يوم الأربعاء الموافق 20 أكتوبر/تشرين الأول، وصل آموس هوكشتاين، منسق شؤون الطاقة الدولية في الخارجية الأمريكية ورئيس الوفد الأمريكي للمفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، مفاوضات كانت قد توقفت في الرابع من أيار/مايو بعد جولة بحضور الوسيط الأمريكي وقتها، جون دوروشيه، الذي رفع الجلسة وعلّق التفاوض كله بسبب تمسك الوفد اللبناني بشرعية الخط ٢٩ من جهة، وتمسك لبنان بهذا الخط المستند إلى دعائم قانونية صلبة بخلاف الخط ٢٣ الذي تم وضعه عشوائياً بحسب الدراسة التي أعدها الوفد اللبناني المفاوض، من جهة ثانية.
وفي منتصف يونيو/حزيران، عاد الموفد الأمريكي السابق دوروشيه مودِّعاً ومطالبًا لبنان في جلسات خاصة بالتخلي عن السقوف العالية.
جولات هوكشتاين، هذه المرة، تأتي بعد تأليف حكومة لبنانية جديدة برئاسة نجيب ميقاتي، الذي وقع في الأول من أكتوبر/تشرين الأول لعام ٢٠١١ المرسوم الذي يحمل الرقم ٦٤٣٣ الذي يُرّسم الحدود البحرية للبنان مرتكزاً إلى الخط ٢٣، وفي السابع عشر من الشهر نفسه أودع المرسوم الأمم المتحدة بعد أن كانت الخرائط قد أُرسلت عام ٢٠١٠ دون المرسوم حينها.
الوضع القانوني
اعتبر الجانب الإسرائيلي أن احتساب أثر صخرة تخيليت إلزامي كون الجزيرة قريبة من الشاطئ، ولو أنها غير مأهولة، أما الوفد اللبناني، فقد اعتبر ألا أثر للصخرة-الجزيرة كونه غير تناسبي ولا يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار. وجاء قرار محكمة العدل الدولية بتاريخ ١٢ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢١ في عدم احتساب، بل وتجاهل، أثر صخرة ومجموعة جزر صغيرة بين كينيا والصومال ليؤكد صوابية ما قام به الوفد اللبناني، والذي استند إلى الترسيم البحري بين مالطا وليبيا عام ١٩٨٥. بمعنى آخر، أصبحت لدينا حالتان مشابهتان مالطا-ليبيا والصومال-كينيا.
قرار محكمة العدل الدولية الأخير يعزز الموقف القانوني اللبناني التفاوضي ويلزم الأطراف ببدء التفاوض من الخط ٢٩ بدل بدئه من الـ٢٣ أو خط هوف على قاعدة نصف لك ونصف له. ووضع كهذا يضع لبنان في موقع القوي والقادر على عقد اتفاق أكثر عدالة من اتفاق هوف أو الخط ٢٣ إذ قد يبلغ حقل قانا بالحد الأدنى وحقل كاريش بالحد الأقصى الموقف السياسي.
الوضع السياسي
على الضفة السياسية، يفاوض لبنان في ملف ترسيم الحدود البحرية وهو في أسوأ أحواله الإدارية والاقتصادية والمالية والاجتماعية، إذ على الرغم من تشكيل حكومة جديدة فيه، حصلت على تأييد يعتد به دولياً، يتواصل انهيار الدولة، حتى بات عدم التحاق الموظفين عادة، وغياب الخدمات الأساسية من كهرباء وماء وانقطاع الأدوية والإنترنت من يوميات المواطن، إضافة إلى أزمات النخبة الحاكمة من عقوبات وضعت على بعضهم ومرشحة للتوسع، إلى الصدامات الدموية في مناطق متعددة ومتباعدة في البلاد، إلى دخول مرحلة الانتخابات النيابية خلال أسابيع عديدة بما تعنيه من رفع سقوف ومزايدات وتشبث بالمواقف.
تحت كل هذه الضغوط يسعى الوسيط الأمريكي إلى دعوة لبنان للتفاوض على قاعدة أن ترسيم الحدود البحرية يفتح آفاقًا أمام استخراج نفط وغاز فيهما الشفاء من الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية، ما يضع الموقف السياسي في حالة الوهن والضعف والتشتت.
