أحياناً تُكتشف الجثة بسبب عدم الرد على طَرق الباب من صديقٍ أو قريب، وأحياناً يكون السبب عدم سداد فاتورة غاز أو مياه، لكن أولى علامات المأساة بالنسبة للياباني كينجي كونو كانت الرائحة. إذ بدأ جيرانه في البناية السكنية التي يعيش بها شمال أوساكا في الشكوى من انبعاث رائحةٍ كريهة. وحين فحص مسؤول البناية الأنابيب بحثاً عن أي انسداد أو طيور نافقة، لم يجد شيئاً، كما تروي ذلك صحيفة The Times البريطانية.
بينما قال نوريوكي كاميساوا (31 عاماً)، وهو يقف أمام باب الشقة، للصحيفة: "لقد طرقوا جميع الأبواب، وكان هو الوحيد الذي لم يفتح. فدخلت الشرطة وعثرت عليه. لم تكن هناك نفغات (يرقات مجنحة) في هذه الحالة، بل الكثير من الدرقيات (خنافس الدفن)". ثم فتح الباب لتهبّ من ورائه رائحةٌ قوية، عفنة، تبعث على الغثيان لتملأ الأجواء".
حيث مات كونو (65 عاماً)، الأعزب الذي يعيش بمفرده، ميتةً هادئة بسبب ضربة شمس في يوليو/تموز. ولم تُكتشف جثته حتى أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه. والآن، بعد أن حضرت الشرطة مع مسؤول البناية وتعاملوا مع رفاته، يأتي دور كاميساوا لتنفيذ المهمة الأخيرة: تنظيف المكان ببراعة، وإزالة الروائح الكريهة، وتحويل الشقة التي شهدت ميتةً حزينة إلى شقةٍ جديدة. وهذا ما يسمى التنظيف بعد "الكودوكوشي"، وهو مجال أعمالٍ مزدهرٌ في اليابان.
التنظيف بعد موت الوحدة يزدهر في اليابان
تقول الصحيفة البريطانية التي سلطت الضوء على هذه الظاهرة المتنامية في اليابان، إن "كونو" مجرد مثال على ما يُعرف في اللغة اليابانية باسم "الكودوكوشي"، أو موت الوحدة، الذي يُعتبر من سمات مجتمعٍ حضري متقدم في العمر يشهد زيادةً بأعداد الناس الذين يعيشون ويموتون بمفردهم دون أن يلحظ أحد، ويظلون غرباء حتى عن أقرب جيرانهم. وقد تفاقمت الظاهرة كثيراً بسبب الجائحة، التي قللت التواصل أكثر حتى بين أقرب الناس في الماضي.
ولهذا يقع الأمر على عاتق كاميساوا وفريقه المكون من أربعة أفراد، ليرتدوا السترات والأقنعة والقفازات الواقية، ويدخلوا الغرفة الفردية التي استأجرها كونو مقابل 444 دولاراً في الشهر. ويضمن الفريق لعملائه أنهم لن يتركوا وراءهم نفحة رائحةٍ كريهة أو أثراً لبقعة بعد رحيلهم، حتى وإن اضطروا إلى اقتلاع بلاط الأرض وإعادة ترتيب الأسمنت.
100 حالةٍ كل شهر والصناعة مربحة
تتراوح تكلفة الخدمة بين 1748 دولاراً و6.991 دولاراً، حسب حجم العقار ووزن الجثة والفترة التي قضاها المتوفى منذ أن فارق الحياة. إذ أوضح كاميساوا: "بعد مضي ثلاثة أشهر، يُصبح الجسد شبه سائل. ويزيد حجم السوائل أكثر إذا كان المتوفي ضخم الجثة. ويمكن أن يصل الأمر إلى تغطية الأرضية بخمسة سنتيمترات من الدهون".
