جدل كبير صاحَب تصريحات لاعب كرة القدم المصري السابق محمد أبو تريكة، والتي انتقد فيها تخصيص جولتين من الدوري الإنجليزي الممتاز للتضامن مع "المثليين جنسياً". ما بين مؤيدٍ ومُعارض تضاربت المواقف حول رأي أبو تريكة، فمن المؤكد أن إجماعاً لن يحدث في حال فُتحت المناقشة في مثل هذه القضايا أبداً، ومن المؤكد أيضاً أن تصريحات أبو تريكة لو قيلت منذ 50 عاماً فقط لحدث إجماع على تأييده وربّما لتلقَّى تكريماً من ملكة إنجلترا ووضعوا صورته على شعار الدوري الإنجليزي.
بريطانيا والمثليون: إرث الاحتقار
منذ قديم الأزل لم يُبدِ المجتمع البريطاني تقبُّلاً لفكرة المثلية الجنسية، ففي عهد الملك هنري الثامن صدر قانون يحظر المثلية الجنسية بين الذكور عام 1533م، عاقب مرتكبيه بالإعدام. لم يُطبَّق هذا القانون على الأراضي الأوروبية فحسب، وإنما في أنحاء الإمبراطورية البريطانية بالكامل، وهو ما يعني أن "قانون هنري" طُبِّق على ملايين البشر الذين عاشوا داخل حرم الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس.
وبحسب جوزيف أوماهوني في كتابه "الاستعمار البريطاني وتجريم المثلية الجنسية"، فإن التجريم البريطاني الإمبراطوري للمثلية الجنسية لعب دوراً هائلاً في ترسيخ رفض المثلية بأنحاء العالم كافة.
هذا التجريم البريطاني للمثلية تخففت أوزاره قليلاً بصدور قانون عام 1885م، خُفِّف بموجبه العقوبة من الإعدام إلى السجن، لكنه في المقابل توسَّع في تجريم المثلية سواءً كانت في السر أو في العلن أو كانت بالرضا أو قسراً.
يُمكن فهم أجواء إقرار هذا القانون من خلال الدراسة الذي أجراها الباحث ماريون كوستي عن "صورة المثلية الجنسية في بريطانيا العظمى خلال القرن التاسع عشر"، والتي أكد فيها أن المجتمع البريطاني لحظة إقراره كان مُعادياً للمثلية بضراوة؛ فاعتاد استخدام المصطلحات المهينة لوصف المثليين جنسياً، كما كان يُنظر إلى المثلية باعتبارها "رمزاً للانحطاط والسلوك الفاضح الذي يجب السيطرة عليه"، لذا فإن تلك القوانين القمعية كافة كانت محل ترحيب من الناس.
ومن وقتها اعتُبرت المثلية جريمة لا يُمكن التسامح معها في بريطانيا، وعُوقب قرابة 15 ألف رجل بموجب هذا القانون؛ أشهرهم الكاتب المسرحي الشهير أوسكار وايلد (أُدين عام 1895م)، وعبقري الكمبيوتر وبطل الحرب العالمية الثانية آلان تورينغ (أُدين عام 1952م)، إلا أن الأخير خُفِّفت عقوبته، بسبب إسهاماته الكبيرة في فك شيفرة النازيين خلال الحرب.
ومن الغريب أن التشريعات البريطانية رفضت تماماً استهداف الإناث في قوانينها إلا عبر محاولة وحيدة جرت عام 1921م، رفضها مجلس العموم البريطاني بحجة أن الحديث في هذه الأمور سيلفت انتباه نساء بريطانيا إلى المثلية الجنسية.
متى انتهى التجريم؟
عام 1967م، شهد انفراجة حقيقية لأوضاع المثليين في بريطانيا بعدما أُلغي تجريم المثلية. نصَّ القانون الجديد على أن "الفعل المِثلي لا يعتبر جريمة بشرط موافقة الطرفين وأن يكونا قد تجاوز 21 عاماً (جرى تخفيضها لاحقاً إلى 16 عاماً سنة 2001م)".
