في بداية التسعينات من القرن الماضي، حيث كانت الحياة أقل صخباً وأكثر بساطةً، راوَدَ اثنين من الشبّاب الألمان العاملين في برمجة الكمبيوتر، وهو المجال الذي كان نادراً في ذلك الوقت، حُلمٌ غير تقليدي بالمرة، حُلمٌ هو أشبه بالرغبة في السفر إلى الفضاء والمشي على القمر قبل اختراع الطائرات الجويّة من الأساس.
فقد أرادا أن يتمكنا من التوغل بداخل الكرة الأرضية عبر شاشة الكمبيوتر، بحيث يُمكنهما أن يُشاهدا أي مكان في العالم، وذلك في التوقيت الحقيقي للصور الظاهرة على الشاشة. وحينها يتمكنان من رؤية الدول والبحار والجزر وغيرها بكل تفاصيلها، وبالتوغل أكثر وأكثر يُصبح بإمكانهما رؤية الطرق والمباني والحدائق والبيوت على شكل صور فعلية تتزامن مع الوقت الحالي، وعالية الدقة في إظهار تفاصيل المكان الذي تم اختياره.
ألا يبدو الأمر مألوفاً لك؟
أعتقد أنّ أغلبنا يعرف ما أتحدث عنه.. إنّها Google Maps أو خرائط Google.
مسلسل The Billion Dollar Code يكشف وجهاً آخر للحقيقة
دعني أُذكّرك بأنّ Google نفسها لم تظهر للعالم إلا في عام 1998، وأنّ خرائط جوجل لم ترَ النور سوى في عام 2005.
لحظة.. هل قلت شابان من الجنسية الألمانية؟ اخترعا فكرة خرائط Google، قبل أن تخرج للعالم في عام 2005، أي قبل مرور 11 عاماً بالضبط على إعلان Google لتقنيتها الحديثة التي يستخدمها الآن أكثر من 70% ممن يمتلكون هواتف ذكية، ويستخدمها شهرياً أكثر من بليون شخص على مستوى العالم.
فكيف حدث ذلك؟
أعود لحُلم الشابّين الألمانيّين، وهو حُلم ساذج بشدة، في وقتٍ لم تكن إمكانات أقوى كمبيوتر في العالم قادرة على أن تدعمه، ولكن الغريب في الأمر أنّهما نجحا في ذلك، نجحا بشكلٍ مُذهل وغير قابلٍ للتصديق.
استطاع الشابّان العبقريان في مجالهما الوصول للقمر بدون صاروخ فضائي، أو طائرة جوية حتى، فكيف حدث ذلك؟
عن مسلسل The Billion Dollar Code
حينما بدأ المسلسل صدمتني العبارة الشهيرة "مبني على قصة حقيقية"، فهي لا تدع مجالاً للشك بأنّه قد حدث فعلاً، وأنّه قد اتَّهم اثنان من خبراء الكمبيوتر الألمان في برلين، شركة جوجل بسرقة خوارزميات برنامجهما الذي أطلقا عليه اسم "Terra Vision"، ليظهر للعالم بعدها بـ11 سنة، باسم Google Maps، ويُنسب فضل اختراعه لأشخاص آخرين غير صانعيه الحقيقيين.
القصة الحقيقية -كما يزعم صانعو المسلسل- لهذه المعلومات الشديدة الحساسية، فيما يتعلق بنزاهة مؤسسة أمريكية ضخمة، مثل مؤسسة Google، التي اختارت أن يكون شعارها "لا تكن شريراً"، تم عرضها على شبكة نتفليكس في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، من خلال المسلسل الألماني القصير The Billion Dollar Code.
هذا المسلسل الدرامي ذو الأربع حلقات فقط، الذي يسرد تاريخ هذا الحدث بالكامل، أراد صنّاعه أن يعرضوا من خلاله أحداثاً مهمة ومؤثرة، بتفاصيل لا بد من إبرازها بالشكل اللائق، بدون أن يضطروا إلى حذف شيءٍ منها، لذلك قرروا ألا يصنعوا من القصة فيلماً روائياً، وإنما أرادوا أن يرى العالم هذا الحدث الصادم، على شكل حلقات مسلسلة، حتى وإن كانت قصيرة.
إعلان المسلسل:
قصة مثيرة بلا شك، ومسلسل في رأيي أنه لا بد أن يُشاهد، يتحرك المسلسل بين الماضي، حيث كان Juri Müller وCarsten Schlüter شابّين مبهورين بما يُمكن أن يفعله الكمبيوتر في ذلك الوقت، استطاعا أن يمزجا الفن بالكمبيوتر، وكوّنا فريقاً من الفنانين من جهة، ومن خبراء الحاسوب والمهندسين من جهة أخرى، واتخذوا اسم Art+Com لشركتهم المحدودة، التي كانت تعمل لا بهدف المال، وإنما بهدف خلق تجارب جديدة، ونشر طاقة الإبداع التي يحملها الفريق بداخله، لتصل إلى أماكن لم يصل إليها أحدٌ من قبل.
وفي نفس الوقت، يعود المسلسل للعصر الحالي من جديد، حيث نرى ما يُشبه المحاكمة ما بين Schlüter وMüller اللذين صارا رجلين في منتصف عمرهما الآن، وبين مُمثلي شركة كبيرة ومؤثرة بحجم جوجل، طالبين فيها تعويضاً مُلائماً، عن كل المكاسب التي سبق أن خسروها لصالح Google، التي خدعتهم واستولت على اختراعهما الفذّ.