قبل سنوات قليلة، كانت شركة Kansai Clean Service التي يعمل بها كاميساوا تتعامل مع قليل من هذه الحالات. لكنه يقول إن الشركة تستقبل في وقتنا الحالي قرابة 100 حالة كل شهر. وخُمس الحالات تقريباً حالات انتحار، حيث قال إن أكثر الأشياء المزعجة في وظيفته هي حين يعثر على مذكرات انتحار لم تنتبه إليها الشرطة. أما بقية الحالات فهي لأشخاص منعزلين لدرجة أن أحداً لم يفتقدهم لمدة شهور طويلة في بعض الحالات.
وليست هناك إحصاءات قومية أو تعريف متفق عليه للكودوكوشي، لكن الحكومة أحصت نحو 5.500 حالة وفاة من هذا النوع في وسط طوكيو عام 2018، بزيادة بلغت 16% على العام الذي سبقه، وكل هذا قبل تفشي الجائحة.
ويرجع ذلك جزئياً إلى طول أعمار السكان بشدة في اليابان، حيث يعيش الناس فترة طويلة بعد المعاش، وأحياناً تتلاشى التفاعلات الناتجة عن مكان العمل وفرص التبادل الإنساني تماماً بالنسبة لهم. كما يبدو أن مشكلة في ثقافة الشركات اليابانية، بساعات عملها الطويلة، تُصعّب على الناس خلق حياةٍ لأنفسهم بعيداً عن العمل.
المُسنّون في اليابان لا يجدون من يساندهم
وجد بحثٌ حكومي ياباني أُجرِيَ عام 2015، أن 16% ممن تجاوزوا الستين عاماً يشعرون بأنهم لا يملكون شخصاً يلجأون إليه عند الحاجة، مقارنةً بنسبة 13% بالولايات المتحدة و6% في ألمانيا.
وفي عام 2005، وجدت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن اليابان تمتلك أعلى نسبة من الرجال الذين "نادراً ما يقضون وقتاً مع الأصدقاء والزملاء وغيرهم من الجماعات الاجتماعية، أو لا يقضون وقتاً مع أحد على الإطلاق"، بنسبة 17%.
كما تزيد أعداد الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم كـ"عُزاب مدى الحياة". إذ تُشير التوقعات إلى أنّ خُمسَي المنازل سيقطنها شخص واحد فقط بحلول عام 2040. ويبدو أن كل هذه العوامل كان لها دورها في حالة كونو، الذي عاش بمفرده طوال حياته وكان يفتقر إلى التواصل الاجتماعي.
وليست هناك حلول واضحة أو سريعة. لكن الأفكار المطروحة للتعامل مع المشكلة تشمل زيادة زيارات العاملين في الخدمة الاجتماعية لكبار السن، وتوفير أجهزة رقمية يرتديها الناس حول أعناقهم مع زرٍ للضغط عليه إذا مرضوا فجأة.
الرقمنة وموت الوحدة في اليابان
ومن المفارقات أن كاميساوا على قناعة بأنّ الرقمنة كان لها دورها في هذه الظاهرة، حيث قال: "في الماضي كان الجميع يقرأون الصحف، وإذا لم تلتقط صحيفتك من صندوق البريد فسيعلم الجيران أن هناك خطباً ما. لكن الجميع الآن يقرأون عبر الشاشات".
ويقضي كاميساوا وفريقه وقتاً طويلاً في تعبئة الملابس وأكوام الورق القديمة، وإزالة المراتب المتسخة، وتنظيف البقع على خشب الأرضيات. كما يستخدمون جهاز ترطيب صناعي في غمر الغرفة بمواد كيميائية للتعقيم وإزالة الروائح. لكنهم يستهلون العمل في البداية بإشعال البخور والدعاء لروح الرجل الذي سيزيلون آخر آثاره على الأرض.
حيث قال كاميساوا: "حين بدأت هذا العمل، كنت أشعر بالانزعاج قليلاً. لكنها وظيفتنا. حتى عائلته لا تريد رؤية المشهد. لهذا نغلق المكان الذي فارق فيه الحياة، ونفرغه تماماً احتراماً للميت".