عاد عبد الإله بن كيران إلى قيادة حزب العدالة والتنمية، في مؤتمر استثنائي كانت أجواؤه الاستباقية عاصفة، وعرف نقاشات صاخبة، دفعت كثيراً من المحيطين بالحزب إلى اعتبار هذا المؤتمر الأخطر في تاريخ الحزب.
بعد خمس سنوات من "الإبعاد"، بحسب مناصريه، و"الابتعاد" بحسب مخالفيه، عاد بن كيران إلى الحزب وقد اختلفت ظروفه بشكل كلي، تحول معها من أول أحزاب المغرب في البرلمان إلى الحزب الثامن، ومن رئاسة 250 مدينة إلى رئاسة 10 جماعات قروية.
ارتباك اللحظات الأخيرة
كان صباح السبت 30 أكتوبر/تشرين الأول الماضي غير عادي بالنسبة لأعضاء وأنصار حزب العدالة والتنمية، فهذا اليوم كان استثنائياً وفق ما استقاه "عربي بوست" في مركب مولاي رشيد للشباب والطفولة ببوزنيقة (قرب العاصمة الرباط).
حددت لجنة رئاسة المؤتمر الساعة 9 لبداية أشغال المؤتمر الاستثنائي للحزب، ووفق قوانين العدالة والتنمية، فانطلاق اللقاءات مشروط باكتمال النصاب، والذي يلزم بتسجيل حضور نصف عدد المؤتمرين، وهذا ما تحقق في أقل من ساعتين، حيث انطلقت الأشغال في تمام الحادية عشرة.
ووفق مصادر من لجنة التنظيم، فإن نسبة المشاركين في المؤتمر فاقت 90%، من عدد المنتدبين للحضور، وعدد الحاضرين اقترب من 1300 بينما عدد المنتدبين يفوق 1400 بقليل.
الساعتان الفاصلتان حولتا فضاء المؤتمر إلى حلقات نقاش كثيرة، تضم أعداداً قليلة من المؤتمرين، تدور حول فكرتين أساسيتين، "عودة بن كيران"، وضرورة احترام "إرادة المؤتمر إذا صوَّت لصالح تأجيل المؤتمر سنة واحدة".
الضغط الكبير على لجنة رئاسة المؤتمر بدا واضحاً منذ الصباح حيث فور بداية اللقاء طلبت من الصحفيين الخروج من قاعة ومتابعة الكلمة السياسية للأمين العام المستقيل سعد الدين العثماني، عبر تقنية البث المباشر.
القرار أثار حفيظة الصحفيين، الذين احتجوا على رئاسة المؤتمر، التي وجهت دعوة للصحافة، لتغطية أشغال المؤتمر، بما فيها كلمة أمين عام الحزب.
العثماني الذي كان قريباً من المنصة انخرط في هذا الشنآن، وأخبر الصحفيين بضرورة تطبيق القرارات ولو كانت لا تلائم رغباتنا.
في الأثناء مستغلاً انشغال الصحافة مع رئيس الحكومة، التفت رئيس المؤتمر إلى المسؤولين عن البث المباشر، وأمره بالوقف الفوري للبث في حال مقاطعة كلمة الأمين العام.
دقائق بعد انطلاق الكلمة السياسية لسعد الدين العثماني، خرج عدد من أعضاء المؤتمر من القاعة، بعض الذين تمكن "عربي بوست" من التواصل معهم، اعتبروا أن هذه الكلمة "خارج برنامج المؤتمر، وهي بذلك مخالفة للقانون، كما أنها تحمل رسائل لتوجيه المؤتمر، وهذا غير أخلاقي".
بعد نهاية الكلمة، حصل ما كانت تخشاه رئاسة المؤتمر، بحسب مصادر "عربي بوست"، حيث طالب عدد من المنتدبين بـ"نقطة نظام"، طغى عليها الدفع بعدم قانونية وأخلاقية كلمة الأمين العام، كما دعوا رئاسة المؤتمر إلى رفض عرض نقطة تأجيل المؤتمر لسنة بسبب مخالفتها الصريحة لقوانين الحزب.
