في خطوة مفاجئة، وفي توقيت حرج، قدّم السلوفاكي يان كوبيتش، المبعوث الأممي إلى ليبيا، استقالته، قبيل أسابيع قليلة من انتخابات رئاسية معقدة، وحبلى بسيناريوهات قد تعيد البلاد إلى المربع الأول من العنف والانقسام.
ولم يقدم كوبيتش أي توضيحات بشأن أسباب استقالته، التي من شأنها تعقيد المشهد الليبي أكثر، لكنها تعكس حجم الخلافات والضغوط بين مختلف الفاعلين الدوليين في هذا الملف الشائك، ما سيكون له تداعيات على الوضع الداخلي في البلاد.
وقد يتسبب هذا الارتباك الأممي والخلافات الدولية والانقسام الداخلي في تأجيل الانتخابات الرئاسية المقررة في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل.
رفض الانتقال إلى طرابلس
إحدى الروايات المتعلقة بأسباب الاستقالة نقلها موقع قناة "فرانس 24"، عن دبلوماسيين تحدثوا عن تحفظ كوبيتش على نقل منصبه من جنيف السويسرية إلى العاصمة الليبية طرابلس.
ويشير الموقع الفرنسي إلى انقسام مجلس الأمن الدولي مؤخراً حول مسألة إعادة تنظيم قيادة البعثة السياسية الأممية إلى ليبيا، "إذ طالب عدد من أعضاء المجلس بنقل منصب المبعوث الأممي من جنيف إلى طرابلس".
وذكر مصدر دبلوماسي أن كوبيتش ربما "يشعر بأنه لا يتمتع بدعم كافً".
بينما يذهب موقع "فورين بوليسي" الأمريكي أبعد وأعمق من ذلك، عندما تحدث عن خلافات بين كوبيتش والأمين العام الأممي أنطونيو غوتيريش، بشأن انحياز الأول لمعسكر حفتر.
ونقل الموقع الأمريكي عن أحد الدبلوماسيين البارزين قوله إن "كوبيتش اشتبك مع غوتيريش، بشأن نهج المنظمة في الانتخابات".
ويوضح الموقع أن كوبيتش "أيّد علناً قانوناً انتخابياً اعتمده مجلس النواب، أحد برلماني ليبي متنافسين، دون الحصول على دعم الفصائل الليبية المعارضة، وهي خطوة يعتقد البعض أنها قيدت مرونة الأمم المتحدة إلى حد كبير".
ويرى "فورين بوليسي" أن دعم كوبيتش لقوانين الانتخابات التي أصدرتها رئاسة مجلس النواب برئاسة عقيلة صالح، "أعطت زخماً للجنرال خليفة حفتر"، الرجل القوي في الشرق الليبي، بعد محاولته الفاشلة للاستيلاء على طرابلس بالقوة.
"لقد تعافوا (ميليشيات حفتر) من الهزيمة الواضحة التي عانوا منها بعد خسارة طرابلس"، بحسب بن فيشمان، المدير السابق لليبيا في مجلس الأمن القومي خلال إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما (2009-2017).
الخلافات الدولية تكشف انحياز كوبيتش
تجلت الخلافات الدولية بشأن ليبيا بشكل صارخ في مؤتمر باريس، الذي عُقد في 12 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، خاصة بين فرنسا وإيطاليا.
حيث دعمت إيطاليا موقف المجلس الأعلى للدولة الليبي (الغرفة الثانية للبرلمان الليبي) المطالب بضرورة التوافق على قوانين الانتخابات مع مجلس النواب قبل إجراء الانتخابات، فيما شددت فرنسا على ضرورة إجراء الانتخابات بالقوانين التي أصدرتها رئاسة مجلس النواب بشكل منفرد.
وموقف يان كوبيتش إزاء هذا الوضع كان مريباً، وبدا منحازاً إلى معسكر حفتر، وحليفه السياسي عقيلة صالح.
وأيّد كوبيتش قوانين الانتخابات الصادرة من أقلية في مجلس النواب وبشكل منفرد دون استشارة المجلس الأعلى للدولة، الذي يعتبر الطرف السياسي الممثل للمنطقة الغربية، وشريك مجلس النواب في العملية السياسية، بل هو بمثابة الغرفة الثانية للبرلمان.
