كل شيء يكون هادئاً هنا قبل أن يتغير كل شيء. صمت وحركة قليلة وهواء بارد يتسلل بين الجبال ليُلطِّف أجواء هذا المكان الذي يصفه محبوه بالجزيرة الطيبة، حيث تلتقي الأرواح، وتصفو النفوس وتتطهر، في مناسبة لا تتكرر إلا مرة في السنة.
ولأن الأرواح جنود مجندة، تتجند مداغ لاستقبال طارقي بابها. تلك القرية الريفية الصغيرة الهادئة، الواقفة كجزيرة منعزلة عن العالم، والتي تقع على بُعد 12 كيلومتراً من مدينة بركان المغربية، المطلة على الحدود الجزائرية.
تكون مداغ هادئة طيلة السنة قبل أن تحل ذكرى المولد النبوي الشريف فتتحول القرية إلى مزارٍ وقِبلة للمتصوفة، يطرق بابها مئات الآلاف من الزوار من كل بقاع العالم، والذين يفضّلون قضاء هذه الفترة من السنة في زيارة للزاوية البودشيشية.
من هو شيخ الزاوية؟
من أبرز شيوخ الطريقة البودشيشية في القرن العشرين الشيخ المختار القادري بودشيش الذي اشتُهر بمقاومته للاحتلال الفرنسي بقيادة الجنرال ليوطي الذي دخل المغرب من جهته الشرقية من الجزائر المحتلة وقتذاك.
والتفَّت كثير من القبائل حول الشيخ المختار القادري بودشيش، وحاربت المحتل الذي نجح في ضرب المقاومين واحتل المنطقة، وسرعان ما وصل إلى مقر الزاوية وخرَّبها، واعتقل شيخها.
وبعد وفاة الشيخ أبو مدين القادري البودشيشي عام 1955، تولى زعامة الطريقة الشيخ العباس، واشتُهرت الطريقة في عهده بشكل لافت، وهو ما تعزز في عهد نجله الشيخ سيدي حمزة القادري البودشيشي الذي تزعَّم الطريقة عام 1972 إثر وفاة والده.
وُلد حمزة القادري البودشيشي عام 1922، وولي زعامة الطريقة عام 1972، خلفاً لوالده، واستمر على رأسها إلى أن توفي عام 2017.
حفظ الشيخ حمزة القرآن الكريم، وأنهى دراسته في السلك الأول من التكوين العلمي، ثم تلقى علوم الشريعة بمقر الزاوية في مداغ، كما درس علوم الفقه واللغة والنحو على يد العالم أبي الشتاء الجامعي، وعبد الصمد التجكاني، والشيخ اليزناسني، وحميد الدرعي.
انتقل إلى مدينة وجدة شرق المغرب، حيث درس في المعهد الإسلامي الذي كان وقتها تابعاً لجامعة القرويين الموجودة بمدينة فاس، وبعدها عاد إلى مقر الزاوية، حيث بدأ مساره في مشيخة الزاوية مع والده العباس، وشيخ الزاوية وقتها أبي مدين القادري البودشيشي.
بعد رحيل الشيخ حمزة القادري بن العباس بودشيش، عن عمر يناهز 95 عاماً، ورث نجله الأكبر جمال الدين (70 عاماً)، مشيخة الزاوية القادرية، وهو رجل تعليم متقاعد خريج دار الحديث الحسنية ويقيم بمقر الزاوية.
ما هي البودشيشية؟
تعتبر القادرية البودشيشية طريقة صوفية تعود جذورها إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، اشتُهرت في المغرب وانتشرت انتشاراً كبيراً خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
تنتسب الطريقة القادرية البودشيشية إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، الذي ظهر في القرن الخامس الهجري، أما لقب البودشيشية، فقد اكتسبته بواسطة الشيخ علي بن محمد الذي حمل لقب سيدي علي بودشيش؛ لكونه كان يطعم الناس أيام المجاعة طعام الدشيشة بزاويته.
تؤمن البودشيشية بمحورية الشيخ الذي يزوره المريدون من شتى البقاع للتبرك برؤيته وبلمسه، ويصرخ كثير منهم عند رؤيته، فالمريد لا مفر له من وجود شيخ مربٍّ، "فكما أن المرء لا يرى عيوب وجهه إلا في مرآة صافية مستوية تكشف له عن حقيقة حاله، فكذلك لا بد للمؤمن من صاحبٍ كامل يرى في كماله نقائص نفسه ليعالجها"، على حد تعبير أعضاء الطريقة.
ويوضح أهل البودشيشية أنها تشتغل على تزكية النفوس ليس إلا، ولا علاقة لها بالسياسة والمعارك السياسية الداخلية، ولأجل الوصول بالنفوس إلى الصفاء الروحي يلتزم "الفقير"- خاصة بعد صلاة المغرب- بقراءة القرآن وتلاوة الأذكار الخاصة بالطريقة والتي أذن بها الشيخ، ثم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.