لم تملك السيدة هدى إلا أن تلتزم الصمت لعدة ثوانٍ خلال مكالمتها الهاتفية مع صديقتها هناء، حين سألتها الأخيرة عن سبب تلقيها مصل سينوفاك الصيني المصنَّع بمصر حينما جاء دورها في التطعيم ضد فيروس كورونا، خصوصاً في ظل الشائعات المنتشرة بين قطاعات كبيرة من المصريين بأن مصل سينوفاك غير فعال نهائياً.
لم تجد هدى رداً على ما قالته لها صديقتها فالتزمت الصمت، لكن الوضع يظل قائماً، وهو أن اللقاح في مصر أصبح يخضع هو الآخر للمستوى الاجتماعي، الطبقتان الأرستقراطية والمتوسطة، تتلقيان جونسون أو فايزر أو في أسوأ الأحوال أسترازينيكا البريطاني، فيما البسطاء والفقراء لا سبيل لهم إلا في سينوفاك.
"اللقاحات الراقية" وسوق سوداء للحصول عليها!
هذا الهوس الطبقي الذي بدأ يظهر على نطاق واسع في مصر، وانعكس على أنواع اللقاحات والتطعيمات الواقية من فيروس كورونا، خلق سوقاً سوداء للتطعيمات "الراقية" التي يرغب في تلقيها المحسوبون على النخب أو المتمسحون فيها، كدلالة على انتمائهم للطبقة الراقية التي تخصها الحكومة المصرية باللقاحات المميزة والفعالة القادمة من أوروبا وأمريكا، بينما تمنح الآخرين من أبناء الشعب اللقاحات الصينية المصنعة في مصر التي يتداول كثيرون شائعات عنها بأنها قليلة الفعالية.
تحكي هدى بقية قصتها مع صديقتها فتقول: كان الهدف من اتصال صديقتها بها قبل أن تعرف أنها تلقت التطعيم بالفعل، أن تعرض عليها تلقي لقاح جونسون، فهي تعرف أحد العاملين في وزارة الصحة سوف يسهل لها الحصول على اللقاح الأمريكي الذي يتميز بفعاليته العالية، بجانب أنه جرعة واحدة فقط وليس جرعتين مثل باقي اللقاحات.
يتقاضى الرجل 300 جنيه مصري نظير تسهيل أخذ اللقاح، بجانب ثمن التطعيم البالغ 250 جنيهاً، وأنه فعل ذلك مع عدد كبير من صديقاتها ومعارفها من نادي الصيد الذي تملك عضويته.
ليس هوساً.. مسؤول سابق بوزارة الصحة يؤكد "طبقية التطعيم"!
بحثنا لنعرف مدى صحة المعلومة التي ذكرتها السيدة هدى، فتواصلنا مع مسؤول بوزارة الصحة المصرية ليؤكد علمه بوجود تعليمات من وزيرة الصحة المصرية د.هالة زايد للمسؤولين عن حملات التطعيم ضد كورونا، بتقسيم متلقي اللقاحات إلى ثلاث فئات، وهذا الكلام ليس جديداً ولكن منذ بداية حملات التطعيم بمصر في خريف العام الماضي (2020).
وحدد المسؤول السابق الفئات الثلاث من متلقي التطعيم، فقال إن أولاهم كبار الشخصيات والمسؤولين ورجال الأعمال، وهؤلاء يتلقون لقاح "فايزر" الأمريكي الألماني؛ نظراً إلى ارتفاع تكلفته وتكلفة نقله وتخزينه، ثم لاحقاً أضيف له لقاح جونسون الأمريكي.
الفئة الثانية تتلقى لقاح "موديرنا" الأمريكي أيضاً، وهم أفراد الطواقم الطبية وكبار السن وأصحاب الأمراض المناعية الخطيرة، بوصفهم الأكثر تضرراً من كورونا؛ وذلك لسهولة إجراءات نقله وتخزينه وانخفاض تكلفته.
أما الفئة الثالثة وهم عامة الشعب أو كما يوصفون في أدبيات الأغنياء بأنهم العامة والسوقة، فيقتصر تطعيمهم على اللقاحات الصينية (سينوفارم ثم لاحقاً سينوفاك) والروسية (سبوتنيك)؛ لرخص ثمنها وسهولة توافرها في أسرع وقت.
