وجدت عائلة المهياوي بمدينة فاس في المغرب، نفسها وسط زوبعة من الجدل بعد نشرها إعلاناً على واجهة منزلهم العتيق بالمدينة القديمة يعلنون فيه عزمهم بيع البيت.
والبيت المعروض للبيع ليس بيتاً عادياً من بيوت فاس العتيقة، بل إنه كان محل سكن مؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون، حسب ما قالت العائلة المالكة للمنزل في إعلان البيع.
واستقر عبد الرحمن بن خلدون بفاس منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، وعمل في عدة مهام في بلاط السلاطين المرينيين قبل أن يغادرها إلى الأندلس ويعود إليها مرة أخرى.
وحسب مروان المهياوي أحد ذوي الحقوق في المنزل، فإن عائلته تمتلك العقار المذكور منذ نهاية ستينات القرن الماضي، وهي خامس عائلة تتوالى على ملكيته.
وأوضح المتحدث أنه بعد إعلان رغبتهم بيع المنزل، اتصلت بهم مصالح وزارة الثقافة بفاس، وأخبرتهم عزمها إرسال لجنة من الخبراء من أجل إنجاز تقرير حول تاريخ البناية ووضعيتها المعمارية قبل اتخاذ قرار مناسب بشأنها.
توقف عملية البيع
وجاء في إعلان البيع الذي وضعه ملاك البيت على واجهته "رياض ابن خلدون العالم السوسيولوجي واضع علم الاجتماع للبيع".
وتداول نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي الصورة وعبروا في تدوينات عن استيائهم لعرض منزل سكنته شخصية تاريخية مهمة مثل ابن خلدون للبيع خاصة بعد تواتر أنباء عن وضع سماسرة أجانب عينهم عليه.
ودعا النشطاء في تدوينات إلى شراء البيت من مالكيه وتحويله إلى متحف والحفاظ عليه بوصفه موروثاً ثقافياً وتاريخياً له رمزيته في مدينة فاس.
وبعد الضجة التي رافقت إعلان البيع وتدخل وزارة الثقافة المغربية، نزع ملاك البيت الإعلان وأوقفوا عملية البيع في انتظار ما ستسفر عنه لجنة الخبراء.
بالمقابل اختلف الباحثون في تاريخ فاس في اعتبار البناية موضوع الجدل هي البيت الذي سكنه العلامة عبد الرحمن ابن خلدون خلال مقامه بفاس.
وتضم فاس العديد من المآثر والبنايات التاريخية التي تكشف عراقة المدينة ومكانتها العلمية والروحية على امتداد أزيد من 12 قرناً من تاريخ المغرب.
وثيقة عدلية
يؤكد أستاذ التاريخ سابقاً بكلية الآداب سايس بفاس محمد بن عبد الجليل أن المنزل المعروض للبيع في حي الطالعة بفاس هو "بلا شك بيت مؤلف المقدمة عبد الرحمن بن خلدون".
ويقول بن عبد الجليل لـ"عربي بوست" إنه "منذ أكثر من عشر سنوات، اطلعت صدفة على الوثيقة العدلية أو رسم هذا العقار، وهي وثيقة طويلة جداً تضمنت عدة شراءات وبيوعات، وجاء فيها أن في هذا المنزل كان يسكن عبد الرحمن ابن خلدون".
ويتكون المنزل من ثلاثة طوابق مربعة الشكل، وهي بناية- يشير المتحدث- إلى أنها خالفت في هندستها جميع أنماط الهندسة المرينية المعروفة في فاس والمغرب كله.
وأوضح بن عبد الجليل أن دار ابن خلدون تصنف ضمن تراث مدينة فاس ولا يمكن لأي كان أن يمد يده على هذا التراث، ولفت إلى أن جهات تونسية حاولت شراء المنزل قبل حوالي 15 سنة إلا أنها لم تفلح بعد تدخل مسؤولين مغاربة.
ويتنازع التونسيون والمغاربة الأحقية في نسب ابن خلدون، إذ يعتبره التونسيون منهم، كونه وُلد ونشأ في تونس، بينما يراه المغاربة منهم، كون شخصيته وتكوينه العلمي والسياسي كان في المغرب بعد استقراره لسنوات بفاس.
ودعا بن عبد الجليل المسؤولين عن الثقافة في المغرب إلى التدخل لصيانة هذه البناية التاريخية وإعادة الاعتبار لها وحمايتها من المحاولات المتكررة لتفويتها وبيعها لجهات مختلفة.
هل هي فعلاً دار ابن خلدون؟
من جهته، ينظر رئيس الجمعية المغربية للتراث والتنمية بفاس حسن المصطفى بعين الشك إلى كون الدار المعروضة للبيع بحي الطالعة بفاس كان يسكنها ابن خلدون.
وأوضح في حديث مع "عربي بوست" أنه مباشرة بعد الضجة التي تلت انتشار صورة إعلان البيع، اتصل بمجموعة من أساتذة التاريخ المهتمين بالمدينة القديمة لفاس وبشخصيات علمية أخرى، وكلهم يشككون في الرواية المنتشرة حول هذا المنزل.
