تحولت أوروبا مرة أخرى إلى بؤرة وباء كورونا رغم تمتع القارة العجوز بمعدلات تطعيم مرتفعة، فهل تتبنى سياسة اللقاح الإجباري لجميع مواطنيها؟ وماذا تعني تلك السياسة؟
تسببت عودة وباء كورونا إلى أوروبا في موجة رابعة عنيفة خلال الأسابيع القليلة الماضية في حالة من القلق الشديد حول العالم، خصوصاً أن القارة العجوز تعتبر من أكثر مناطق العالم نجاحاً في حملات التطعيم ضد الفيروس القاتل.
والسبت 20 نوفمبر/تشرين الثاني، أصبحت هولندا أول دولة في أوروبا الغربية تعيد إجراءات الإغلاق الجزئي في البلاد لمواجهة الموجة الجديدة من الفيروس القاتل، بينما بدأت هولندا الإثنين 22 نوفمبر/تشرين الثاني إغلاقاً كاملاً على مستوى البلاد، مما تسبب في حالة من الغضب كون الإجراء غير مقبول.
لكن الإغلاق التام، الذي فرضته النمسا على مواطنيها للمرة الرابعة لمكافحة فيروس كورونا، ليس الإجراء الوحيد الذي أعلنت عنه، إذ قالت الحكومة النمساوية إنها ستطبق "إلزامية اللقاح" في البلاد مع بداية فبراير/شباط المقبل.
عودة الإغلاق التام في النمسا
قرار الإغلاق العام الذي فرضته النمسا في أنحاء البلاد يمثل المرة الأولى التي يتم فيها فرض هذا الإجراء القاسي منذ بدء حملات التطعيم على نطاق واسع في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي.
وقالت الحكومة النمساوية إن معظم الأماكن التي يتجمع فيها الناس مثل المطاعم والحانات لن تفتح أبوابها لمدة عشرة أيام مبدئياً، وربما لمدة 20 يوماً. وأغلقت أسواق عيد الميلاد أبوابها أيضاً بعد أن كانت قد فتحت للتو، بحسب رويترز.
وأغلقت الفنادق أبوابها أمام النزلاء الذين لم يكونوا فيها وقت سريان الإغلاق العام، وقالت إيريتا، وهي محامية تبلغ من العمر 42 عاماً، لرويترز بينما كانت في طريقها إلى العمل في وسط فيينا: "حقاً تعبت من هذه الإغلاقات".
ويلقي القرار النمساوي مزيداً من الضوء على عودة أوروبا لتمثل بؤرة جديدة لوباء كورونا، إذ تسجل منذ أسبوعين أكثر من نصف الإصابات حول العالم، ونحو نصف الوفيات أيضاً، وهو أعلى مستوى منذ أبريل/نيسان من العام الماضي عندما اجتاح الفيروس إيطاليا لأول مرة.
ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، ارتفعت الإصابات بفيروس كورونا في القارة بنسبة 7% والوفيات بنسبة 10% خلال الأسبوع الماضي، وهو ما يجعلها المنطقة الوحيدة في العالم التي ترتفع فيها حالات الإصابة والوفيات باطراد. وقالت منظمة الصحة العالمية إن ما يقرب من ثلثي الإصابات الجديدة- نحو 1.9 مليون- موجودة في أوروبا، حيث شهدت عدة دولٍ موجات رابعة أو خامسة.
وأظهرت بيانات معهد روبرت كوخ للأمراض المعدية الإثنين 22 نوفمبر/تشرين الثاني ارتفاع عدد الإصابات المؤكدة بفيروس كورونا في ألمانيا إلى خمسة ملايين و385585 حالة بعد تسجيل 30643 إصابة جديدة، كما أشارت البيانات إلى ارتفاع إجمالي عدد الوفيات إلى 99124 بعد تسجيل 62 وفاة جديدة.
وتفيد التقارير في ألمانيا أن الحكومة تدرس حالياً السير على خطى جارتها النمسا، في ظل تلك الارتفاعات المطردة في الإصابات الجديدة والوفيات أيضاً في البلاد، مما تسبب في زيادة الضغط على المستشفيات والمنشآت الصحية.
