ختمنا المقالة السابقة بتساؤل حول إمكانية الحديث عن أُفول ظاهرة ما يسمى بالإسلام السياسي. قد يظهر هذا التساؤل من قبيل الصياغة الصحفية التي تثير، أو من قبيل المزايدات السياسية التي يشتم منها رائحة الاستفزاز، إن لم نقل الشماتة؛ إذ كيف يصح مثل هذا الحديث في مثل هذه الظرفية التي تكالبت على تيارات "الإسلام السياسي" أصناف شتى من المحن التي يأخذ بعضها طابع الظلم والعدوان؟
إن الحديث في مثل هذا الموضوع ليس وليد هذه الظرفية، ولا رد فعل على الانتكاسات التي طالت هذه التيارات، إنما هو استمرار لجهود بحثية وتأملية، فردية وجماعية، تمتد إلى أكثر من عقدين من الزمن؛ إذ تبين لنا مبكراً مسار منحى التيارات الإسلامية من خلال استنطاق الوجه الداخلي (وهو ما سميناه في المقالتين السابقتين بالفكرة أو القاعدة التصورية) في مرحلة صعودها وأوج عنفوانها.
فالحوارات التي صاحبت هذه التأملات والنقاشات التي أثارتها، أنضجت كثيراً من الخلاصات والاستنتاجات وأثْرَتْـها. ويمكن إجمالها فيما اعتبرناه مؤشراً على ما سميناه حينها بانحدار حركات النهوض، وهو ما ضمنّاه دراستنا الموسومة بـ"مشاريع النهوض الإسلامية بين الصعود والانحدار"، والتي نشرت في مجلة "المنعطف" عدد 18/19، سنة 2001.
فما الذي نقصده بأفول "الإسلام السياسي"؟
قبل التفصيل في الجواب على هذا السؤال لا بد من التنبيه إلى أن هناك فرقاً كبيراً لا يخفى على أحد بين الإسلام كدين موحى وبين الخطاب الإسلامي عموماً والتيارات الإسلامية خصوصاً (الإسلام السياسي)، والتي ليست سوى فهماً من فهومات للإسلام ترتبط بالزمان والمكان والإنسان. نقول هذا ونحن نستحضر بعض الكتابات التي تومئ بوعي أو بغير وعي بالتماهي بين الإسلام وبين الخطابات الإسلامية.
ويمكن رصد اتجاهين في هذا الباب؛ اتجاه يعتمد هذا التماهي ويوظفه لاستهداف الإسلام كدين، على المدى البعيد، لأنه في منظوره الأيديولوجي يعتبر أن أفول تيارات "الإسلام السياسي" هو دليل على أفول الإسلام-الدين، وعلى فشل منظومته في تدبير شؤون الحياة.
والاتجاه الثاني، وهو ما يهمنا، يوظف هذا التماهي للاختباء وراء الإسلام كمشترك ديني وثقافي للمجتمعات العربية والإسلامية، ولتسييج وضعه كتنظيم أو كاجتهاد بشري كي لا تطاله محاولات النقد والتقييم والتقويم والمراجعة، وهو بذلك يضفي على هذه الاجتهادات، فكرية كانت أم تنظيمية، صبغة الإطلاقية، وهي الصبغة التي لا يقبل بها إلا للنص الديني حصراً.
كما يعمل هذا الاتجاه على توظيفه سيكولوجياً لرفع المعنويات للتغطية على قصور الرؤية وفساد التقدير وسوء التدبير، وذلك بإثارة قاموس ديني يرتكز على معاني الابتلاء والمحنة التي لا تصيب إلا المؤمن الصادق وتمحّص إيمانه وهو على طريق الرشاد، متغافلين بذلك عن أن الصدق في الإيمان والرشد في الاتجاه يقتضي توفر شرطين متلازمين: الإخلاص والصواب، ذلك أن العمل إذا لم يتوفر فيه هذان الشرطان؛ فالإخلاص هو التجرد من نزوعات الدنيا وتحرير القوة من إرادة التدمير، والتوجه قلبياً إلى وجه الله.
أما الصواب فهو ما كان وفق مقتضيات العقل والعلم، والأخذ بكل ما يضعه العصر بين أيدينا من أسباب ووسائل، فالصواب مطلوب لإعطاء معنى للإخلاص، وذلك بترجمته إلى فعل في حركة الواقع، أما الإخلاص فمطلوب لحماية الصواب من نزوعات الشر والإفساد في الأرض، وذلك بتسديد الفعل نحو ما ينفع الناس.