بعد مشاهدتي لهذا المسلسل المُمتع على المستوى الفنّي والفكري معاً، اندهشت من التعتيم المقصود على هذه القضية طيلة السنوات الماضية، والتي لم يعلم أغلبنا عنها شيئاً قبل مشاهدته للمسلسل، ورأيت أنّ فكرة نتفليكس بإصدار فيلم وثائقي قصير مدته نصف ساعة فحسب، عن كواليس صناعة المسلسل، في وجود أبطاله الحقيقيين أصحاب القضية الأصلية، لَهو شيء جدير بالإعجاب، لأنه يؤكد على الهدف المرجو من إصدار هذا المسلسل، وهو أن يعرف الحقيقة أكبر قدر ممكن من الناس.
عن الذين غيّروا العالم ولم يعرف بهم أحد
بقدر ما قدّم المسلسل من تفاصيل دقيقة، ومعقدة إلى حد ما، حينما يتعلق الأمر بالخوارزميات والبرمجة وتقنيات الكمبيوتر الأخرى، بقدر ما صنع بعضاً من التعتيم على الأمور الأخرى، وظهر ذلك في استخدام صنّاع الفيلم أسماءً وهمية، فيما يخص بطلي العمل، وذلك بالطبع تجنباً لأية ادّعاءات من قبل Google، قد تُشكل أزمة بينهما، ردّاً على ما ورد بالفيلم.
وبخلاف الأسماء، فإنّ الصديقين في المسلسل كانا أخوين في الحقيقة.
ما دفعني لكتابة هذا المقال ليس للتعرض إلى قيمة المسلسل الفنّية، بقدر ما هو إشارة لأهميته، وأعني أهميته على المستوى الواقعي، والذي يجعلنا ننتبه حقاً إلى ما يحدث في العالم من حولنا.
تخيل معي ما يُمكنه أن يحدث حينما تُحارب شركة ألمانية صغيرة تعمل في تطوير تكنولوجيا المعلومات شركة أمريكية كبيرة رائدة في مجال التكنولوجيا، ذات رأسمال ضخم، وعظيمة التأثير على مستوى العالم.
ألا يجعلنا هذا ننظر إلى العالم نظرة أخرى؟ نظرة تُشكّك في النزاهة والعدل مثلاً.
الأمر لا يُشبه القصة المعروفة، والتي تخص عمالقة رجال التكنولوجيا في الثمانينات، حينما اتهم مؤسس شركة Apple Steve Jobs مؤسس شركة Microsoft
Bill Gates بسرقة الفكرة الأولية للـ Window منه، والتي انتهت بمقولة غاية في الدهاء من رجلٍ مُحنّك مثل Gates، الذي أخبر Jobs بأنّ كلاهما مثل رجلين فَكرّا في سرقة تلفزيون من جارٍ لهما يُدعى "Xerox"، وأنّ أحدهما قد سبق الآخر لذلك، وهو ما يعني أنّ كلاهما سارق، ولكن أحدهما جنى أرباح ما سرقه، وخسر الآخر.
فالجانب الألماني من القصة هو من أتى بهذا الاختراع للوجود، ومن بعدها تغيّر العالم.
وحينما سرحت بخيالي فيما يُمكن أن تكونه، ردة فعل شركة Google، عن مسلسل The Billion Dollar Code، قفز لعقلي فوراً فيلم The Social Network للمخرج David Fincher، والذي صدر في عام 2010. وهو الفيلم الذي يُجسد شخصية مارك زوكربيرغ مؤسس الـFacebook، وقصة مقاضاته من قبل أخوين توأمين، مُدعيَيْن أنّه سرق فكرة facebook منهما.
انتهى الأمر كما نعلم بتسوية الأمر بين الطرفين، وقيام مارك بتعويض التوأمين مادياً بمبلغ 65 مليون دولار، ولكنه في الوقت نفسه نفى أنه سرق الفكرة منهما،
هل يُحتمل أن تفعل جوجل مثلما فعل مارك؟ لا أعتقد.
فقد صرّح كاتب الفيلم Oliver Ziegenbalg بأنّه يعلم أنّ Google مثلها مثل أي شركة عملاقة، لديها مئات الملايين من المستخدمين حول العالم، لذلك فهي تريد أن تظهر أمامهم بصورة برّاقة، ولا بد أن تحمي هذه الصورة من أي تغييراتٍ قد تطرأ عليها.
كانت مخاطرة من صنّاع المسلسل بالتأكيد كي يصنعوا هذا العمل، ولكنهم أرادوا أن يأخذوا هذه الفرصة التي تأخرت كثيراً جداً وبأي ثمن.
في النهاية.. هي معركة أشبه بمعارك الخير والشر، والتي غالباً ما يكون فيها الأقوى هو الشرير للأسف، العزاء الوحيد لجانب الخير -كما أحسبه أنا في هذه القضية- هو أنّهم نجحوا فيما كانوا يُريدونه منذ البداية، أن يعلم العالم بما حدث معهم منذ 25 عاماً، حتى ولو خسروا كل شيءٍ، لا يهم، المهم أن يعلم العالم.
فهنيئاً لهم خسارتهم التي أكسبتهم احترام العالم، وأفقدت المنتصر لذة النصر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.