هل تتخذ ألمانيا قرار اللقاح الإجباري؟
قبل أيام كان المركز الأوروبي لمكافحة الأمراض السارية والوقاية منها قد نبه إلى أن الوضع الوبائي العام في البلدان الأوروبية يبعث على القلق الشديد نتيجة عودة كورونا إلى أوروبا الذي يتمثل في الارتفاع السريع في عدد الإصابات اليومية الجديدة والازدياد المطرد في عدد الوفيات.
تقديرات خبراء المركز للمشهد الوبائي في البلدان الأعضاء، التي تستند إلى معدل موحد يحتسب على أساس المؤشرات الوبائية على مدى خمسة أسابيع، أظهرت أن ثمة 10 بلدان؛ هي بلجيكا وبلغاريا وكرواتيا وتشيكيا وإستونيا واليونان والمجر وهولندا وبولندا وسلوفينيا، يشكل فيها المشهد الوبائي مصدراً للقلق الشديد، وأن 13 أخرى هي النمسا والدنمارك وفنلندا وألمانيا وأيسلندا وأيرلندا ولاتفيا وليتوانيا ولوكسمبورغ والنرويج ورومانيا وسلوفاكيا يستدعي الوضع الوبائي فيها القلق، حسبما ورد في تقرير نشر في صحيفة الشرق الأوسط السعودية.
وفي ألمانيا، التي تعاني من ارتفاع غير مسبوق في إصابات كورونا، بدأت التساؤلات بشأن إلزامية اللقاح تتخذ حيزاً كبيراً من النقاشات في البلاد، بحسب تقرير لموقع دويتش فيله.
ولا يزال النقاش محتدماً بين القوى السياسية حول الإجراءات التي لا بدّ من اتخاذها في ظل هذا الوضع، لكن الحديث عن إغلاق جديد يبدو محتشماً حتى الآن، باستثناء هيئة الأطباء الألمان التي طالبت "بإجراءات أكثر حزماً" لكسر الموجة الرابعة.
وكانت الآمال معلقة على اجتياز المرحلة الحرجة من الوباء بتلقي أكثر من 70% من السكان للقاح المضاد لفيروس كورونا المستجد، لكن الإصابات عاودت ارتفاعها مع بداية الخريف بشكل غير مسبوق.
لكن بعد الإغلاق الشامل واتخاذ قرار إلزامية التطعيم في النمسا، انتقل الأمر إلى قضية في النقاشات العامة بألمانيا. ولم يستبعد مفوض الحكومة لشؤون السياحة بأن تفرض برلين إلزامية التطعيم.
وقال توماس بارايس المفوض لدى الحكومة الحالية لتسيير الأعمال في ألمانيا، لوكالة الأنباء الألمانية إن وضع تفشي الفيروس الذي يزداد احتداماً بصورة مستمرة يجعل من الواضح أنه لا يمكن تجنب فرض إلزام تلقي اللقاح عاجلاً أو آجلاً، وأضاف: "بتأمل الماضي كان خطأ عدم رؤية ذلك من البداية".
وقال بارايس: "بالنسبة لي لم يعد ممكناً سياسياً تحمل مسؤولية أن قطاعات بأكملها وتجار تجزئة ومشغلي مطاعم وحانات وقطاع دور العرض السينمائي وأوساطاً ثقافية ومنظمي فعاليات يعيشون لمدة 20 شهراً في حالة طوارئ تفرضها الحكومة ويواجهون مخاوف وجودية كبيرة، بينما يتمتع آخرون بحرية عدم تلقي اللقاح".
وأشار إلى أنه تسنى حتى الآن إنقاذ كثير من رواد الأعمال من خلال إجراءات تاريخية وضخ أموال كثيرة، ولكن "ذلك لن يستمر دائماً"، بحسب سكاي نيوز.
وبحسب استطلاع رأي تم إجراؤه بتكليف من صحيفة "بيلد أم زونتاغ" الألمانية الأسبوعية ونشرته في عددها الصادر الأحد، يرحب 52% من الألمان بفرض إلزام عام بتلقي لقاح كورونا، فيما عارض 42% ذلك، وأحجم 7% عن الإدلاء برأيهم أو لم يحسموا أمرهم. وتشير تلك النتائج المتقاربة إلى مدى احتدام الجدل بشأن إلزامية اللقاح.
