تفاصيل صادمة تتكشف عن دور بيلاروسيا في أزمة المهاجرين التي تتفاقم على حدود الاتحاد الأوروبي ولاسيما بولندا.
وأصبح تدفق المهاجرين المفاجئ من الشرق الأوسط إلى بيلاروسيا مؤخراً محور أزمةٍ سياسية جديدة في أوروبا، تتهم الدول الأوروبية بيلاروسيا بتعمد جذب مهاجري الشرق الأوسط لمعاقبة الاتحاد الأوروبي وابتزازه، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
اندلعت آخر الأزمات على حدود بولندا مع بيلاروسيا، ويقول المسؤولون الأوروبيون إن لوكاشينكو يُنظم تدفق آلاف المهاجرين إلى حدود الاتحاد الأوروبي، انتقاماً من العقوبات التي فرضتها الكتلة الغربية على بيلاروسيا، بسبب
وكانت نقطة الاشتعال في بولندا، الدولة الأوروبية التي تحكمها حكومةٌ يمينية مناهضة للهجرة، إذ احتشدت دول الاتحاد الأوروبي حول بولندا بالتزامن مع وصول آلاف المهاجرين إلى حدودها وتخييمهم في البرد. وقال مسؤولون غربيون إنّ أهداف لوكاشينكو تشمل بث روح الانقسام بين الدول الأوروبية بخلق أزمة مهاجرين.
وكانت العلاقات بين بيلاروسيا والاتحاد الأوروبي قد توترت بشدة، عندما أرسل لوكاشينكو في مايو/أيار الماضي مقاتلةً حربية لاعتراض رحلة خطوط طيران Ryanair الأيرلندية التي كانت تمر فوق المجال الجوي لبلاده، وأمرت المقاتلة طائرة الركاب بالهبوط في العاصمة مينسك، لاعتقال الصحفي المعارض البارز رومان بروتاسيفيتش (26 عاماً)، الذي كان على متن الطائرة.
دور بيلاروسيا في أزمة المهاجرين
خففت حكومة بيلاروسيا قواعد التأشيرات في أغسطس/آب بحسب وكلاء سفر عراقيين، لتصير الرحلة عبرها إلى أوروبا أكثر سهولة من الرحلة البحرية الأكثر خطورة من تركيا إلى اليونان. كما أعطت قوات الأمن البيلاروسية توجيهاتها للمهاجرين حول طريقة العبور إلى دول الاتحاد الأوروبي، وسلّموهم بعض الأدوات الحادة والفؤوس لقطع الأسلاك الحدودية واجتيازها.
وقد وصف زعماء أوروبا هذه الخطوات بأنها مؤامرةٌ سخيفة لتحويل المهاجرين إلى سلاح من أجل معاقبة أوروبا، حيث تسبّبت تلك الخطوات في فتح الباب أمام العديد من الأشخاص اليائسين من أجل الفرار من منطقةٍ تُعاني عدم الاستقرار وارتفاع البطالة.
السليمانية بشمال العراق تتحول إلى ميناء للمغادرة والعائلات ترهن بيوتها
وتسبّب هذا المد البشري في تحويل السليمانية بإقليم كردستان العراق إلى ميناء مغادرة مزدحم بالمهاجرين، المتحمسين للانطلاق في رحلة محفوفة بالمخاطر من أجل فرصة حياةٍ أفضل في أوروبا.
وبعد انتشار الأنباء على الشبكات الاجتماعية عن توفير طريق إلى أوروبا يمر عبر بيلاروسيا، تضاعفت أعداد المهاجرين بشكلٍ كبير. مما حوّل أحد مراكز التسوق في مدينة مينسك إلى نقطة انطلاق محتملة لأزمةٍ عالمية جديدة.
حيث تجتمع مجموعات من الأشخاص مع أمتعتهم في نفس المكان بالعاصمة البيلاروسية كل يوم وسط درجات حرارة منخفضة، وذلك من أجل الاستعداد لرحلاتهم نحو الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي. وغالبيتهم وصلوا إلى هنا هرباً من الفقر أو الصراعات في الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا.
إذ قال أوشو (27 عاماً)، وهو كردي من العراق يريد أن يصبح مهندساً، إنّه يتمنى أن يبدأ حياةً جديدة مع زوجته سوز (26 عاماً) في ألمانيا، حيث شهد مسقط رأسهم في جلولة العديد من المعارك العنيفة بين القوات الكردية وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، حسبما نقلت عنه صحيفة The Times البريطانية.
