بعد 6 سنوات من القتال في اليمن، لم تحقق السياسة السعودية في الجار اليمني سوى الدمار والخراب والمزيد من السيطرة والنفوذ لإيران وأذرعها في المنطقة بمن فيهم الحوثيون الذين تحولوا من جماعة لا يعرفها أحد إلى كابوس يؤرق الحدود السعودية.
يتداول الإعلام الإيراني الآن رسالة رئيسية واحدة بشأن اليمن: السعودية تنسحب. وهذا ما قالته "وكالة أنباء فارس" الإيرانية خلال الأيام الماضية: "صرحت مصادر يمنية بأن التحالف السعودي سحب جميع قواته من الساحل الغربي لليمن، ومنها قوات طارق صالح (ذراع الإمارات في الساحل الغربي) وألوية العمالقة [ذهبت إلى عدن]. لقد انتصر اليمن". غير أن ما يقصده الإيرانيون بانتصار اليمن هو انتصار المسلحين الحوثيين التابعين لهم، بحسب تقرير لصحيفة The Jerusalem Post الإسرائيلية.
الدعم الإيراني للحوثيين مقابل الحرب السعودية
كانت السعودية والإمارات، وعدد من الدول الأخرى المتحالفة معهما، شنَّت حملة عسكرية في اليمن في عام 2015. وفي المقابل، زادت إيران دعمها للحوثيين لإزعاج السعودية. وبات الحوثيون الآن يستخدمون طائرات مسيرة وصواريخ إيرانية متطورة في مهاجمة الرياض. لاحقاً، اختلفت السعودية والإمارات بشأن السياسة التي ينبغي اتباعها في اليمن. في غضون ذلك، واصل الحوثيون تقدمهم.
أما الولايات المتحدة، فكانت تهاجم الحوثيين خلال سنوات حكم أوباما وترامب، لكن إدارة بايدن اختارت تهدئة الانتقادات للحوثيين سعياً إلى تخفيف حدة الصراع. ومع ذلك، حتى إدارة بايدن اشتد غضبها الآن على الحوثيين بعد اختطافهم لعدد من الموظفين العاملين في مقر السفارة الأمريكية في صنعاء. وفي الوقت نفسه، ضمت الأمم المتحدة مزيداً من قادة الحوثيين إلى قائمتها السوداء.
مأرب معركة حاسمة
تقول وسائل الإعلام الإيرانية إن الحوثيين تقدموا خلال الفترة الماضية مئات الكيلومترات على طول الساحل اليمني، ونقلت وكالة أنباء فارس عن وسائل إعلام يمنية قولها "إن العد التنازلي لتحرير محافظة مأرب قد بدأ بعد أن أحرز الجيش اليمني واللجان الشعبية تقدماً ملموساً".
في غضون ذلك، تلوح إيران بانفتاحها على إجراء محادثات مع السعودية، وأن هذه المحادثات قد تشمل ما يخص الأوضاع في اليمن. يُذكر أنه في عام 2019، شنَّت إيران هجوماً بطائرات مسيرة وصواريخ كروز على السعودية، وكان هذا تحذيراً من إيران بأنها قادرة على فعل ما هو أسوأ من ذلك في المستقبل.
من الواضح أن الحوثيين يختبرون حظوظهم على أمل تحقيق مكاسب في الحُديدة ومأرب. ومع أن التحالف الذي تقوده السعودية نفى التقارير الواردة عن انسحاب قواته، فإن تضارب التقارير يشير إلى وقوع انسحاب بالفعل في المناطق المحيطة بمدينة الحُديدة الساحلية. وبحسب ما نقلته صحيفة Arab News السعودية، فقد "أعلنت القوات المشتركة اليمنية المنتشرة على الساحل الغربي للبلاد الجمعة 12 نوفمبر/تشرين الثاني انسحابها من عدة مديريات محررة في محافظة الحُديدة، ومنها مناطق في عاصمة المحافظة مدينة الحُديدة نفسها". وعلى ما يبدو، فإن هذا يعني أنه قد وقع انهيار للقوات حول المدينة الرئيسية، وتُوصِّل إل هدنة لتمكين هذه القوات من الانسحاب.
مأرب المعقل الأخير للحكومة اليمنية
محافظة مأرب هي المعقل الأخير للحكومة في شمال اليمن، ومنذ نحو عام ونصف، بدأت الجماعة التقدم عسكرياً باتجاه مدينة مأرب، العاصمة الإدارية للمحافظة، وفرض الحصار على المدينة بعد الاستيلاء على معظم المديريات التابعة للمحافظة.
وشنَّت الجماعة مئات الهجمات من محاور متعددة على مدينة مأرب، لكنها جميعاً فشلت، حيث تصدَّت لها قوات السلطة الشرعية ومقاتلو القبائل، الذين بنوا دفاعات محكمة حول المدينة لمنع سقوطها.
وتحاول الأمم المتحدة تدارُك تداعيات التصعيد في مأرب، عبر مبعوثها الخاص الحالي هانس غروندبيرغ، الذي زار طهران، في 5 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، حيث التقى كبار المسؤولين، في محاولة لإنهاء الحرب في اليمن، وهي مهمة لا تزال فرص نجاحها محل شك، وفق تصريح للناطق باسم الحكومة اليمنية راجح بادي، بحسب الأناضول.