ما وجهة نظر الرافضين للقاح؟
ربما يبدو قرار إجبار جميع المواطنين على تلقي لقاحات كورونا منطقياً في ظل عودة التفشي السريع للفيروس، خصوصاً سلالة دلتا الهندية الأكثر فتكاً والأسرع انتشاراً، لكن التيار الرافض للقاحات ينظر إلى الأمر من زوايا مختلفة أبرزها الحرية الشخصية والتأثر بنظريات المؤامرة.
ويقود اليمين المتطرف حول العالم تيار الرافضين للقاحات كورونا، وهذا ما يفسر سبب وجود الكتلة الأبرز من ذلك التيار في أوروبا ثم الولايات المتحدة، بحسب المراقبين.
وكان ماركو واندرويتز المفوض الحكومي الخاص لألمانيا الشرقية قد أشار إلى تلك النقطة، بقوله قبل أيام إن الإحجام عن تلقي اللقاح قد يكون له بُعد سياسي في مسقط رأسه ساكسونيا، معقل اليمين المتطرف "البديل من أجل ألمانيا". وقال واندرويتز: "توجد صلة واضحة بين دعم حزب البديل من أجل ألمانيا ورفض اللقاحات". وفي النمسا، يؤيد حزب الحرية اليميني المتطرف (FPÖ) أيضاً الآراء المعادية للقاح بحماسة أكبر.
ونشر موقع أسترالي مقالاً عنوانه "الفصل العنصري واللقاحات" ناقش الجدل المتعلق بإلزامية لقاحات كورونا، وكيف أن هذا الانقسام يهدِّد بتحويل القضية الصحية إلى سبب مباشر لتعميق الانقسام في المجتمع ووصوله إلى حالة أشبه بالفصل العنصري الذي مارسه النظام الأبيض في جنوب إفريقيا قبل عقود.
ورصد التقرير الذي نشره موقع Stay At Home Mum الأسترالي كيف أن أي شخص يتابع فيسبوك خلال الأشهر الـ18 الماضية، سيلاحظ الانقسام الهائل بين من يختارون التطعيم ومن يختارون تجنبه. بل قد تشاهد أصدقاء عُمر يُقدمون فجأة على "إلغاء صداقة وحظر" بعضهم على فيسبوك بسبب موقفهم من اللقاحات.
وخلق الجدل حول التطعيم انقساماً هائلاً في الرأي العام، وهذا الانقسام يتسع كل يوم، خاصة الآن والحكومة تُملي ما بإمكان من تلقوا التطعيم فعله، وما ليس بإمكان من لم يتلقوه فعله.
ويرى بعض الخبراء أن الحل للمعضلة يتمثل في إفساح المجال للأشخاص البالغين لاختيار ما يعتقدون أنه الأفضل لهم ولعائلاتهم. ولا يتعلق الأمر بأن تكون داعماً أو مناهضاً للقاح، لأن لكل فرد الحق في اختيار ما يدخل في جسده.
يخبرنا التاريخ أن الحكومة حين تضع اللوائح لا تتراجع عنها أبداً، ويتعين علينا أن نتعامل بحذر مع السيطرة التي نمنحها للحكومة على صحتنا واقتصادنا وحرياتنا وحقوقنا الإنسانية، بحسب الموقع الأسترالي.
والمؤكد أن لكل اختيار تداعياته، فاختيار الشخص ألا يتلقى اللقاح قد يعني زيادة أعداد الأشخاص المصابين بكوفيد في المستشفيات، وهذا بدوره يعني زيادة العبء على الطاقم الطبي؛ وقد يعني أن الأشخاص الذين لم يتلقوا التطعيم قد ينشرون كوفيد.
لكن بعض الرافضين للقاحات يرون أن إلزامهم بالتطعيم أمر مقيت لأنه ينتزع حق الناس في الاختيار. وعلى كل طرف أن يتعايش مع هذه الحقيقة. فلا ينبغي أن تحدد حالة التطعيم مكان عملك وطريقة عملك وأين تأكل وماذا تفعل. فهذا يزيد من الانقسام بين السكان.