يهلك الجفاف الشديد في سوريا وتحديداً في مناطقها الشمالية الشرقية، كل يوم، العديد من المواشي والإبل، وكحال العديد من الجِمال في القرى البدوية غرب مدينة الرقة شمالي سوريا، تموت الإبل الصغيرة جراء العطش وسوء التغذية، بعدما أصبحت ضعيفة للغاية؛ لدرجة أنك تسمع تأوهها وبكاءها من شدة الألم.
يقول عياش شلهوب، راعي جمال بدوي سوري ربت قبيلته الإبل على مدار قرون، لموقع Al-Monitor الأمريكي: "لا مطر ولا ماء. انحباس المطر يعني عدم وجود نباتات، وبالتالي لا طعام لجمالنا. إذا استمرت الأمور على هذا النحو، فلن نتمكن لا نحن ولا حيواناتنا من البقاء على قيد الحياة".
كانت أكثر من نصف النوق العشار في قطيع القرية غرب الرقة البالغ قوامه 500 جمل قد أجهضت بسبب نقص الغذاء. قال شلهوب مشيراً إلى ناقة أخرى تنتحب بصوت عالٍ: "انظر، إنها لا تزال تبكي طفلها الفقيد. الجمال مثل البشر. إنهم يبكون".
أسوأ موجة جفاف تشهدها سوريا
وتشهد سوريا أسوأ موجة جفاف ضربتها منذ عقود طويلة، وهي أحدث كارثة تضرب أمة دمرها عقد من الصراع الداخلي، والفقر، والتدخل العسكري الخارجي، والهجوم الدموي لتنظيم الدولة الإسلامية. تفشي جائحة كوفيد -19، إلى جانب حظر النظام السوري لجميع ممرات المساعدات الدولية باستثناء واحد، وانحباس المطر وحجب مصادر المياه، كلها أمور تدفع بالبلاد على حافة الهاوية. ومع انخفاض منسوب المياه في السدود الكهرومائية إلى مستويات منخفضة خطيرة منذ يناير/كانون الثاني الماضي، وتزايد انقطاع المياه والكهرباء بشكل متكرر ولأمد أطول، فإن الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة الدولية المتنوعة تُحذر من كارثة إنسانية.
وحتى الأنهار والجداول المتدفقة فإنها تسود بسبب التلوث الناجم عن تكرير النفط المؤقت والتسريبات في خطوط الأنابيب والخزانات. يقول خوان مصطفى، كبير مسؤولي الصحة في الإدارة التي تقودها الميليشيات الكردية في شمال شرق سوريا، لموقع Al-Monitor إن العديد من أنواع السرطان والأمراض المنقولة بالمياه ومرض الليشمانيات الطفيلي آخذة في الازدياد. وقال إن الحيوانات التي تشرب المياه الملوثة تهلك.
يحصل 1% فقط من السكان الذين يعيشون في الشمال الشرقي على تطعيم ضد كوفيد -19. قال مصطفى: "الجفاف ونقص المياه الصالحة للشرب يعرقلان جهودنا لاحتواء فيروس كورونا. لتجنب فيروس كورونا، عليك أن تحافظ على نظافتك. بدون الماء هذا مستحيل".
جفاف الأنهار يهلك الحيوانات والمزروعات في شمال شرق سوريا
تُعد المنطقة الشمالية الشرقية في سوريا الأكثر تضرراً. وتنتج المنطقة، التي يغذيها نهر الفرات وروافده، معظم قطن سوريا ونصف حبوبها ومعظم نفطها. وهذا هو سبب حرص رئيس النظام بشار الأسد على استعادتها من الإدارة التي يقودها الأكراد الذين يُدرونها تحت الحماية العسكرية للولايات المتحدة.
يعتمد أكثر من خمسة ملايين سوري على نهر الفرات، الذي ينبع من تركيا، للحصول على مياه الشرب. ويُعتبر تغير المناخ العالمي هو السبب الرئيسي وراء موجة الجفاف. لكن المسؤولين المحليين من الأكراد يصرون على أن تركيا تتحمل قسطاً من اللوم على مأساتهم؛ لبنائها سلسلة من السدود على نهري دجلة والفرات على مساحة في جنوب شرق الأناضول. وهم يرددون الاتهامات التي وجهها بشار الأسد ومن قبله سلفه ووالده حافظ الأسد بأن تركيا تستخدم المياه ضدهم كسلاح.
لكن يقول ويم زويغنينبيرغ، الباحث الذي شارك في تأليف العديد من الدراسات حول تأثير الصراع والجفاف والتلوث في جميع أنحاء سوريا لمنظمة باكس الهولندية غير الحكومية، إن تركيا نفسها تعاني حالياً من جفاف طال أمده. ويُضيف: "تركيا تسعى لحفظ بالمياه [في خزانات السد] لتلبية احتياجاتها الخاصة. هناك زراعة مكثفة للغاية في تلك المنطقة؛ حيث تزرع محاصيل تحتاج لري كثيف مثل الذرة والقطن، وبالتالي ربما تقل المياه التي تذهب إلى سوريا. لا أعتقد أنه جزء من خطة متعمدة لمعاقبة الإدارة الذاتية [التي يقودها الأكراد]".
اليوم، أصبح نهر الخابور، أحد أكبر روافد نهر الفرات، جافاً جداً. المئات من قنوات الري التي تمر عبر الحقول الجرداء على امتداد شمال شرق سوريا، حيث كان المزارعون يزرعون محاصيلهم في المعتاد، باتت تتحول إلى غبار. كذلك لم يكن هناك أي هطول للأمطار تقريباً هذا العام باستثناء بعض القطرات المتفرقة أحياناً، لذا فإن معظم المزارعين يعدلون عن الزراعة خوفاً من فشل الغلة.