وكانت أول مرة وآخرها يطالب فيها كوبيتش بضرورة إشراك المجلس الأعلى الدولة في إعداد قوانين الانتخابات، في بيان صادر عن البعثة الأممية في 25 يونيو/حزيران الماضي، قبيل اجتماع عقد في روما.
وأشرف عقيلة صالح على اجتماع روما، الذي ضم أعضاء لجنة برلمانية اختارهم لإعداد مشاريع قوانين الانتخابات، وأيضاً عماد السايح، رئيس المفوضية العليا للانتخابات، وكوبيتش.
ويعتبر هذا الاجتماع الذي عُقد بين 26 و29 يونيو/حزيران، حجر الأساس لمخطط استبعاد المجلس الأعلى للدولة، والانفراد بإعداد قوانين الانتخابات التي فُصّلت على مقاس حفتر.
وهذا المشهد جعل كوبيتش متهماً بالتواطؤ مع عقيلة صالح، والسايح، في إعداد قوانين الانتخابات بذلك الشكل "المعيب"، بحسب المجلس الأعلى للدولة.
فمنذ 25 يونيو لم يتحرك كوبيش بشكل جدي لدفع عقيلة صالح لاحترام الاتفاق السياسي، الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة بنفسها، ما وضع عدة علامات استفهام بشأن مدى حيادية المبعوث الأممي.
وهذا التشكيك بحيادية كوبيتش مسّ مصداقية الأمم المتحدة، لدى المنطقة الغربية في ليبيا، ومن شأن ذلك إضعاف دورها كوسيط محايد بين الأطراف الليبية، لصالح قوى أخرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
واشنطن تستعيد المبادرة من الأمم المتحدة
فإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تلقي بثقلها الدبلوماسي بشكل أكبر في الملف الليبي، خاصة بعد تعيين سفيرها ريتشارد نورلاند، مبعوثاً خاصاً لها إلى ليبيا، وتجهيز الكونغرس الأمريكي ترسانة من القوانين والعقوبات لردع المعرقلين للسلام في البلاد.
وسبق لواشنطن أن عرقلت تعيين مبعوث أممي إلى ليبيا بعد استقالة اللبناني غسان سلامة، في مارس/آذار 2020، لإفساح المجال إلى مواطنتها ستيفاني ويليامز، التي تولت المنصب بالنيابة حتى الاتفاق على تعيين كوبيتش في يناير/كانون الثاني 2021.
واستقالة كوبيتش، قبيل شهر من موعد الانتخابات الرئاسية، ستضعف بالتأكيد دور الأمم المتحدة في هذه المرحلة الحرجة، خاصة إذا عرقلت واشنطن مجدداً تعيين مبعوث أممي جديد إلى ليبيا، ما يتيح لها نفوذ ونشاط أوسع في البلاد.
وهذا ما ذهب إليه الإعلامي الليبي موسى تيهو ساي، الذي قال في تدوينة له: "بعد إقالة أو استقالة كوبيتش سنلاحظ في الأيام القادمة دوراً أمريكياً أكثر فاعلية إزاء ملف الانتخابات والمعرقلين وحتى المترشحين".
ويرى تيهو ساي أن "استقالة كوبيتش، المفاجئة في هذا التوقيت بالغ الحساسية، وتزامنها مع جلستين متتاليين لمجلس الأمن حول ليببا، ليست أمراً عادياً، وتفجر أسئلة عديدة عن خلفياتها، أبرزها خلافات دولية حول الانتخابات وموعدها، والتي تسببت في نشوب ما يشبه نزاع بين البعثة (الأممية) ونورلاند، الفترة الماضية".
لكن كوبيتش "سيبقى في منصبه" إلى حين اختيار خليفة له، بحسب المتحدث الأممي ستيفان دوجاريك.
إلا أن كوبيتش أوضح في إحاطته أمام مجلس الأمن، الأربعاء، أنه قدم استقالته في 17 نوفمبر/تشرين الثاني وستصبح سارية منذ 10 ديسمبر/كانون الأول القادم.
ومن المرجح أن يتولى الدبلوماسي الزيمبابوي ريزيدون زينينغا، منسق البعثة الأممية في ليبيا، منصب كوبيتش بالنيابة، بعد 10 ديسمبر، خاصة إذا لم يتوافق أعضاء مجلس الأمن خلال هذه الفترة على أي شخصية جديدة.
ويتم تداول اسم الدبلوماسي البريطاني المخضرم نيكولاس كاي، كخليفة لكوبيتش، في حال إجماع مجلس الأمن عليه.