أتى هذا القانون نتاجاً لجهود السير جون ولفندن وزير الداخلية، الذي عُهد إليه بترؤُّس لجنة بحثت هذا الأمر بدءاً من عام 1954م. انتهى ولفندن من مسوّدة القانون منذ 1957م، لكن الحكومات البريطانية المتعاقبة ظلَّت تتهرّب من إقراره برغم الجهود التي بذلتها جمعيات ضغط مُدافعة عن حقوق المثليين، للتأثير على صانع القرار البريطاني. وفي النهاية أُجيز القانون في عهد حكومة هارولد ويلسون سنة 1966م، بموافقة 101 صوت مقابل 16 معارضاً، وأصبح نافذاً في العام التالي.
ورغم إقرار القانون فإن هذا لم يفتح أبواب "الحرية الجنسية" على مصراعيها أمام المثليين، فالقانون اشترط على المثليين عدم الإعراب عن ميولهم الجنسية علناً في الشوارع، والاكتفاء بالسماح لهم بممارستها داخل المنازل وخلف الأبواب المغلقة.
علاوة على ذلك، لم يُطبَّق في عموم بريطانيا وإنما في إنجلترا وويلز فقط، بينما رفضت أسكتلندا وأيرلندا الشمالية تنفيذه، كما استُثني منه رجال القوات المسلحة الذين ظلَّت ممارستهم للمثلية جريمة حتى عام 2017م.
أيضاً، ظلّت قوى عديدة من المجتمع البريطاني رافضة له واستغلت ثغراته لمواصلة الإيقاع بالمثليين. من ضمن هذه القوى كان جهاز الشرطة، الذي ارتفعت ملاحقاته للمثليين بعد إقرار القانون؛ فوفقاً للأرقام الرسمية أدين 420 رجلاً بـ"المثلية" عام 1966م (قبل القانون)، لكن عام 1974م (بعد القانون) ارتفع عدد المثليين المضبوطين 300%!
مثل هذا "الرفض الأمني" تظهر بعض مظاهره في المجتمع البريطاني حتى الآن، مثلما جرى عام 1998م حين ضبطت الشرطة 7 رجالاً مثليين مارسوا الجنس بالتراضي لكنهم رغم ذلك حُوكموا.
بعدها لم يتوقف الرجال السبعة عن الشكوى من أن ما جرى معهم اختراق لخصوصيتهم وحقوقهم الجنسية فلم تقبل محكمة بريطانية بقضيتهم، وهو ما دفعهم إلى تقديم شكوى أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية. لم تهتم أي حكومة بريطانية بالتدخل في هذه المشكلة إلا منذ عدة سنوات فقط، حين سعت الحكومة لدفع تعويض قدره 15 ألف جنيه إسترليني، للرجال السبعة؛ تجنباً للإحراج أمام المحكمة الأوروبية.
وبخلاف هذا النفور الشرطي والقضائي من تأييد المثلية، تعددت الهجمات الشعبية التي تعرضت لها جمعيات الدفاع عن حقوق المثليين والتي وصلت لدرجة حرق مقرّاتها بالقنابل؛ وهو ما دفع منظمة تُعرف بِاسم "جبهة تحرير المثليين"، إلى تنظيم مسيرات في "هايد بارك" بلندن تُندّد بما يتعرّضون له من هجمات.
كل هذا دفع صحيفة الغارديان إلى اعتبار أن المثلية الجنسية ظلَّت غير قانونية -رغم أنف القانون- حتى عام 1982م. وحتى هذا التاريخ الذي حدّدته الغارديان بدايةً لتقبُّل الإنجليز للمثلية، قد لا يكون دقيقاً تماماً، ففي عام 1988م قررت الحكومة البريطانية شنّ حرب ضروس على المثلية وحظرت أي ترويج للمثلية الجنسية داخل المدارس.
أتى هذا القرار في ظل أجواء من الرعب بسبب انتشار فيروس الإيدز؛ وهو ما دفع الحكومة البريطانية إلى تبنّي خطابات ضد المثلية الجنسية، هذا الموقف عبّرت عنه علناً رئيسة الحكومة مارغريت ثاتشر، التي قالت في خطاب رسمي إنه ليس من حقِّ الناس أن يكونوا مثليين. وفي هذه الأجواء (عام 1989م) أدانت وزارة الداخلية 1718 فرداً مثلياً بتُهمة "الفِعل الفاحش".
ورغم احتجاجات المثليين الكبيرة على قرارات ثاتشر، فإنها لم تُلغَ إلا عام 2003م، واعتذر عنها رئيس الوزراء ديفيد كاميرون سنة 2009م.