ونقلاً عن مصادر خاصة، قالت وسائل إعلام إيرانية إن غروندبيرغ فشل في إقناع المسؤولين الإيرانيين بالضغط على الحوثيين لوقف تقدمهم في مأرب، حيث قالوا له إن القرار بيد اليمنيين، وإن الطريق إلى السلام يمر عبر رفع الحصار عن اليمن (يقصدون من طرف التحالف).
ماذا يعني استيلاء الحوثيين على مأرب؟
وتخشى السعودية أن يؤدي سقوط مدينة مأرب إلى زيادة الدعم الإيراني لجماعة الحوثي، بعد أنباء عن توقف المفاوضات بين الرياض وطهران، بالتزامن مع تقدم الجماعة عسكرياً في مأرب، وتضاؤل فرص قبول القيادات الحوثية بالوساطات الأممية لإنهاء الحرب.
ووفق وسائل إعلام، رفضت الجماعة وقف تقدمها في مأرب، بوساطة من وزير خارجية سلطنة عمان، بدر بن حمد بن حمود البوسعيدي، في سبتمبر/أيلول الماضي، لكن الوزير نفى ذلك، وشدد في الوقت نفسه على وجود قناعات قوية بوقف الحرب ودفع المسار السياسي، بالتنسيق مع المبعوثين الأمريكي والأممي.
وعلى العكس من ذلك، صعدت جماعة الحوثي هجماتها بصواريخ وطائرات مسيرة مفخخة على مدن يمنية وسعودية، مع مواصلة عمليتها العسكرية في مأرب، بما يؤكد لـ"المجتمع الدولي والإنساني أنهم الرافض الوحيد لجهود السلام ووقف إراقة الدماء، وتعمّد قتل المدنيين واستهدافهم بالصواريخ والطائرات بدون طيار إيرانية الصنع في مساجدهم ومنازلهم وحتى مخيماتهم التي لجأوا إليها هرباً من استبداد وبطش الميليشيا الحوثية"، بحسب السفير السعودي لدى اليمن، محمد آل جابر، عبر "تويتر"، في 4 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
ويسعى الحوثيون إلى استثمار ضعف أداء قوات السلطة الشرعية، لتحقيق مزيد من التقدم العسكري على الأرض قبل الموافقة على الانخراط في المفاوضات التي تدعو إليها السعودية، سواء عبر الوسيط الأممي أو الأمريكي أو من خلال جولات المفاوضات التي استضافتها بغداد مع مسؤولين إيرانيين خلال الأشهر القليلة الماضية.
وستُشكل سيطرة الحوثيين على مدينة مأرب أهم مراكز الغاز والنفط اليمني، بداية تحول كبير في مسار الحرب، فسقوط آخر مناطق سيطرة قوات الشرعية في الشمال سيجعل هدف التحالف بهزيمة الجماعة واستعادة صنعاء "شبه مستحيل"، إضافة إلى احتمالات التوسع الحوثي باتجاه الجنوب والشرق.
ومن المتوقع أن يستمر حصار الحوثيين لمأرب أسابيع طويلة، وقد يؤدي سقوط المدينة بيدهم إلى انهيار الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، وامتثال السعودية والمجتمع الدولي لشروط الجماعة، قبل الدخول في أي مفاوضات سلام محتملة بين الأطراف المتحاربة.
الخلاصة هنا أن سقوط مأرب بيد الحوثيين سيصبّ في صالحهم، وبالتبعية في صالح إيران كذلك، في مقابل خسارة الحكومة اليمنية لآخر معاقلها في شمال ووسط اليمن، لتتبقى محافظات الجنوب، التي يسعى المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات، إلى الانفصال بها وإعلان جنوب اليمن جمهورية مستقلة.
ويمثل هذا بالطبع أسوأ السيناريوهات بالنسبة للسعودية، التي دخلت الحرب قبل أكثر من ست سنوات، بهدف منع وجود حكومة شيعية مدعومة من إيران على حدودها المباشرة، لكن سقوط مأرب بيد الحوثيين يعني أن ذلك السيناريو قد بات قريباً من التحول إلى أمر واقع.
ويمكن في هذا السياق تفسير موافقة إدارة بايدن، في 4 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، على توريد أسلحة بقيمة 650 مليون دولار إلى السعودية، رغم قرار الإدارة وقف مبيعات الأسلحة قبل ذلك. فالواضح أن إصرار الحوثيين على رفض مبادرات وقف إطلاق النار ومواصلة هجماتهم ضد العمق السعودي كان أهم أسباب ذلك التغير في الموقف الأمريكي.
الأضواء كلها مسلطة على اليمن. ستذهب إيران إلى أنها حققت انتصاراً جديداً. أما السعودية فإن أي أخبار عن تراجع على إحدى الجبهات الأمامية في اليمن، لن تلقى ترحيباً في الرياض، وسيبدو الأمر أن إيران لها اليد العليا. وفي الوقت نفسه إذا مضت السعودية إلى فتح محادثات مع إيران، فإنها ستواجه مفاوضات شاقة لأن إيران تؤمن بأنها انتصرت في اليمن.