انهار الرجل باكياً، لا لشيء، إلا لأنه نوقش بسعر قِدر كبير مستعمل كان يعرضه للبيع، فاستغرب المشتري من بكاء الرجل وسأله إن كانت المساومة على السعر تؤذي البائع، فردَّ الرجل الوقور: والله ما آذتني مساومتك أو جدالك، وإنما أبكي على بيعي للقدر الذي كنت أطعم به فقراء حيفا وعمالها الوافدين كل يوم جمعة، وها أنا اليوم أبيع ما كنت أتكرم به على مئات من خلق الله لأسُدّ بثمنه جوعي وجوع أسرتي، هنا دفع الفلاح ثمن القدر كاملاً وانصرف بصمت حاملاً معه القدر وما فيه من هموم.
حدث هذا الموقف في بلدة سبسطية بعد أسابيع من نكبة عام 1948، وكان البائع من عِلية القوم في حيفا، وقد ترك عقاراته وبساتينه فارَّاً بحياته وحياة أسرته من جرائم العصابات الصهيونية، وخيم مع عشرات الأسر بجوار مساكن تلك البلدة شمال مدينة نابلس، وكغيره من اللاجئين حافظ على ما معه من متاع، وكان يحدوه أمل كبير بأن تصدُق وعود الجيوش العربية بإعادته إلى منزله في حيفا في غضون أيام معدودة، ثم بدأ ببيعه قطعة وراء أخرى مع نفاد تدريجي لما ادخره من مال، وانتهى به المقام في أحد مخيمات اللاجئين ليقتات على بطاقة التموين بعد أن كان يطعم الناس ويكرمهم.
أما من عاد بالقدر فبقي يكرر قصة صاحبها الأول كلما استعمله هو أو استعاره أحد من الجيران لوليمة عرس أو مناسبة عامة إلى أن توفاه الله بعد نحو ثلاثة عقود، ولعل دراية السبسطاويين بمدى ازدهار حيفا وعز أهلها قبل النكبة زاد من شعورهم بحجم المأساة التي حلت بها، كيف لا ولا يكاد يخلو بيت في البلدة من رجل أعمال أو تاجر في حاضرة المتوسط وعروسه.
النكسة وعبرة حيفا
كانت البساتين المحيطة بالبلدة زاخرة بمختلف أنواع الخضار والفواكه، فالأودية تلفها من كل جانب، وهي تتبختر على قمة اتخذها البيزنطيون عاصمة لهم لمنعتها الجغرافية التي تعزز حصانتها أمام الغزاة، ولم يمضِ على نكبة حيفا عقدان حتى حلت هزيمة العرب الثانية، ووجد سكان البلدة أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مرّ: الهجرة خوفاً من العصابات الصهيونية، أو الثبات على أرضهم وفي منازلهم رغم المصير المجهول دون غطاء عسكري يدافع عنهم، وتبنى من آل إليه القِدر تحريض الناس على الصمود وأخذ العبرة بما حلَّ بأهل حيفا من قبل.
وبسقوط الضفة الغربية وقطاع غزة فتحت صفحة جديدة من احتلال غاشم، انتهج فيها سياسة حرب طويلة الأمد لاجتثاث من يتمسك من الشعب الفلسطيني بأرضه، فكان الاضطهاد والاعتقالات العشوائية وقمع النشطاء (المحرضين) والتنكيل بعامة الناس، فأخذ صاحب القِدر نصيبه من الاعتقال والتنكيل.
كرم سبسطية القاتل
لم ينكر الجيل الجديد الرازح تحت نير الاحتلال تراجع كثير من العادات والقيم، لكن بعضها متأصل في جيناته، ولعلها أبرز نقاط ضعفه، فالفلاح الفلسطيني لم يتخلَّ عن واجب إكرام الضيف، وإرشاد عابر السبيل حتى لو كانا من أعدائه! وهو ما جعل ضباط المخابرات الإسرائيليين يجوبون القرى الفلسطينية، ويستغلون كل حادثة ليعرفوا كيف يُرضخون شعباً مصراً على الصمود ويتكيف مع واقع الاحتلال.