وأردف أوشو: "لقد دمّر الإرهابيون مدينتي ومات جميع أصدقائي. لا نستطيع العودة، ولا يمكننا البقاء في مينسك. ليس أمامنا خيار سوى عبور الحدود".
وصرّح ملا رواز، وكيل السفر في السليمانية، قائلاً إنه كان يبيع نحو 100 باقة سفر إلى بيلاروسيا أسبوعياً. وتشمل الباقة تذاكر السفر عبر دولةٍ ثالثة، وترتيبات الإقامة أثناء العبور، وتأشيرة بيلاروسيا.
ومع رهن العائلات العراقية الصغيرة منازلها من أجل جمع المال اللازم للرحلة، تتزايد الأدلة على أن لوكاشينكو هو المسؤول عن تخطيط عمليات الهجرة لخلق أزمة داخل الاتحاد الأوروبي.
زيادة عدد رحلات الطيران ورجال الشرطة يزودون المهاجرين بآلات لقطع السياج
أحد الأدلة على دور بيلاروسيا في أزمة المهاجرين هو زيادة شركة الطيران الحكومية البيلاروسية Belavia عدد رحلاتها من الشرق الأوسط إلى مينسك، بحسب مسؤولين أوروبيين. كما سهّلت السلطات البيلاروسية إصدار التأشيرات عبر وكالة السفر الحكومية Tsentrkurort، وفقاً لوزارة الخارجية الليتوانية.
وتم تسكين المهاجرين الذين وصلوا إلى مينسك داخل ثلاثة فنادق حكومية، بحسب وزير دفاع لاتفيا آرتيس بابريكس. إذ قال بابريكس إنّ عملاء المخابرات البيلاروسية شاركوا في نقل المهاجرين إلى الحدود باستخدام حافلات عسكرية.
بينما قال العديد من المهاجرين العراقيين إن قوات الأمن البيلاروسية أعطتهم أدوات حادة لمساعدتهم على اجتياز السياج الحدودي.
رجال الشرطة يرشدون المهاجرين إلى حدود دولة أوروبية أخرى
في يوم الجمعة 12 نوفمبر/تشرين الثاني، كانت هناك مجموعات من الرجال البيلاروسيين في ملابس مدنية أمام مركز تسوّق Galleria بالعاصمة مينسك، ويبدو أنهم كانوا المسؤولين عن تنظيم نقل المهاجرين إلى الحدود.
وقد حاول أوشو وسوز الوصول إلى الاتحاد الأوروبي من قبل، لكن المحاولة باءت بالفشل. فبعد وصولهم إلى حدود بولندا، قام رجالٌ بزي -يعتقدون أنهم للشرطة البيلاروسية- بوضعهم على متن حافلة ونقلهم مع مهاجرين آخرين إلى الحدود مع ليتوانيا، بدون إبداء سببٍ واضح.
يُذكر أنّ ثمانية مهاجرين على الأقل قد لقوا مصرعهم على الحدود وسط الغابة. بينما يقول البعض إنهم تعرضوا للاعتداء على يد رجال حرس الحدود البيلاروسي والبولندي. كما اتّهم البعض قوات الأمن البيلاروسية بإطلاق النار فوق رؤوس المهاجرين لإعادتهم إلى المنطقة الحدودية المضطربة، بعد أن حاولوا العودة إلى مينسك.
بينما حذّرت منظمات الإغاثة من تفاقم الأزمة الإنسانية، وسط التوقعات بانخفاض درجات الحرارة إلى -4 درجات مئوية خلال الأسبوع الجاري. ويقضي العديد من المهاجرين وقتهم داخل فنادق مخصصة، لكن الآخرين يقضون الليل داخل خيام في الحدائق العامة بمينسك، في انتظار محاولة الوصول إلى الاتحاد الأوروبي من جديد.
يُجبرون اللاجئين على البقاء في الغابة المتجمدة
في حين حاول نظام لوكاشينكو تحميل الاتحاد الأوروبي المسؤولية عن الأزمة، مع التعبير عن قلقٍ زائف -حسب وصف النقاد- على اللاجئين. حيث أُطلِقَت حملات لتوفير الطعام والملابس الدافئة بالتعاون مع الشركات الخاصة، كما تم تشجيع موظفي الحكومة على التبرع.
