق عليه مع الولايات المتحدة.
فيما يُشكك المصدر في قدرة حكومة نجيب ميقاتي على إجراء إصلاحات نتيجة عقلية المحاصصة اللبنانية، التي لا تسمح بإجراء إصلاح ما دامت المؤسسات الوطنية رهينة الأحزاب السياسية.
ومع ذلك يرى المصدر أنه لا يجب الرهان على هذا الاتصال وحده، للحديث أن صفحة جديدة فُتحت بين لبنان والسعودية.
مصالح ماكرون.. الانتخابات الفرنسية والاستثمار وتركيا
ويؤكد المصدر أن حسابات ماكرون مختلفة عن حسابات الجميع، وأهمها حسابات داخلية فرنسية على أبواب الانتخابات.
وثانيها، عقد اتفاقيات استراتيجية مع السعودية ودول الخليج الأخرى، تتعلق بصفقات أسلحة ومشاريع استثمارية في مجالات الطاقة، قد تنعكس إيجاباً في الداخل الفرنسي.
بالإضافة محاولة قوله إنه أنجز تقدماً ونجاحاً في لبنان، تخوفاً من تقدم تركي محتمل.
أضِف إلى هذا السعي الفرنسي المستمر لتثبيت العلاقة بين باريس والرياض، في ظل العلاقة المتوترة بين الرياض وواشنطن، منذ تولي جو بايدن الرئاسة.
هذا التثبيت في العلاقة -وفقاً للمصدر- معطوف على قدرة فرنسية بتطوير العلاقة مع طهران، والسعي لتحقيق الاتفاق النووي بينها وبين الدول الكبرى، وإشراك دول كالسعودية في هذا الاتفاق.
إغراءات ماكرون لـ"بن سلمان"
بالمقابل، يقول المحلل السياسي جوني منير، إن وصول ماكرون إلى السعودية شكّل قدوم أول رئيس غربي إلى السعودية منذ عام 2018، و"هذا لا يشكّل مطلباً كافياً للسعودية".
فوفقاً لمنير، فإن ماكرون قدم مجموعة من الحوافز الفرنسية للجانب الخليجي وهي:
أولاً، التوازن مع إيران، إذ صرّح ماكرون بوضوح أنّه لا يمكن معالجة ملف إيران النووي من دون معالجة ملف استقرار المنطقة، وهو التزام فرنسي كأحد أطراف فريق التفاوض مع إيران، والذي يتمتع بعلاقات جيدة معها.
ثانياً، إعادة طرح التزام فرنسا بإشراك حلفاء في المنطقة وعلى رأسهم السعودية، في محادثات إقليمية حول الملف النووي، وهي فكرة فرنسية كان سبق وطرحتها باريس، لكن جرى وضعها جانباً خشية التأثير سلباً على مسار المفاوضات مع إيران.
ثالثاً، وهو الأهم، تقديم ماكرون وعوداً حول العلاقة مع إدارة جو بايدن. فالرئيس الأمريكي استمر في علاقته مع ولي العهد السعودي، ولكن من بعيد، ولم تنجح الاتصالات في تأمين لقاء بين بايدن ومحمد بن سلمان.
آخر هذه المحاولات حصلت قبل مؤتمر غلاسكو للمناخ، وهو ما تزامن مع انفجار الأزمة السعودية مع لبنان. تردّد يومها أنّ واشنطن كانت تلحّ على القيادة السعودية لتقديم مساعدات عاجلة إلى لبنان، ومالية إلى الجيش اللبناني، الذي يعيش أوقاتاً صعبة وخطرة، لكن السعودية كانت تنتظر في المقابل تحديد موعد بين بايدن وبن سلمان، وهو ما لم يحصل.
هذا الأمر دفع البعض للربط بين الأزمة مع لبنان وإبقاء أبواب بايدن موصدة، والتي أُضيف إليها ملف ارتفاع أسعار النفط ورفض السعودية التدخّل لمنع ذلك رغم ضرره على الوضع الداخلي لبايدن.
إجراءات سبقت التطور اللبناني-السعودي
يؤكد مصدر دبلوماسي أوروبي لـ"عربي بوست"، أن الفريق الدبلوماسي الأمني الذي تولى التحضير لرحلة ماكرون إلى السعودية، وتحديداً باتريك دوريل، مستشار الرئيس الفرنسي وبرنار إيمييه رئيس المخابرات الخارجية، سمع من مسؤولين سعوديين قبيل زيارة ماكرون أنه لا بد من تنازل لبنان قبيل الطلب من السعودية تعديل سياستها تجاه بيروت.
هذا التنازل يبدأ باستقالة الوزير جورج قرداحي، كون الاستقالة هي كلمة السر لنقاش فرنسي- سعودي لملف لبنان.
وبحسب المصدر، سارع المسؤولون الفرنسيون بالتنسيق مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى إجراء اتصالات مع مسؤولين لبنانيين، وشملت الاتصالات قيادة حزب الله (الحاج حسين الخليل المعاون السياسي لنصرالله)، واستكملت باتصال أجراه ماكرون مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، الذي قدم وفقاً للمصدر استقالة قرداحي عبر إعلان حزب الله تفهمه لأي خطوة يفعلها قرداحي بعد أن كان الحزب رافضاً للاستقالة.
بالمقابل يؤكد المصدر أن ماكرون قبيل زيارته للسعودية تشاور مع بابا الفاتيكان، طالباً مساعدته، وضغط بقوة في لبنان لتحقيق استقالة الوزير جورج قرداحي، إذ وضع الورقة في جيبه لتأمين مدخل آمن لمبادرته حيال لبنان.
لكن اللافت -وفق المصدر- أن ولي العهد السعودي، الذي تحدث هاتفياً مع الرئيس ميقاتي للمرة الأولى بصفته الرسمية، لم يوافق على اقتراح ماكرون بزيارة ميقاتي إلى السعودية.
التقدم في الشكل أو المضمون؟
يعتقد المحلل السياسي منير الربيع أن الخطوة الوحيدة التي حققها ماكرون، لبنانياً، مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، هي خطوة شكلية ولكنها ذات أهمية، تتعلق بالاتصال الذي أُجري مع الرئيس نجيب ميقاتي، وهنا بدأ اللبنانيون يراكمون على هذا الاتصال، ويتوقعون تغيّراً وتحسناً في العلاقات.
علماً أن ماكرون طلب من السعوديين، وغيرهم من دول الخليج، إعادة سفرائهم إلى لبنان ووقف التصعيد، لكن ذلك لا يعني أن الأزمة وصلت إلى خواتيمها، ولا يمكن الحديث عن برنامج واضح للخروج منها أو حلّها.
ويعتبر الربيع أن الاتصال السعودي بميقاتي هو "تنازل شكلي"، ولكنه لم يحصل مباشرة من قِبل السعوديين، بل عبر الفرنسيين، ومقابل هذا التنازل الشكلي حصلت السعودية على موقف واضح من ماكرون، بأنها شريكة أساسية في صناعة القرار بالمنطقة، وفي توفير الأمن والاستقرار الإقليمي.
هذا تطور مهم من دولة أوروبية تعتبر من أكثر المتحمسين لمفاوضات فيينا النووية، ولطالما طالبت السعودية بأن تكون شريكاً في المفاوضات حول الاتفاق النووي. وهذا ما أعلنه ماكرون.