بين "الإخلاصية" و"الصوابية"
فمما لا شك فيه أن لا أحد يجادل في "إخلاصية" التيارات الإسلامية (مهما كانت درجات هذا الإخلاص قلت أم كثرت)، ولكنها تفتقد إلى كثير من "الصوابية" (بالنظر إلى العصر الذي تعيش فيه)، فهي تزايد في كل ما يتعلق بالإخلاص وتتباهى به (نظافة اليد، مقاومة الفساد…)، ولكنها لا تزايد فيما يرتبط بالصواب إلا لِماماً.
إن الحديث عن الأفول إذن يضع الظواهر الاجتماعية والسياسية والحضارية في نصابها الحقيقي حيث يعتريها ما يعتري أي ظاهرة إنسانية سواء في عالم الطبيعة أو في عالم الاجتماع البشري، من الولادة إلى الموت ومن البداية إلى النهاية.
لذلك، فإن اعتبار التيارات الإسلامية اجتهادات بشرية لا تتماهى مع الدين تحقق لنا هدفين؛ أما الهدف الأول فهو التمييز في القراءة بين الدين كنص موحى وبين فهومات البشر بمحدوديتها (تيارات إسلامية) لتجنيب تحميل الإسلام كدين مسؤولية الفشل أو التراجع أو الأفول.
أما الهدف الثاني فيتمثل في وضع ملف التيارات الإسلامية على مشرحة النظر، وفتحها على النقد والمراجعة.
الأفول والتاريخ
وفق هذه الرؤية فإن الأفول الذي نتحدث عنه هو أفول لتجربة اجتهادية عبّرت عن مرحلة من تاريخنا الحديث والمعاصر، التي لن تكون هي الأولى أو الأخيرة، لأنها ببساطة تستجيب لقوانين التاريخ والاجتماع الإنساني، وبالتالي فإن الأفول لا يعني توقف الحركة الاجتماعية وموت النهوض الحضاري، وإنما انتهاء تجربة ونفاذ مفعولها لتفسح المجال لتجربة جديدة، مثلما أن موت الأجسام الحية يجسد نهاية وبداية في نفس الآن؛ نهاية الجسم في ذاته وبداية ميلاد جسم آخر بقوة مفعول التسميد الذي نتج عن تحلل الجسم بعد موته، وهذا ليس بالبعيد على المعنى الذي تذهب إليه الآية الكريمة "يُخرج الحيَّ من الميِّتِ ويُخرج الميِّتَ من الحيّ".
كما أن الأفول لا يعني اختفاء التيارات الإسلامية من الوجود، إنها ستظل حاضرة في الواقع، تؤثّث المشهد السياسي ككائنات "متحفيّة" لن يتعدى وجودها أن يكون ديكوراً يزين الديمقراطيات الشكلية أو متنفساً للاحتقان الاجتماعي، ولكنها لن تكون فاعلة لأنها منزوعة التأثير في أي عملية إصلاحية أو تغييرية لعدم نجاعة كثير من برامجها (انتهاء صلاحيتها بالنظر إلى تحديات المرحلة) وعدم صوابية أجوبتها (بالنظر إلى العصر الذي تعيش فيه).
ولهذا فإن الحديث عن أفول تيارات "الإسلام السياسي" تندرج ضمن السُّنن التاريخية والاجتماعية التي لا تخص هذه التيارات بذاتها، إنما تجري على كل التيارات النهضوية؛ فكرية كانت أو سياسية، التي تداولت على تجربتنا التاريخية.
في هذا السياق يمكن الحديث عن الأفول من خلال مجموعة من المحددات تتلخص في:
عدم التناسب بين الاجتهادات والواقع والتفاوت بين الأجوبة والأسئلة.
فمن هذا المنظور يمكن اعتبار التيارات الإسلامية، كغيرها من التيارات، مشروع جواب على تحديات مرحلة معينة وسياق محدد، وهو ما يمنح لها مبررات الوجود والاستمرار فضلاً عن أن هذا الأمر يشكل أساس مشروعيتها.
إنه وبناء على هذه المحددات خلصنا إلى أن منحنى تيارات ما يسمى بالإسلام السياسي يتجه نحو الانحدار، باعتبار أن أجوبة هذه التيارات واجتهاداتها، وهو ما يمثل الوجه الظاهر أو التعبيرات عن الوجه الباطن (الفكرة أو القاعدة التصورية)، لا تتناسب وأسئلة الواقع عربياً وإسلامياً وعالمياً، فضلاً عن أن القاعدة التصورية لا تنسجم مع طبيعة التحديات.
فما هي يا تُرى ملامح الفكرة التأسيسية لتيارات "الإسلام السياسي" (القاعدة التصورية)، وكيف تتجلَّى في برامجها ومشاريعها كأجوبة على الواقع الذي نعيش فيه؟ ولماذا لا تتناسب وأسئلة هذا الواقع ودون مستوى تحديات العصر؟
وللحديث بقية…
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.