من جهة أخرى، وقع الآلاف في دوامة الديون، غير قادرين على سداد القروض التي اشتروا بها البذور والأسمدة في الموسم السابق. يقول إبراهيم إيسو تاجر الذهب في بلدة عامود على الحدود مع تركيا: "يأتي المزارعون إلينا كل يوم لبيع ذهبهم. وقد ارتفعت أعدادهم بشكل حاد خلال الأشهر الثلاثة الماضية. هذا هو موسم الزواج. يُفترض أن يشتروا الذهب لا أن يبيعوه".
أكثر من 12 مليون سوري يواجهون الجوع
وأدى الجفاف الذي اجتاح العراق أيضاً إلى ارتفاع أسعار الحبوب والغلة إلى مستويات مذهلة. طن من القمح الذي كان يُكلف 180 دولاراً العام الماضي أصبح الآن يُكلف 520 دولاراً، مما أدى بدوره إلى ارتفاع سعر الخبز، وهو أهم عنصر على الإطلاق. يبلغ سعر طن الشعير، الذي كان يُكلف 80 دولاراً العام الماضي، 400 دولار اليوم، وفقاً لمزارعين محليين قابلتهم صحيفة Al-Monitor. وقدر برنامج الغذاء العالمي في بداية العام أن 12.4 مليون سوري يواجهون الجوع.
إن الخسائر التي تلحق بالماشية والحياة البرية واضحة. يقول الملا الكفيف، مؤسس مركز أبحاث وكالة التنمية والتعاون: "بالكاد نرى اليوم الغزلان أو لقالق أو الصقور أو بنات آوى". طيور اللقلق التي تحوم فوق أعشاشها على أعمدة الكهرباء -وهو مشهد كان شائعاً في يوم من الأيام- غابت بالفعل بشكل لافت للنظر هذا العام. أظهر بحث الملا أن عدد الإبل في المنطقة الشمالية الشرقية انخفض إلى 1935 في عام 2020 من 2561 في عام 2018. وعبر سوريا، تُباع آلاف الجمال في السوق السوداء وتهرب إلى الأردن وتركيا والعراق.
يقول بيتر شوارتزشتاين، الباحث في مركز المناخ والأمن بواشنطن لموقع المونيتور: "في شمال شرق سوريا كما هو الحال في معظم أنحاء العالم، يميل رعاة الماشية ومربوها إلى أن يكونوا من بين أكثر الفئات عرضة للصدمات البيئية والمناخية، هذا لأنهم في الغالب من بين أفقر الفئات وأكثرهم تهميشاً سياسياً واقتصادياً، ويعيشون على هامش المجتمع".
ويُضيف: "هناك أيضاً حدود لوجهة وكيفية الهجرة بتكلفة معقولة؛ لذا فإن خياراتهم أضيق من تلك المتاحة للمزارعين وغيرهم ممن يعملون في مهن أخرى".
وجد بحث شوارتزشتاين في شمال شرق سوريا أن الرعاة والمربين فقدوا في المتوسط ما بين 40 و60% من حيواناتهم. "في كثير من الحالات كانوا يموتون جوعاً. في حالات أخرى، من أجل منع الحيوانات من الجوع، اضطر الرعاة إلى بيعها بأسعار منخفضة للغاية، مما وضعهم في موقف أكثر خطورة".
"الجِمال مثل البشر، إنها تبكي"
يتخلص البدو الرحّل في سوريا، الآخذة أعدادهم في الانخفاض، والذين اعتمدوا منذ فترة طويلة على التربية الرعوية لكسب لقمة العيش، يتخلصون من جِمالهم بدافع اليأس. القرويون، ومعظمهم من قبيلة السبع، هم من بين ملايين السوريين الذين نزحوا بسبب النزاع.. انتقلوا إلى الرقة من المراعي التقليدية في البادية أو الأراضي الصحراوية حول تدمر إلى الغرب حيث عثر علماء الآثار السويسريون والسوريون في عام 2011 على بقايا جَمَل عملاق يُعتقد أنه عاش قبل 100 ألف عام، وكان يوماً ما يقف "بحجم زرافة أو فيل". وأوضح محمد نصان، مربي جِمال في عجاج، أنهم غير قادرين على شراء الشعير أو التبن لإطعام الحيوانات لتعويض نقص الحشائش، ولا دواء لعلاجها.
وقال نصان: "نادراً ما يشتري أحد الإبل من أجل لحومها في هذه المنطقة. كنا نبيعها في ريف دمشق ودوما وحماة حيث يشتهر اللحم لكن الرسوم التي يفرضها المهربون أعلى من قيمة الجمل نفسها".
تتشابك العلاقات بين البشر والحيوانات بإحكام في المنطقة؛ فيستخدم القرويون صوف الإبل لنسج البسط والبطانيات والوسائد، وروثهم للتدفئة، وحليبها لإطعام أطفالهم. يقول بيرنارد فاي، خبير الإبل الفرنسي المشهور عالمياً للموقع نفسه: "الجمال مرتبطة جداً بأصحابها ويمكن أن يكون لديك علاقة قوية جداً بالناقة وتتطور وأنت تحلبها. إنها لطيفة جداً، لطيفة جداً. عندما تفقد ناقة طفلها تبكي والدموع تنهمر من عينيها ليوم أو يومين".
كذلك قال نصان إن الإبل تستجيب لأسمائها. وعندما يحل الليل، يتجمعون خارج أكواخ أصحابها. قال فاي: "إنهم ليسوا أذكياء مثل الخيول ولكنهم أكثر ذكاءً من الأبقار، والإبل البيضاء هي الأكبر قيمة".