بعد مئة سنة ونيّف على تأسيس دولة لبنان الكبير وبعد أكثر من ثمانين عاماً على استقلال هذا البلد، نرى الوحدة الوطنية ككرة رمل كلما تدحرجت ازدادت تفتتاً، بحيث باتت الهوية الوطنية اللبنانية مجرد أشلاء متناثرة على موائد الطوائف.
لذلك استوقفنا العرض المغري من حزب الله لحماية المسيحيين الموارنة من بطش حزب القوات اللبنانية، "حزب الموارنة". وبات منتظراً أن يتولى "حزب الموارنة" رد الجميل بعرض حماية الطائفة الشيعية من توحش حزب الله بالمقابل. هذا النمط من الخطاب السياسي الموغل في الطائفية يدل على أن المنطق بات يسخر منا كلبنانيين وأن للتاريخ مهازله التي تنتهي.
القاضي البيطار في الميزان
وبالتطرق إلى قضية انفجار مرفأ بيروت، التي هي محور وأساس الصدامات العنيفة التي وقعت بين حزب الله وحزب القوات اللبنانية مطلع الأسبوع الجاري، فهناك من يعتبرها مجرد جريمة تستحق الاستنكار ومن ثم تغلق ملفاتها. لكن الحقيقة عكس ذلك تماماً، حيث إن ما حدث هو كارثة إنسانية تستوجب التضامن اللامشروط والتحقيق النزيه في الأسباب وتحديد المسؤولية بدقة ومعاقبة المخطئين لمنع حدوثها مرة أخرى على الأقل.
وبغض النظر عما ينسب من صفات رائعة إلى المحقق العدلي القاضي البيطار، إلا أنه لا بد من التطرق بموضوعية إلى التحقيق القضائي في انفجار المرفأ.
نجد في الوقائع أن مجلس الدفاع الأعلى لم يمنح الإذن لمثول اللواء توني صليبا أمام المحقق العدلي، كذلك الأمر رفض وزير الداخلية السابق وتبعه وزير الداخلية الحالي مثول مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم أيضاً ومع ذلك لم يصدر المحقق العدلي أية مذكرة توقيف بحق الجنرالات. فلماذا أصدر القاضي البيطار مذكرات توقيف بحق وزراء ونواب رغم تواريهم خلف حجج ومبررات، قد تبرر لهم عدم المثول أمامه.
إضافة إلى ذلك، رئيس الجمهورية اللبنانية، ميشال عون، يبدو أنه كان على علم بوجود مواد خطرة في المرفأ، في نفس الفترة التي تبلغ فيها رئيس الحكومة السابق حسان دياب عن وجود تلك المواد عشية الانفجار المشؤوم، فلماذا يستدعي هذا القاضي من كان رئيساً للوزراء ولا يستدعي من هو رئيس للجمهورية؟
هذه الوقائع كافية كدليل على وقوع المحقق العدلي في فخ التحيز ولو قليلاً، علماً أنه لو أراد كشف الحقيقة بمهنية وتجرد كان عليه في هذا الجو المتشنج والمشحون متابعة التحقيق بسرية مطلقة وتكتم شديد ودون إصدار مذكرات توقيف بحق أناس قد لا يكون لهم علاقة بشكل مباشر في إشعال فتيل الانفجار المشؤوم أو استيراد مواده بل مجرد تقصير وإهمال يستدعي المساءلة دون تشهير بشخوصهم وتحويله لـ"كبش فداء".
وكان من الممكن إصدار طلب توقيفهم بعد صدور البيان الاتهامي. لكن على ما يبدو دغدغت بعض أحلام مخيلة القاضي البيطار فظن أنه من خلال هذا الملف سيدخل التاريخ من باب مكافحة فساد رجال السياسة، كما فعل القاضي الإيطالي أنطونيو دي بييترو في تسعينيات القرن الماضي في إيطاليا. لكن غاب عن ذهنه أن إيطاليا دولة ذات سيادة وهي دولة مؤسسات على عكس لبنان، الدولة الفاشلة التي اكتملت كل معايير فشلها في عهد فخامة الرئيس ميشال عون، حيث أصبحت الحكومة المركزية عاجزة عن فرض سلطتها على ترابها الوطني وتأمين حدودها المعترف بها دولياً، إضافة إلى الانقسام المجتمعي وحدَّة الصراعات الدينية والمذهبية. ناهيك عن الازدياد المضطرد في نسبة الفقر والبطالة والجريمة والمخدرات والسرقة وتنامي الهجرة وركود الاقتصاد وانهيار قيمة النقد الوطني وفقدان الثقة بالدولة ومؤسساتها وزيادة التدخل الخارجي واستعار الصراعات بين النخب الحاكمة.
في شبه الدولة هذه هل يعقل أن يكشف عن الجهة التي نظمت رحلة الباخرة، السندباد التي حملت نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت؟
هل يعقل أن نعرف من هم الأشباح الذين تولوا أمر نقل هذه المواد واستخدامها بعد صدور قرار قضائي بحجزها؟ هل يعقل أن يعرف ما سبب انفجار ما تبقى منها؟
أسئلة دون إجابات
حتماً ستبقى هذه الأسئلة دون إجابات شافية، لأن جميع الأطراف السياسية متواطئة على طمس الحقيقة، فلا المعارضة تفهم من تعارض ولا الموالاة تفهم من توالي، وما نشهده اليوم هو سوق عكاظ للشتائم والتحريض وزرع الأوهام بالفرج بعد الانتخابات النيابية التي أزعم أنها لن تتم رغم كل يجري من تحضيرات لها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.