وفي يوم الخميس الـ11 من نوفمبر/تشرين الثاني، سمع البعض جندياً بيلاروسياً عبر الهاتف وهو يأمر مهاجراً كردياً عراقياً عند حدود ليتوانيا بتوجيه مجموعة تضم ما يتراوح بين 400 و500 شخص إلى الحدود مع بولندا.
وحين حاول بعض المهاجرين مغادرة الغابة المتجمدة والعودة إلى مينسك؛ منعهم أفراد حرس الحدود البيلاروسي وأجبروهم على البقاء عالقين عند الحدود.
ويقول المسؤولون الأوروبيون إنّ هذه الإجراءات هي جزءٌ من جهود لوكاشينكو المبذولة للانتقام من الاتحاد الأوروبي، بعد فرضه عقوبات على بيلاروسيا في أعقاب إعلان فوز لوكاشينكو بانتخابات 2020 المتنازع عليها.
المهاجرون يكتشفون طريقاً جديداً عبر دولة عربية
وفي يوم الجمعة، اتّخذت عدة شركات طيران إجراءات للحد من أعداد المسافرين إلى بيلاروسيا جواً من الشرق الأوسط، في محاولةٍ لتهدئة الأزمة. كما قال وكلاء سفر في العراق إنّ تركيا وإيران بدأتا في إلغاء تذاكر مينسك لحاملي جوازات السفر العراقية والسورية واليمنية منذ يوم الخميس.
لكن ذلك لم يُثنِ العراقيين الذين وجدوا طريقاً بديلة للعبور من دبي في الإمارات العربية المتحدة.
إذ ذهب عامر كروان، الذي يعمل في النجارة، مع أصدقائه إلى وكالة سفريات في السليمانية يوم الخميس لشراء تذاكر تنقلهم إلى بيلاروسيا. وقال: "سمعت أن الأوضاع ليست جيدةً في بيلاروسيا. ولكن يجب أن أذهب لأن هذا المكان ليس به حياة، ولا فرص عمل، ولا حقوق إنسان، ولا عدالة، ولا مساواة، ولا حتى فرصة للبهجة".
وقد أدت الأزمة إلى ارتفاع أسعار تأشيرات بيلاروسيا، التي كانت تتكلّف نحو 90 دولاراً لكنها وصلت الآن إلى 1200 دولار تقريباً. وقال غالبية المهاجرين إنهم يدفعون نحو ثلاثة آلاف دولار لباقة السفر الكاملة، التي تشمل التأشيرة وتذاكر السفر والإقامة لبضعة أيام.
ورغم إلغاء رحلة كروان إلى بيلاروسيا عبر طهران وإسطنبول، لكنه ينتظر في إربيل ليحجز تذكرةً جديدة تمر عبر دبي.
أما مَن وصلوا بالفعل إلى بيلاروسيا، فليست أوضاعهم أفضل حالاً، حيث يقف عدة آلاف من المهاجرين عالقين أمام السياج الشائك عند الحدود مع ليتوانيا، وممنوعين من التقدم إلى الأمام أو العودة إلى الوراء.
حيث اجتمع الشباب والعائلات والأطفال الذين ساروا على أقدامهم لأيام داخل الغابة الكثيفة، وأعدوا مخيمات مؤقتة، وبدأوا في حرق الحطب من أجل التدفئة بحسب مقاطع الفيديو التي شاركها بعض المهاجرين. كما نصب بعضهم الخيام الصغيرة، في حين دفن آخرون أنفسهم داخل أكياس النوم فوق الأرض المتجمدة من شدة البرودة.
وقال أحد الأكراد العراقيين، الذي يُطلق عليه لقب بهادينو: "لدينا طعام وماء، لكن الكميات ليست كافية". وأرسل بهادينو مقاطع فيديو لبعض النساء الحوامل والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة وهم يفترشون الأرض.
كما أرسل مقطع فيديو لنفسه مع مجموعة من المهاجرين الذين رفع لافتة مكتوب عليها: "بولندا – نحن آسفون".
وقال بهادينو: "اليوم، نعتذر للاتحاد الأوروبي ولبولندا. لأننا كما تعلمون أتينا إلى الحدود وكسرنا السياج الحدودي. نعتذر عن ذلك".
لكن بهادينو لم يكن آسفاً على محاولة الوصول إلى أوروبا، إذ قال إنه لا ينوي العودة إلى العراق على الإطلاق.