السينما والمجلات: "المثلية ضارة بالصحة"
من ناحيتها، التزمت وسائل الإعلام البريطانية التقليدية كالأفلام والصحافة، بموقف متحفظ جداً تجاه المثليين، بداية من فيلم "الضحية" الذي صدر عام 1961م، وتضمّنت أحداثه بطلاً مثلياً. قدّمت السينما البريطانية المثليين عبر تيمة واحدة لا تتغير تقريباً وهي تصويرهم وتصوير حياتهم كمثال للتعاسة والوحدة وأنهم جماعة منبوذة ومضطربة.
في الوقت الذي اتخذت فيه الصحافة البريطانية في الثمانينيات موقفاً أكثر تشدداً، بعدما أصرّت على الربط بين الإيدز والمثلية وأطلقت على المرض اسم "طاعون المثليين"، وعبّرت أكثر من صحيفة عن رفضها لهذه الظاهرة باعتبارها "مخالفة للطبيعة".
أكثر من ذلك بحسب دراسة ماريون- سابقة الذكر- فإن الصحافة البريطانية رسّخت في عقول البريطانيين أن المثليين هم السبب في ظهور المرض؛ لذا نُظر إليهم باعتبارهم تهديداً أجنبياً على السكان الأبرياء، وهو ما تُرجِمَ في صورة "قانون ثاتشر" والهجمات الشعبية الرافضة لهم آنفة الذِّكر.
هذا الموقف الإعلامي انعكس في الرفض الساحق الذي أبداه الرأي العام البريطاني، للمثليين طوال 20 عاماً متتالية والذي لم يشهد ارتفاعاً إلا في العقد الحالي. فوفقاً لاستطلاعات رأي "بي بي سي"، فإن قبول البريطانيين للمثليين بلغ 17% عام 1983م، فيما بلغ 64% عام 2016م.
من أقصى اليمين لأقصى اليسار
مؤخراً تسعى بريطانيا لترسيخ الحقوق المثلية في نظامها السياسي؛ من سنِّ تشريعات مثل "قانون الشراكة المدنية" عام 2004م، إلى منح العلاقة المثلية مكانة قانونية تُكافئ الزواج بين "الغيريين". وفي عام 2006م صدر قانون آخر يُجرِّم حظر التمييز ضد الأشخاص على أساس ميولهم الجنسية.
وشهد عام 2016م زواج قرابة 60 ألف شخص من الجنس نفسه، بحسب التقديرات الرسمية.
كما قرّرت بريطانيا إلغاء أحكام القضاء التي صدرت بحقِّ قرابة 50 ألف شخص أُدينوا بـ"المثلية" من الخمسينيات وحتى عام 2000م.
سريعاً، آتت هذه الجهود أُكُلها، وبحسب دراسة أجرتها جامعة مانشستر عام 2018م، أكدت أن البريطانيين باتوا أكثر تسامحاً مع العلاقات المثلية، وهو ما دفع الدراسة للتوصل إلى أن المجتمع البريطاني بلغ ذروة قبوله للمثليين.
شجَّعت هذه الذروة المثليين على التعبير عن أنفسهم بشكل أكثر انفتاحاً، وفي عام 2019 أعرب قرابة 1.6% من سكان المملكة المتحدة عن ميولهم المثلية.
أيضاً "ذروة الرضا" تلك شجعت الحكومة البريطانية على السعى لتقديم نفسها كمُدافع عالمي عن المثلية، وهو ما تمثَّل في رعايتها إجلاء 29 أفغانيّاً مثليّاً من أفغانستان هذا العام فور سيطرة طالبان عليها.
ومنذ عام 2016م، استجابت الأندية الإنجليزية لمبادرة منظمة "Stonewall"، التي تسعى لترويج عَلم المثليين في المحافل الكبرى كافة؛ لترسيخ معاني أن "المثليين جزء لا يتجزأ من المجتمعات".
وهي خطوة لو تخيَّلنا أن الملك هنري الثامن كان حيّاً بيننا لشمَّر عن ساعديه، وأضاف تغريدة تنتقد المثليين عبر هاشتاغ "#كلنا_أبو_تريكة".
مصادر إضافية
التاريخ الاجتماعي للمثلية الجنسية البريطانية، هيو ديفيد، ص 14
القيم المسيحية البريطانية فيما يتعلق بالمثلية الجنسية، جريس براون، ص5
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.