واقتراح كاي، بهذه السرعة لرئاسة البعثة الأممية في ليبيا، يدل على أن استقالة كوبيتش المفاجئة كانت محل بحث في الغرف المغلقة بالأمم المتحدة منذ فترة ليست بالقصيرة، بل وحتى قبل تقديمها في 17 نوفمبر.
ولا يخلو اختيار كاي، لرئاسة البعثة الأممية من الذكاء، بالنظر إلى تقارب المواقف الأمريكية والبريطانية في الملف الليبي، ما قد يجعل واشنطن تتردد في التحفظ على اسمه.
فشل في مهمة
أكبر فشل سجله كوبيتش، منذ أقل من عام على تعيينه، عدم قدرته على إقناع الأطراف الليبية في اجتماع ملتقى الحوار السياسي الذي اختتم في 2 يوليو/تموز الماضي، على قاعدة دستورية.
ويتجه الليبيون نحو إجراء انتخابات بدون أساس دستوري، وحتى الإعلان الدستوري الذي جرى الاستفتاء عليه في 2012، يتعارض في نصوصه مع قانون انتخابات الرئيس، والتي لم يكلف مجلس النواب نفسه بتعديلها، حتى لا يحصل تضارب بين القوانين.
وإخفاق كوبيتش، في وضع أسس للتوافق بين الليبيين أو حتى اللجوء إلى الانتخاب لحسم الخلافات، من المحتمل أن يكون أحد الأسباب غير الظاهرة لرميه المنشفة قبل أسابيع من الانتخابات.
فانتخابات بدون قاعدة دستورية ولا قوانين متوافق عليها أو حتى تم التصويت عليها بالمعايير الديمقراطية المتعارف عليها من شأنها أن تقود البلاد إلى حرب أهلية أعنف مما سبقها.
وهو ما أشار إلى كوبيتش، في إحاطته أمام مجلس الأمن، عندما تحدث عن وجود "مخاوف من نشوب حرب"، وأشار إلى أن "المعارضين ما زالوا يشككون في القانون الانتخابي"، معتبراً أن "ليبيا ما زالت في مرحلة هشة وتواجه مخاطر واضحة".
إذ إن تحريك قوات حفتر 150 آلية مسلحة من الشرق إلى الجنوب، لردع أي محاولة انشقاق لقواته في الجنوب وانحيازها إلى سيف الإسلام القذافي، يعتبر في حد ذاته خرقاً لاتفاق وقف إطلاق النار، بحسب "عملية بركان الغضب".
وفي هذا السياق، يقول المحلل الاستراتيجي الليبي عادل عبد الكافي، إن كوبيتش "أدرك عدم قدرته على التحكم فى بعض الأطراف (حفتر وعقيلة) التى تحاول إرباك المشهد، من تحشيد وإعادة انتشار عسكري، وشراء أصوات، وعدد لا يحصى من هويات مزورة، للسيطرة على الإرادة الشعبية والتجهيز لما ستفرزه الانتخابات".
ويضيف: "إن كانت لديه نوايا الاستقالة فكان سينتظر لما بعد الانتخابات، وإلا فإنه حكم على نفسه بالفشل في الملف الليبي، وهذا لا يحدث مع أي مبعوث إلا إن كانت هناك أسباب فوق طاقته، أو لا يستطيع تحمّل الخزي والنتيجة التي يعلمها مسبقاً".
ولا تهم استقالة كوبيتش بقدر ما يهم تداعياتها على المشهد الليبي، الذي يتوجه نحو انتخابات تشارك فيها معظم الأسماء الثقيلة في الساحة الليبية، باستثناء خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة، والقوى السياسية والعسكرية التي تقف خلفه.
فمن شأن فوز حفتر بالرئاسة أو فشله أن يفجر أزمة سياسية وأمنية بالبلاد، فحفتر لن يقبل بانتخابات لا تُتَوجُه رئيساً، وكتائب غرب ليبيا لن تقبل به رئيساً على البلاد ولو تم وضعها على لائحة العقوبات الدولية.
والشعب الليبي يَعبُر طريقاً جبلياً ضيقاً ومُهدداً بالانهيار في أي لحظة، واستقالة المبعوث الأممي صخرة أخرى سقطت من هذا الطريق، ما يجعل هذه الرحلة نحو السلام والاستقرار محفوفة بمخاطر جمة.