المتحدث باسم "الصحة" يوضح حقيقة تصنيف متلقي التطعيم
لكن المتحدث باسم وزارة الصحة، د.خالد مجاهد، نفى هذا الأمر تماماً، مؤكداً أن الأمر لا يتجاوز كونه شائعات، تعود إلى شهر يناير/كانون الثاني من العام الحالي (2021)، حين انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي خريطة زعموا أنها مسربة من وزارة الصحة تقسم الفئات التي تتلقى التطعيم إلى 3 فئات، وهو أمر غير صحيح. وأضاف: "أتحدى من يثبت أن الوزارة لديها تصنيف لمتلقي اللقاحات، سواء حسب الأحياء السكنية الراقية والشعبية وما إلى ذلك، أو حسب الوظائف أو الثروات أو أي معيار"، مؤكداً أن الدولة تحملت عبئاً مادياً هائلاً لتوفير اللقاحات مجاناً لكل المواطنين.
وتساءل مجاهد باستغراب: "ما الذي تستفيده الوزارة من تصنيف الراغبين في التطعيم وتمييز فئات عن أخرى، إذا كان التطعيم نفسه مجانياً؟! أي إنه لا الوزارة ولا مجلس الوزراء كله سيحصل على أي استفادة مادية من ذلك التصنيف؟!"، وأضاف: "أما في حالة ما إذا كان التطعيم بمقابل مادي، ففي ذلك الوقت سوف يسعد الوزارة توفير التطعيمات مرتفعة السعر لكل من يريدها، لأن ذلك سيعني عدم تحميل ميزانية الصحة أية أعباء إضافية في مسألة التطعيم، وتوجيه كل الميزانية لتطوير وتحسين المستشفيات والمراكز الصحية التابعة للوزارة في أنحاء الجمهورية".
وحول حقيقة وجود سوق سوداء لترويج أنواع معينة من أمصال التطعيم ضد كورونا، وواقعة اكتشاف الآلاف من عبوات أحد اللقاحات ملقاة في ترعة بمحافظة المنيا، قال مجاهد إن الوزارة ليست لديها أي تفاصيل حول الأمْرين، خاصةً أن قضية اللقاحات الملقاة بالترعة في عهدة الشرطة والجهات القضائية التي تحقق في الأمر، وسوف تعلن عن نتائج التحقيقات بعد الانتهاء منها".
زيادة غير مبررة في رسوم إصدار شهادات التطعيم للمسافرين
تنفي مصادر حكومية وجود سوق سوداء لبيع اللقاحات، فهناك جهات في الدولة مسؤولة عن مراقبة هذه الأمور وضبطها، مناشدةً المواطنين الإبلاغ فوراً عن أي شخص متورط في بيع اللقاحات بالسوق السوداء، لكنه ورغم نفي وزارة الصحة الصريح، فإن هناك من يؤكد العكس وأن المسألة تحولت إلى "بيزنس" لدى الجهات المسؤولة نفسها.
وحسب مسؤولين رفيعين بمجلس الوزراء، فإن وزيرة الصحة تلقت تعليمات بتوفير موارد مالية للمساعدة في تدبير ميزانية التطعيم، وهو ما دفعها إلى التفكير في استحداث مراكز لإصدار شهادات مؤمنة لمن تلقوا التطعيم ويرغبون في السفر إلى الخارج.
المشكلة هنا ليست في وجود المراكز نفسها، أو حتى في تحديد تسعيرة لإصدار تلك الشهادات التي تصدر في أغلب دول العالم الأخرى بالمجان، ولكن في الفكرة التي تسيطر على المسؤولين في الحكومة باستنزاف المواطنين الذين تقتضي ظروفهم الاحتياج إلى خدمة حكومية، فأسعار كل الخدمات الحكومية زادت بشكل كبير جداً في السنوات الأخيرة، دون تقديم أي مزايا إضافية تبرر هذه الزيادات الخرافية
وعليه قررت وزيرة الصحة زيادة رسوم إصدار الشهادة المؤمنة للمسافرين إلى الخارج بغرض السياحة من 250 جنيهاً فقط إلى 1000 جنيه، أي إن الزيادة بنسبة 400% دون مبرر أو سبب سوى الثقافة التي سادت في الفترة الأخيرة بأن تضع الدولة يدها داخل جيوب مواطنيها.
فإذا كان المواطن يملك المال للسفر من أجل السياحة، فلماذا لا تفرض عليه الدولة دفع مبالغ لها؟!
وكانت وسائل الإعلام المصرية قد نشرت يوم السبت 16 أكتوبر/تشرين الأول 2021، تعليمات جديدة من وزارة الصحة والسكان برفع قيمة استخراج الشهادات المؤمنة للحاصلين على لقاح كورونا، لتصبح ألف جنيه للمسافرين بغرض السياحة، فيما ظلت قيمة الشهادة نفسها للمسافرين لغير السياحة بـ250 جنيهاً، و25 دولاراً لغير المصريين، كما حددت قيمة استخراج الشهادة للمصريين غير المسافرين بـ100 جنيه فقط.