ملفات المواجهة
لم تكد تنتهي كلمة الأمين العام حتى انطلقت المواجهة التي استعد لها جميع أعضاء ومنخرطي حزب العدالة والتنمية، بل حتى المتعاطفين معهم، والتي فرقت الحزب "نظرياً" إلى تيارين خلال المؤتمر، واحد مع "بن كيران دون شروط"، وآخر مع "بن كيران بشروط".
أولى محطات المواجهة كانت حينما قرر رئيس لجنة رئاسة المؤتمر، جامع المعتصم، أخذ الكلمة بعد نهاية نقاط نظام الرافضة لإدراج التصويت على تأجيل المؤتمر سنة واحدة، وما دفع خالد بوقرعي الكاتب الجهوي للحزب بجهة فاس مكناس إلى الاحتجاج ضده، رافضاً قيامه بـ"توجيه" المؤتمرين، وهو ما لاقى تجاوباً من المؤتمرين، ما اضطر الرئيس إلى تجاوز تلك النقطة.
وانتقل رئيس المؤتمر إلى عرض مقترح تأجيل المؤتمر لمدة سنة للتصويت، التي انتهت لصالح بن كيران وأنصاره، حيث صوَّت 1275، بلغت الأصوات الرافضة 901، بينما قبل 274 صوتاً فكرة التأجيل، وهو ما أسقط المقترح.
سقوط مقترح الأمانة العامة نقطة تحول في ميزان السباق نحو رئاسة الحزب، حيث مثل تأجيل المؤتمر سنة واحدة آخر عائق أمام عودة بن كيران لرئاسة الحزب.
نتائج التصويت وتفاصيله كانت مثيرة، فبحسب مصادر "عربي بوست"، فإن رفض مقترح التأجيل حقق "اكتساحاً" في المدن البعيدة عن محور العاصمة الرباط ـ سلا، التي بالإضافة إلى أصوات المجلس الوطني جاءت متقاربة بشكل كبير.
بعد هذا التصويت/ التحول، علم "عربي بوست" أن عبد الإله بن كيران اتصل برئيس المؤتمر طالباً منه منحه القن السري والرابط للمشاركة عن بُعد في باقي أشغال المؤتمر.
محطة المواجهة الثالثة تمثلت في التداول من أجل اختيار الأمين العام المقبل للحزب، هذه العملية "الأولية"، تعني قيام أعضاء المجلس الوطني باختيار عدد من المرشحين، يتعين حصولهم على نسبة تساوي أو تفوق 10% من الأصوات.
وجاءت هذه المرحلة كالتالي حيث بلغ عدد المصوتين 198 في المجلس الوطني لاختيار المرشحين لقيادة الحزب، ألغيت منها أربعة أصوات، ونال عبد الإله بن كيران أكبر عدد من الأصوات بـ112 صوتاً، جاء بعده عبد العزيز العماري ثانياً بـ101 صوت، ثم جامع المعتصم بـ89 صوتاً، يليه عبد الله بوانو بـ28، ثم إدريس الأزمي بـ27، وأخيراً محمد الحمداوي الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح بـ 24.
وطبقاً لقوانين الحزب، الذي يفتح المجال للراغبين في الاعتذار، فقد اعتذر ثلاثة مرشحين، ويتعلق الأمر بجامع المعتصم، وإدريس الأزمي، ومحمد الحمداوي.
انطلقت المحطة الرابعة من المواجهة، التي يسميها العدالة والتنمية مرحلة "التداول"، حيث يقوم المؤتمرون بعرض حسنات وسيئات المرشحين، التي استمرت أكثر من 4 ساعات، وعرفت أزيد من 80 مداخلة، اختتمت بالتصويت.
وبعد ساعات من الانتظار وحبس الأنفاس، انتهت جولات المواجهة بالتصويت بأغلبية 81% لصالح عبد الإله بن كيران الذي حصد 1012 صوتاً من أصل 1254.
إلى المستقبل
مباشرة بعد عودته إلى رئاسة الحزب، أعلن عبد الإله بن كيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، أنه أمين عام جميع الأعضاء، مشدداً على أنه ليس بالإقصائي، ودعا أعضاء الحزب إلى التعاون الجماعي لحل المشاكل القائمة بالحزب.
وشدد على أن الحزب السياسي ليس هو عدد النواب في البرلمان، مشيراً إلى "ضرورة استشعار الدوافع الأصلية التي جاءت بنا إلى الحزب، داعياً الحزب إلى البحث عن مقاربة جديدة، لنكون عنصراً إيجابياً ونافعاً لدولتنا ومجتمعنا.