ذات يوم نشب خلاف بين جارين في سبسطية في ثمانينيات القرن الماضي، وكان أثناء إقامة جدار يفصل بين منزليهما وادعاء كل طرف أن جاره تجاوز حده، فاستدعيا مهندس مساحة ينتمي إلى طائفة السامريين في نابلس لتحديد حدود أرض كل منهما، ورغم أن الشجار كان محتدماً بين الجارين فإنه لم يخلُ من دعابة، وقد صاح أحد الخصمين بالمسّاح ضاحكاً: يا سامري إن الله يقول في القرآن "وأضلهم السامري" فماذا أنت فاعل اليوم؟ فضحك الجميع، وتابع السامري معايناته من خلال المنظار ومطابقتها على الأرض مستعيناً بما لديه من خرائط في سعيه للقول الفصل.
خبث وبراءة
وسط خلاف الجيران (الحدودي) توقفت سيارة غريبة، ونزل منها ضابط المخابرات الإسرائيلي في المنطقة، وتوجه مباشرة إلى أحد المنزلين، فاستقبله صاحب البيت، وانتحل ضابط مخابرات الاحتلال صفة الواعظ والمصلح الاجتماعي، وحل وقت الغداء فأنزل أصحاب البيت سفرتهم العامرة بطبق المسخن الشعبي، وهو خبز بلدي يغرّق ببصل مقلي بزيت الزيتون، يعلوه دجاج مشوي وسماق ولوز، وإلى جانب الطبق تنتشر صحون صغيرة من لبن طازج ومخلل الزيتون وغيرهما من المقبلات، ثم نزلت أطباق من فواكه مختلفة.
ظهرت على ضابط المخابرات علامات المفاجأة من سرعة تجهيز المائدة وتنوعها في بيت متواضع، فسأل إن كان في البلدة مطعم يقدم مثل هذه الوجبات، فأجاب صاحب المنزل بأنه لا يوجد مطعم ولم يعتادوا الأكل من المطاعم، وبخبث استطرد الضابط بأسئلته عن تجهيزات المائدة، والمضيف يجيب ببراءة، ويوضح أن جميع مستلزمات الأكل متوفرة في المنزل، من خبز ودجاج وزيت وفواكه، فعلق ضابط المخابرات بقوله: إذا استمر الحال على ما هو عليه فإنكم سوف تنتصرون علينا بالتأكيد، وأضاف أن مائدة مثل التي فرشت له تكلفه في تل أبيب نحو ألف دولار، وصاحب البيت الفلسطيني لم يضطر للخروج من المنزل ليجلب شيئاً منها.
كان المشمش والبرقوق والخوخ أبرز المنتجات التي اشتهرت بها البلدة، وما حدث في العام التالي لاستقصاء ضابط المخابرات عن مداخيل الناس ونمط حياتهم أن فرضت سلطات الاحتلال حصاراً اقتصادياً على البلدة وعلى عموم المناطق المحتلة، فمنعت دخول الفواكه منها إلى منطقة 48 (إسرائيل)، ثم منعت تصديرها إلى الدول العربية، ووسعت التضييق على المنتجات الزراعية تدريجياً إلى أن أصبح ثمن البضاعة لا يفي بتكلفة نقلها إلى السوق، وانتهى الأمر بالفلاحين أن يفضلوا ترك الثمار على الأشجار بدل بيعها بخسارة، فأهملت الأشجار والبساتين، ولم تمضِ عدة سنوات حتى أصبحت الفواكه التي عرفت بها البلدة نادرة فيها.
أقامت إسرائيل مستوطنة شافي شومرون على أراضي القرية، وكانت من أوائل المستوطنات التي تقام في الضفة الغربية، وقاسمت أهل سبسطية والقرى المجاورة عين الماء التي يشربون منها، فتقلصت المياه عليهم وغرق المستوطنون بمسابحهم، ولم يعد هناك زراعة تقوم على الري.
وكما خسرت حيفا حضارتها العربية وازدهارها غداة النكبة وتحولت إلى ميناء إسرائيلي، لم تعد سبسطية بلد المشمش والبرقوق، بل إن تقسيمات اتفاقية أوسلو، أبقت آثارها الرومانية والبيزنطية تحت الإدارة الإسرائيلية، وأصبح هم قدر الكرم والجود هو هم حيفا وسبسطية معاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.