وبناء على المعطيات التي توصلت إليها جمعيته اقترب من اليقين إلى أن البناية موضوع الضجة لم تكن سكن ابن خلدون خلال مقامه بفاس عاصمة المغرب خلال الحكم المريني.
وعدد المصطفى عدداً من الأدلة التي يرى أنها تدعم استنتاجه ومنها أن الباحثين في تاريخ فاس يقولون إن منزل ابن خلدون كان يتألف من ثلاثة طوابق ويوجد أسفل درب الحرة حيث توجد بنايات يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر، بينما المنزل المعروض للبيع يتكون من طابقين فقط ويوجد خارج الدرب.
وأشار إلى غياب وثيقة أو نص تاريخي أو رسم عقاري يؤكد أن تلك الدار كانت لابن خلدون، لافتاً إلى أن المرشدين السياحيين وأصحاب الفنادق في المدينة القديمة بفاس درجوا على توجيه زيارات السياح إلى تلك الدار بوصفها منزل ابن خلدون رغم غياب ما يثبت ذلك غير الروايات الشفوية.
إلى جانب كل ذلك، يقول حسن مصطفى إن ابن خلدون الذي كان جزءاً من البلاط المريني ومقرباً من السلطان لا يمكنه أن يسكن داراً متواضعة كتلك، إذ لا يوجد فيها أي أثر معماري أو نقوش تدل على أنها كانت سكناً لشخص قريب من القصر.
ابن خلدون بفاس في مرحلتين
واستقر عبد الرحمن ابن خلدون بمدينة فاس في الفترة ما بين (755-764 ﻫ/ 1354-1362م) قادماً من تونس مسقط رأسه وذلك بعدما تعرض لأزمة كبيرة تمثلت في وفاة والديه بالطاعون الأسود الذي حل بتونس سنة 749 هجرية وهلك بسببه أعيان المنطقة ومشايخها.
وبحسب كتاب "رحلة ابن خلدون"، فقد كان ضمن طلبة العلم الذين انتقاهم السلطان المريني أبو عنان لملازمته، وأسند إليه منصب الكاتب لديه، وفي نفس الوقت واصل تعليمه على يد مشايخ عصره من المغرب والأندلس.
وبعد تولي السلطان المريني أبو سالم بن الحسن السلطة، عُين ابن خلدون في منصب كاتب سر السلطان لمدة عامين، ثم في منصب "خطة المظالم".
وبعد الانقلاب على السلطان أبي سالم الذي انتهى بخلعه وقتله، قرر بن خلدون الرحيل عن مدينة فاس مطلع سنة 764 ﻫ باتجاه الأندلس، غير أنه عاد إليها بحسب ما جاء في كتاب الرحلة سنة 774 هـ وغادرها بعد ذلك بعامين سنة 776 هـ .
ترك ابن خلدون فاس وذهب إلى قلعة أبي سلامة بالجزائر؛ حيث اعتكف فيها حوالي أربع سنوات، ألف خلالها كتابه المعروف المقدمة الذي وضع فيه نظريات جعلت منه المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع.
وزارة الثقافة تحسم الجدل
من جهته، كشف مهدي بنسعيد، وزير الشباب والثقافة والتواصل، مساء أمس الأحد، أن وزارته أنجزت تقريراً أولياً أظهر أن المنزل المذكور ليس هو منزل العالم ابن خلدون، لأن الرياض بني في القرن الـ19 في زمن العلويين، في حين أن العالم ابن خلدون عاش في زمن المرينيين. وهي المعطيات التي أكدها تقرير ثان طلبه الوزير بنسعيد.
وكشف الوزير بنسعيد الذي حل ضيفاً في برنامج "مع الرمضاني"، مساء أمس الأحد بالقناة الثانية المغربية، أن المديرية الجهوية للوزارة بفاس سوف تصدر بلاغاً توضيحياً في الموضوع يكشف نتائج التحقيق الذي أنجزته الوزارة في هذا الشأن.
لكن الوزير بنسعيد، عاد ليُوضح أيضاً أنه طلب من مسؤولي وزارته إيلاء العناية اللازمة لهذا الرياض، المتواجد بالمدينة القديمة بفاس والمحافظة على جماليته، ولو أن التحقيقات بينت أن الرياض المذكور ليس له ارتباط مباشر بالمفكر ابن خلدون.
واستبعد مصدر من وزارة الثقافة في حديث مع "عربي بوست" صحة ما يروج بشأن القيمة الرمزية والتاريخية لهذا البيت، وأوضح أن خبرة تقنية أنجزتها مصالح المديرية الجهوية للثقافة بجهة فاس نفت ما تم تداوله بشأن هذا البيت وسكن ابن خلدون فيه خلال مقامه في فاس في غياب وثائق مكتوبة أو شواهد، مضيفاً أن هندسة البيت لا تتطابق مع نمط البناء والزخرفة التي تميز البنايات المرينية في القرن الرابع عشر.
ومع ذلك يقول المصدر فقد أصدر وزير الثقافة المغربي تعليمات لإصلاح وتدعيم هذا البيت وإدراجه ضمن برنامج ترميم المنازل الآيلة للسقوط بالمدينة القديمة بفاس.