وتوجه إلى الأعضاء قائلاً: "نحن اليوم في وقت يحتاج إلى تضحية، وأن نبني الحزب من جديد، أن نبعث فيه الروح، التي تأتي من المرجعية الإسلامية"، يردف بن كيران، مشدداً على أن دور الحزب لم ينتهِ، بل سيغير مقاربته فقط.
وسجل أن شعوراً خاصاً ينتابه في هذه اللحظة، لأن حزبنا يمر من مرحلة دقيقة، وبتوفيق الله تجاوزها وهو يحافظ على مبادئه وقوانينه.
وأردف: اليوم نعتقد أن الله سبحانه وتعالى قد يسر شيئاً كبيراً لحزبنا، ليس لأنكم اخترتم بن كيران، ولكن لأنكم استطعتم الالتزام بقواعد الحزب، معبراً عن شكره لأعضاء اللجنة المنظمة، وأعضاء الحزب الذين حافظوا على انتمائهم لحزبهم ولم ينسحبوا خلال هذه المرحلة.
ودعا أعضاء الحزب إلى أن يكونوا على استعداد للتضحية لتجاوز الوضع الصعب الذي يعيشه الحزب، بما في ذلك الاستعداد للتضحية بالأموال وبغيرها، مشدداً على أن الحزب عنصر إيجابي في المجتمع، وسيمارس دوره في المعارضة، بالقوة اللازمة، ووفق مرجعيته.
ولم يفت بن كيران الذكير بثوابت الحزب من الملكية، والإسلام، مشدداً على أن الحزب مدعو إلى عدم نسيان الناس البسطاء والمساكين القابعين في أسفل السلم الاجتماعي.
دلالات العودة
كثير من المدافعين عن عودة بن كيران، الذين استقت "عربي بوست" آراءهم قبل انتخاب بن كيران أو بعدها، يعتبرون أن الدولة بحاجة إليه، خاصة أمام هشاشة المؤسسات التمثيلية التي تقوم بدور حماية الدولة ومؤسساتها.
الحاجة إلى بن كيران ليست فقط مطلباً حزبياً، هكذا تحدث أحد مقربي بن كيران، وزاد: اليوم يرى الجميع حالة الانسحاب والضعف الكبير التي أظهرتها الحكومة الجديدة، التي لم مر شهر عن ميلادها لكنها غير موجودة في حياة الناس.
جدل جواز التلقيح المثار حالياً في المغرب، قدمه أنصار بن كيران دليلاً إضافياً على ضعف الحكومة والبرلمان في التفاعل بشكل إيجابي مع المجتمع، وتصحيح نظرة المجتمع للحكومة، ما يصنع فراغاً يستغل لمزيد من تأجيج الشارع.
"عربي بوست" طرح فكرة إشارات "من فوق" سمحت لابن كيران بالعودة، غير أن الإجابات التي تلقتها أجمعت على أن بن كيران رئيس حكومة سابق، ولكنه يظل مناضلاً في حزب سياسي، ظل يدافع عن استقلالية قراره.
وتابعت أن جزءاً من الصراع داخل الحزب، في الفترة السابقة، كان يدون حول هذه الفكرة، فكرة استقلالية الحزب، وهو ما كان يثير الكثير من الشك، وكاد يعصف بالحزب، لذلك فالقول إن عودة بن كيران جاءت بإشارات من فوق تعبير غير موفق.
وأضافت المصادر أن الدولة لها حساباتها السياسية، ولها توازناتها الدقيقة التي تحاول فيها ضبط الأوضاع، قد يكون هناك رأي داخل الدولة يدفع بضرورة رفع اليد عن الأحزاب السياسية في المرحلة الراهنة، وهو ما استغله بن كيران.
ولم يفُت مصادر "عربي بوست" التشديد على أن المرحلة المقبلة ستكون صعبة جداً على بن كيران، فلقد ورث حزباً مكسوراً انتخابياً، ومناضلين غاضبين أو منسحبين من الحزب بشكل نهائي، وبالتالي سيكون عليه القيام بمجهود جبار لإعادة بناء الحزب، وإعادة توجيه بوصلته السياسية.