تشتت لمسه الموفد الأمريكي الذي رغب في أن يقود هذه المفاوضات وفق سياسة الدبلوماسية المتنقلة shuttle diplomacy بدل العودة إلى اتفاق الإطار الذي أعلنه الرئيس نبيه بري في الأول من تشرين الأول لعام ٢٠٢٠ والقاضي بإجراء المفاوضات غير المباشرة في مركز الأمم المتحدة في الناقورة واعتماد الولايات المتحدة كوسيط ومسهِّل لترسيم الحدود على أن تعقد لقاءات مستمرة تحت راية الأمم المتحدة وبرعاية المنسق الخاص للأمم المتحدة لشؤون لبنان.
يبدأ التشتت من الموقف المرتبك لرئاسة الجمهورية حول تعديل المرسوم ٦٤٣٣ والقاضي بإضافة مساحة ١٤٣٠ كيلومتراً إلى مساحة الـ٨٦٠ كيلومتراً المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل، بعدما تمنّع رئيس الجمهورية عن توقيع التعديل في شهر أبريل/نيسان الماضي كونه كان يحتاج لحكومة كاملة الأوصاف حينها رغم توقيعه من كل من وزيري الدفاع والأشغال وأتبعهما توقيع رئيس الحكومة حينها الدكتور حسان دياب بتاريخ ١٢ أبريل/نيسان ٢٠٢١.
تشتت اتضح أيضاً في ما نُقل عن رئيس مجلس النواب أن لبنان يكون محظوظاً بما فيه الكفاية إذا ما حصل على الخط ٢٣ كاملاً (يكون بيتنا في القلعة).
أما رئيس الحكومة الحالي، فهو مسؤول عن إرسال المرسوم ٦٤٣٣ وبالتالي متمسك به بدليل تعيينه العميد المتقاعد جو سركيس مهندس الخط ٢٣ والرافض حتى للدراسة البريطانية التي سُلِّمت إلى الدولة في شهر يوليو/تموز ٢٠١١ والتي تعيد الاعتبار وقتها للخط "٢٣ بريم" أي ٢٩، مستشاراً له لشؤون ترسيم الحدود.
"حزب الله" أعلن أن موقفه من ترسيم الحدود هو خلف الدولة اللبنانية، تلك الدولة التي تتفكك ويتبعثر قرارها وبالتالي يكون موقف الحزب موقف المراقب والممتلك حق النقض ليس في موضوع الحدود فحسب، بل في كل الموضوعات من التحقيق في انفجار مرفأ بيروت إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولي إلى التعاطي مع جلسات مجلس الوزراء عقداً أو رفعاً حسب الحاجة.
مصير ترسيم الحدود البحرية
يبقى أن الجيش لا زال حتى اللحظة متمسكاً بدوره بما قدمه من خرائط ودراسات ونقاط قوة ومستنداً اليوم إلى ما أعلنته محكمة العدل الدولية حول الصومال وكينيا مؤخراً، مع العلم أن الخلاف البحري بين الصومال وكينيا يعود لعقود ويتمحور حول مثلث في المحيط الهندي بمساحة ١٠٠ ألف كلم بحري تقريباً يعتقد أنه غني بالنفط والغاز.
لكن الجيش في النهاية يخضع للسلطة السياسية ولا يمتلك اتخاذ القرار بأي شكل من الأشكال.
وبعد، إذا أخذنا ما استجد في الصومال وكينيا مثالاً، يصبح لزاماً على أركان الدولة الارتكاز إليه لتصليب مواقفهم وتوحيدها بحيث يعودون جميعهم لاعتبار الخط ٢٩ هو الخط التفاوضي الذي لا يُزاح عنه وعلى أن تستكمل تلك المفاوضات بحسب اتفاق الإطار الذي أعلنه الرئيس بري وأن تتمسك الحكومة والجيش بما استجد وتعتبره يَجُب ما قبله، عندها يلتقي ويتناغم الموقف السياسي بالموقف القانوني ويذهب الجميع إلى التفاوض وفق رؤية وأسلوب موحديْن وقوييْن وصلبيْن.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.